Culture Magazine Monday  02/04/2007 G Issue 193
فضاءات
الأثنين 14 ,ربيع الاول 1428   العدد  193
 

من العشق إلى العقل
سجالات عبدالقدوس الأنصاري عن العربية (1-2)
د. صالح زيَّاد

 

 

1 - العشق والعقل:

عبد القدوس الأنصاري عاشق للذات الحضارية والثقافية، عاشق للعربية وللتراث، ويستوي أن نتخذ أدلة هذا العشق من مؤلفاته العديدة مجموعة في اختصاص العربية وفاعليتها، أو من طبيعة رؤيته التي يستبطنها هاجس اللوعة وغبطة الهم ولذاذة المفارقة تجاه هذا الاختصاص، أو طابع الدفاع والتصدي الذي يجاوز جهده التأليفي بوصفه فرداً إلى جهد جماعي تأتلف له الأقلام وتتساقى القرائح، من خلال إنشائه وامتلاكه لمجلة (المنهل)، وقد غدا توارثها في عقبه بإصرار واتصال علامة على أن عشقه كان من الحرارة والوهج إلى الدرجة التي غدا بها إرثاً جينياً يمتد في الزمن علامة فارقة لأصالة البنين والأحفاد. إن ذلك كله وجوه مختلفة للعشق، بقدر ما هي وجوه متعددة للمعاناة والبذل والتعب، وهي وجوه معبأة بوعد المستقبل ونُذُره بقدر ما تنطوي على نوعية ما من الانكباب على الماضي!.

لكن العشق اسم عاطفي يجافي الموقف المعرفي؛ لأنه يرهن الرؤية إلى الذاتية من حيث هي انحياز وتعصب. ومن ثم يغدو موقف العاشق موقف انفراد وتوحد، في جهة إنتاجه من المعنى ما لا يهم غيره، وفي جهة رغبته في ألا يتشارك معه موضوع عشقه أحد سواه!. فهل يعني ذلك أن نتاج عبد القدوس الأنصاري هش علمياً وغير موضوعي؟!. هل يعني عشقه ذاتية متحيزة ومتعصبة تهتز بها الرؤية ويفقد النظر منطقيته ومنهجيته؟!. إذن، ما جدوى التعب؟!.

لا بد، هنا، من أن نكون بصدد عشق معرفي أو معرفة عاشقة تستحيل بها العواطف إلى نظر عقلي، والموقف إلى جدل منهجي، وتتسع الرؤية للذات وبها لاستيعاب ما هو بالضد مما تتصف به الذات في موقف عشقها من المعارضة للتغير والمقاومة للحركة والنمو والصيرورة؛ إذ المعرفة، دوماً، كالحياة يقتلها السكون ويعوقها الجمود، ومع ذلك فلا معرفة دون عشق، ولا عقل دون إرادة ورغبة وتفاعل؛ فالعقل - كما قال الشاطبي - (غير مستقل ألبتة) وهو - بحسب ابن حزم - (عَرَضٌ محمول فيما أحدثه الله). العقل - إذن - لا يعمل دون أن يكون عاشقاً، كأن عشق العقل للنظر والبحث والاستنتاج علامة حريته لا جبره وحيويته لا موته.

2 - اكتشاف الذات

وعقلية السجال والجدل

لقد كان عشق عبد القدوس الأنصاري للعربية، وعناء اشتغاله الدؤوب على إرثها وواقعها، وتصديه للدفاع عنها، دلالة واضحة على موقف حضاري وثقافي لا ينفصل عن دلالة اشتغاله - إجمالاً - بلوازم الذات العربية في حقول الآثار والتاريخ والإعلام والأدب. وهو موقف عقلاني بقدر ما هو موقف حميمي تجاه الذات، وبقدر تلبسه بالهوية والانتماء. وعقلانية هذا الموقف فضلاً عن صفته الحضارية والثقافية كامنة في العلاقة المقررة أكاديمياً بين الذات الحضارية واللغة؛ إذ يربط علم اللغة الحديث بين اللغة والفكر بشكل عضوي، ويقرر حتمية انتماء الإنسان إبداعياً إلى لغته الأم، وإن أجاد لغات أخرى. ولم يسجل التاريخ قط أن أمة حققت التنمية والتقدم الحضاري الحقيقي بلغة غيرها من الأمم.

هذا الموقف الذي اتسع بفردية عبد القدوس إلى الجمعية، وبذاتيته إلى الموضوعية، هو القضية الجوهرية لكل القضايا والموضوعات المختلفة التي كتب عنها أو اشتغل بها، ومن ثم اقترنت كثرة ردوده وسجالاته وتصحيحه ومراجعاته اللغوية، من حيث دلالة اشتغالها باللغة على معنى الإحالة على ذات اجتماعية وتاريخية - مع التأليف في التاريخ والآثار والإعلام والأدب، بجامع اللغة بوصفها فعلاً إنسانياً لذات حضارية تنطقها الأفعال والشواهد الحسية والزمنية مثلما ينطقها اللسان والبيان.

وبقدر ما برز هم اللغة عند عبد القدوس بدلالة مزدوجة على الموضوع والذات, وعلى الذات والآخر، فقد برزت في مؤلفاته وكتاباته بنية الجدل والسجال والمناظرة. وهي بنية تحيل - أيضاً - على ازدواج الذات والآخر، والذاتي والمعرفي؛ لأن سمة المواجهة وطابع التعارك لا يحدثان دون الشعور بالذات أمام آخر من وجه، والمعارضة والنقض وإرادة التصحيح أو الدفاع تحيل على مقتضيات الاستدلال ومنطق العقل والمعرفة من وجه آخر.

ولا تختلف الردود والمعارك والمراجعات اللغوية، في دلالتها على بنية الجدل والسجال، عن بنية التناظر والتعارض، بين التعليم المحلي والتعليم الأجنبي، التي انطوت عليها محاولته الروائية الرائدة (التوأمان) (1349هـ -1930م )، أو مؤلفاته في التاريخ والآثار التي قامت على اعتراضه على رؤية ما في هذا الحقل المعرفي، فقد بدأ يهتم بالآثار والتاريخ - حسبما روى عنه عبد الرحمن الطيب الأنصاري - في إثر ما لاحظه من أن فيلبي كان يركز في دراساته الأثرية المحيطة المدينة المنورة على خدمة أغراض معينة في ذهنه، كما أنه لا يجوز أن يترك فيلبي وأمثاله من الرحالة المستشرقين ينقلون إلى العالم الخارجي ما نحن أدرى به وأعلم.

وجاء إصداره لمجلة المنهل وقيادته لتحريرها في اتجاه هذا المعنى السجالي الحفي بالجدل والحوار والمعبأ بروح المواجهة سواء من حيث هي عمل صحافي ثقافي لا تتقد ناره دون المناقدة والمراجعة وتفاعل المقولات وعطف بعضها على بعض، أو اهتمامه بالمختلف والمشاكس الذي يصدع نمطية الواقع الثقافي آنذاك، فينشر الشعر الحر والقصة القصيرة والترجمة من الأدب العالمي، ولا يقل عن ذلك دلالة استفتاءات المنهل الشهيرة حيث توجه الأسئلة عن موضوع ما إلى عدد من الأدباء السعوديين لتتبارى إجاباتهم في الكشف والتحليل والترائي فاتحة نوافذ الاختلاف والتعدد.

3 - اللغة والنهضة

لم يكن الاهتمام بالعربية لدى عبد القدوس الأنصاري اهتمام معلم نحو وبلاغة تسره فصاحة المتحدثين والكتاب لغوياً، ويدافع عنها دفاع من تعنيه لقمة عيشه، بل هو اهتمام المفكر النهضوي الذي تعني اللغة عنده الوعاء الثقافي والمنظار الذي يتحدد به التفكير والرؤية للعالم، في مدار من المماهاة بين الذات القومية واللغة، وهو ما يطابق قانون ابن خلدون اللغوي، في قوله: (إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم). بالمعنى الذي يمتد إلى نفي الغلبة عن أي أمة لا تمتلك لغة تميزها، وإلى إنكار المكانة وجحود المنزلة.

ولا تظهر رؤية عبد القدوس هذه في سياق تقريري بارد، وإنما في سياق صارخ يتدفق كالحمم في مواجهات وردود على من يقرأ لديهم شيئاً من الاستهانة بالعربية أو وصفها بالصعوبة أو تنحيتها عن الاستعمال. وكأن فكرة العلاقة بين الوجود واللغة، والتقدم واللغة، هي المعنى الذي يريد عبد القدوس أن نفهمه من سجالاته، وهي العلة التي تدفعه إليها، مازجاً بين عشقه وعقله، أو مانحاً ولعه المشغوف بالعربية عينين من سببية العقل ومنطق مجاوزته إلى كلية الرؤية وشمولها.

ففي خاتمة أحد ردوده المطوَّلة، على شكوى أحد الكتاب من صعوبة قواعد العربية، يقول عبد القدوس:

(فلغات الأمم رمز حياتها ورمز أمانيها ورمز مجدها، ولا مجد لأمة ضحّت بلغتها على مذبح الأهواء والأغراض والآراء المستوردة.. صونوا نهضتكم بصيانة روحها العالية، وقلبها النابض، وعمودها الفقري الغالي، وإلا تقطعت بكم الأسباب فابتلعتكم الذئاب).

إن الرمزية التي يختارها عبد القدوس، هنا، وصفاً للغة في علاقتها بحياة الأمة وأمانيها ومجدها - والأمة تجريد لمجموع أبناء اللغة - تعني الوعي بظرفية اللغة لمن يتكلمها، في العلاقة بالمستقبل ( الحياة - الأماني ) وفي العلاقة بالامتياز والذّكْر التي هي نتائج تنافس وتغالب، فما المجد بلا ذات تدرك معنى الاتصاف به؟!. ولهذا استحالت اللغة، في وصف عبد القدوس، بعدئذ، إلى: (روح النهضة) و(قلبها النابض) و(عمودها الفقري)، وهي أسماء دالة حيوياً، بما يجعل اقتران دلالة اللغة بالحياة، لديه، آلية معرفية، يستعيرها العقل، لممارسة الاستكشاف لضرورة اللغة للوجود والإبداع والنهضة، وآلية محاجة وإعلام ودعاية في الوقت نفسه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة