Culture Magazine Monday  02/04/2007 G Issue 193
فضاءات
الأثنين 14 ,ربيع الاول 1428   العدد  193
 
موت الرقيب
أمل زاهد

 

 

سعدت بزيارة معرض الرياض للكتاب هذا العام وحقيقة أبهجني وأسعدني أن أرى في أروقة هذا المعرض ما حلمت دوما أن أجده من الكتب في بلادنا الغالية. وكنت قد اعتدت وغيري استغلال فرصة السفر لشراء الكتب ثم دسها في ثنايا الملابس وطياتها خوفا من أعين موظفي الجمارك متمتة بدعوات خافتة أن لا أتعرض إلى قلب محتويات الحقيبة وأن أمر بسلام دون مساءلة أو مشاكل. وكنت أمارس ذلك التحايل أنا وكثير من عشاق الحرف والكلمة والكتاب في المملكة مجبرين، كوننا نؤمن بأنه ليس من حق أحد ممارسة الوصاية على عقولنا وتحديد ما نقرأه وما لا نقرأه، كما أنه من حقنا مطالعة كل ما تتفتق عنه قرائح الكتاب والمؤلفين من أفكار ورؤى، وقراءة ما استجد واستحدث في الأدب والشعر والفكر دون منع من رقيب أو حجر من وصي، وأننا قادرون على تمحيص الأفكار وغربلتها ونبذ الطالح منها.

وقد أثلج صدري انقشاع سقف منع الكتب - تقريباً - في معرض الرياض لأن في هذا دليل دامغ على الرغبة في إصلاح المشهد الثقافي والقضاء على الازدواجية التي باتت سمة من سمات ممارسات المثقف والمثقفة في بلادنا، فهو يلجأ للخارج كي يشتري كتبه كما يلجأ للخارج أيضا لطباعة كتبه. ولعل خطوة تهشيم حائط عزل الكتب تأتي كبداية لتهشيم حواجز أخرى كقضية لجوء الكاتب السعودي لطبع كتبه في الخارج. كما نحلم بأن يأتي اليوم الذي يتم فيه القضاء على كافة أنواع الازدواجية التي يضطر كثير منا لممارستها ونحن لها كارهين فليس أمامنا خيار آخر! يلح زمننا الحالي بحقيقة فرضها على مشهدنا الثقافي المد الفضائي الجامح والانفتاح الرقمي الكاسح، وقد لمسنا تلك الحقيقة بأيدينا ورأيناها بأعيننا تحطم كل حواجز المنع وسدود الحجر وتشيع الرقيب والرقابة إلى مثواهما الأخير، فموت الرقيب بات حقيقة مرئية وواقعاً ملموساً! فما أن يعلن عن منع كتاب ما في أي قطر عربي حتى تزداد جاذبيته وتتضاعف رغبة الجميع في اقتنائه و قراءته والاطلاع على محتوياته، ثم لا يلبث أن ينشر الكترونيا ويصبح بالإمكان تحميله وتداوله ونشره. وما أن يمنع أيضاً مقال من النشر في المطبوعات الورقية حتى ينتشر بين مستخدمي الانترنت كانتشار النار في الهشيم من شرق عالمنا العربي إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه! بل إنه يصل حتى إلى المغتربين الناطقين باللغة العربية الموزعين على المنافي والمهاجر أو الآخرين اللذين يطلبون العلم في العالم الغربي. وبات عنوان منع من النشر أكبر دعاية مجانية من الممكن أن يظفر بها كتاب أو مقال، فهذا المنع يلمع الكتاب والكاتب ويعطيه على طبق من ذهب شهرة واسعة وانتشاراً كاسحاً، ويشد إليه الأنظار ويرغب فيه من حيث يراد أن ينفر منه! وقد يلجأ بعض طالبي الشهرة الجوفاء إلى شعار منع من النشر حتى يجذب القراء إلى منتجه مع هشاشة محتواه الفكري وهزال محتواه المعرفي!

وحتى حجب بعض المواقع والجرائد والمجلات الالكترونية يمنحها شهرة واسعة ومقروئية كبيرة، ويدفع مستخدمي الإنترنت إلى اجتراح وسائل لفك الحجب والوصول إلى الصفحة، ويتم ذلك بطرق بسيطة لا تحتاج إلى كبير جهد أو كثير معرفة وخبرة وقد يؤدي لك هذه الخدمات أصغر أبنائك متطوعاً وهو منتفخ بالزهو منتشٍ بالفخر، فلا الحجب وسيلة ناجعة لمنع الأفكار ولا المنع قادر على قصقصة أجنحتها وتحجيم قدرتها على التحليق!

تبقى إشكالية تأثر شريحة الشباب في طور التكوين والتشكل بالأفكار الضارة والرؤى المضللة، وانتشار السطحية والاهتمام بالهش والهزيل من الروايات التي تخاطب الغرائز! وهنا لا يكون الحل إلا بتربية الذائقة الجمالية عند النشء والرقي بوجدانهم والارتفاع بمستوى وعيهم حتى يرفضوا الغث ويربأون بأنفسهم عن تضييع الوقت في قراءة سفاسف الأفكار ووضيع الأدب! وهجمات العولمة الثقافية بإيجابياتها وسلبياتها باتت أكبر من قدرتنا على الصد أو المنع، ولا يمكن أن نطوق عقول شبابنا ونضعها في زنزانة مانعين عنها الأفكار الجديدة! ولكن بإمكاننا دوماً تزويدهم بالآليات الحامية لعقولهم، فالحرية قد تجلب معها في البداية بعض الفوضى والرغبة في الاطلاع على كل شيء دون إلقاء اعتبار لقيمته المعرفية، ثم لا تلبث الموجة أن تنطفئ ولا تلبث أن تهدأ حدة تلك الرغبة الجامحة لمشاهدة كل شيء والاطلاع على كل شيء لتصل إلى حدود التوازن والاستقرار، ولا تلبث أن تتكون تلك القدرة على رفض الغث والأجوف من الأفكار. والمنع في حد ذاته أكبر محفز على التحايل واللجوء إلى الدهاليز الخلفية - كما أسلفت - وهو أيضاً إحدى الوسائل التي يتم بها الترويج لبعض الكتب الهزيلة، ولو تركت دون منع لما تشوق لقراءتها أحد ولما حازت على تلك المقروئية العالية!

تكوين العقلية النقدية التي تسائل ما تقرأ وتغربله وتمحصه وتفحصه وتفلتره إحدى أهم الآليات التي يجب غرسها وتخصيب العقول بها، فهذه العقلية وحدها هي التي تحمي شبابنا وشاباتنا من دخيل الفكر وهزيل المعرفة. وهذه العقلية وحدها هي التي ستقف قوية شامخة في وجه أية محاولات للعبث بعقول أبنائنا وبناتنا وليس مقص الرقيب أو جدار العزل هو القادر على حمايتهم!

إثارة الأسئلة وتحريض العقول على التفكير والنقد هو الحل في عالم انهارت فيه الحدود الثقافية وتحطمت فيه الحواجز الجغرافية.. سواء كنا لذلك رافضين أم مرحبين وقابلين فقد حدث ولم نعد نملك له رداً أو منعاً، وقد يكون ما يحمله لنا المستقبل في جعبته من تقنيات اتصال حديثة وقدرة على الاختراق الثقافي أكبر بكثير مما تستطيع مخيلتنا أن تصل إليه!!

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7446» ثم أرسلها إلى الكود 82244

Amal_zahid@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة