Culture Magazine Monday  02/04/2007 G Issue 193
فضاءات
الأثنين 14 ,ربيع الاول 1428   العدد  193
 

الضياع الأول*
فيصل أكرم

 

 

في التسعينيات الهجرية - السبعينيات الميلادية - كانت السنة الدراسية تنتهي بنهاية شهر شعبان وتبدأ ببداية محرم.. وحين انتهى (سيف) من السنة الأولى الابتدائية محققاً في نجاحه الترتيب الأول.. كان العام الهجري 1394 يمضي سريعا نحو نهايته.. فهذا شهر رمضان، بخاصة في مكة المكرمة، يمر كالومضة ما بين سهر وتراويح - بجوار الكعبة المشرفة - والتجمعات الشللية في كل حارة من حواري مكة المعروفة بالصخب والحيوية والتجدد.

ثم ما يلبث أن يأتي العيد.. عيد الفطر.. الذي يعتاد فيه الكبار على تقديم العيديات (وهي عبارة عن نقود، كريالات ورقية في الغالب) لكل الأطفال والصبية الذين لم يصلوا إلى مرحلة الاعتماد على النفس بعد.

غير أن هذا الطفل (سيف) كان شاذاً في مثل هذه المواقف؛ إذ كان يرفض ويبكي ويهرب من أمام كل شخص يحاول أن يقدم له (العيدية) برغم أن شقيقه الأكبر منه بثلاث سنين كان لا يتورع عن اختطاف العيدية من كل ضيف وزائر.. بل إنه كان يختطف عيدية سيف أيضا، عندما كان سيف يرميها على الأرض ويهرب!

أتى موسم الحج..

مع أن عائلة سيف تمتهن (الطوافة)، وهو ما يجعل جميع أفراد الأسرة مشغولين بموسم الحج كل عام، غير أن هذا العام كان مختلفا؛ ذلك لأن الأسرة كلها قررت أن تؤدي فريضة الحج.. وبالطبع لم تكن هذه المرة الأولى للأسرة، ولكنها كانت المرة الأولى بالنسبة لسيف الذي يخطو الآن نحو السادسة من عمره..

ذهبت العائلة كلها لأداء شعائر الحج، في (منى) أولاً، مبيت ليلة واحدة، ثم الصعود إلى عرفات.. وكان سيف سعيدا بهذه الأجواء التي كان يسمع بها ولم يعشها من قبل.. وكان قد اصطحب معه مجسمات صغيرة لسيارات ملونة، كان قد اشتراها بجزء من (العيدية) التي تلقاها من أمه؛ إذ كان لا يفرح بعيدية إلا إذا أتت من أمه..

وهناك.. في رمال عرفات خارج المخيم.. عمد سيف إلى دفن تلك السيارات، حتى لا يسرقها منه أحد وهو نائم، فقد كان يسمع التحذيرات من السرقات التي كانت تتم في مخيمات الحجيج.

الوقت الآن صباحا، وسيف يلعب مع شقيقه الأكبر منه بثلاث سنين.. راحا يلعبان لعبة اسمها (مكشوف)، وطريقتها أن يختبئ واحد ومن ثم يبحث عنه الآخر.. فأغمض سيف عينيه حتى يتيح لأخيه أن يختبئ جيداً.. وعندما بدأ سيف البحث عن أخيه.. راح يتجول بين الخيام.. يبتعد شيئا فشيئا عن الخيام.. يستمرئ المشي على الرمال.. الشمس بدأت تشتد عليه وحرارتها تقسو بالضرب على رأسه المكشوف وهو يسير.. توقف سيف ونظر خلفه فلم يجد إلا الرمال.. يمينا ويسارا لا شيء سوى الرمال.. بدأ العطش يشق حنجرته جفافاً.. لم يعد قادرا على الصياح أو المناداة.. لم يجد بدا من المشي.. لم يعد يدري في أي اتجاه سيكمل المشي..

مشى الصغير والشمس عمودية فوقه حتى أسقطته بلهيبها الصيفي، فغاب عن الوعي.. لم يصح سيف من إغماءته إلا بعد أن غابت الشمس تماماً.. أفاق على صوت الكلاب التي كانت تنبح على مقربة منه.. لأول مرة يشعر سيف بأنه وحده مع الكلاب.. كان صوت الكلاب مألوفا لديه، فشوارع مكة كانت لا تخلو من الكلاب السائبة، وأصواتها كانت تملأ ليالي مكة بالأنس!

ولكنّ سيفاً الآن وحده، يكاد الظمأ أن يقتله، وأصوات الكلاب مخيفة جدا، والليلة كانت ظلماء لا قمر فيها.. وربما لحسن حظه أنها كانت ليلة ظلماء.. فمن شدة الظلام استطاع أن يلمح بصيص ضوء عن بُعد، فقفز يركض إليه وهو يردد بينه وبين نفسه (أنا الناجح بترتيب الأول، لن أخاف من كلاب فاشلة)!

اقترب سيف من مصدر الضوء.. فانتبه أنه مكان يضم مجموعة من (العسكر).. وكان سيف يسمع بالعسكر ولم يرهم من قبل.. كان يسمع عنهم أنهم أناس قساة.. لا يقع بين أيديهم إلا المجرمون.. فشعر سيف بمزيد من الخوف منهم.. ولكنه ظمآن.. كيف سيتصرف؟؟

لم يفعل سيف شيئا، وقف حائراً.. فانتبه لوجوده أحد العسكر، وصاح به: من أنت وأين أهلك؟

هرب سيف..

ونظر خلفه، فلم يجد أحداً يركض وراءه!

فعاد ثانية.. وعاد العسكري يسأله: من أنت وأين أهلك؟

أجابه سيف بصوت مختنق: (أنا عطشان، أبغى أشرب مويه).

قال له العسكري: تعال اشرب!

قال سيف: لا!

استغرب منه العسكري، ويبدو أن قلب العسكري كان حنوناً ومتعاطفاً مع موقف سيف.. فراح يبحث عن شيء يضع به بعض الماء للطفل البائس، ولكنه عاد وقال: (اسمع يا ولد.. لا توجد عندنا سوى كاسة واحدة مربوطة بسلك في الترمس، كيف أرمي لك بالماء وأنت بعيد)؟؟

لمح سيف قوالب الثلج حول (ترمس الماء) فقال للعسكري: (الله يخليك ارم لي وصلة من هذا الثلج)

كان العسكري مستعجلا على ما يبدو، فما كاد يسمع طلب سيف حتى رمى له على التراب قطعة من ذلك الثلج!

اختطف سيف قطعة الثلج وهي مخضبة بالتراب، وراح يستفّ منها الماء ويمتصه.. (ربما من أجل ذلك الموقف، تأثر سيف عندما كبر وقرأ لامية العرب للشنفري، التي جاء فيها:

1سعليّ من الطول امرؤ متطوّل)..

ولذلك أيضا ظل يشعر طيلة حياته بالتعايش الحقيقي مع لامية العرب للشنفري)!

في هذه الأثناء، كانت هناك.. في مخيم عائلة سيف.. مناحة ما بعدها مناحة.. إذ كانت والدة سيف تبكي حتى كادت أن تفقد بصرها.. وكان والد سيف يرسل كل موظفيه بكل الاتجاهات بحثا عن ابنه الصغير.

لم يكد سيف أن يرتوي من قطعة الثلج التي ذابت سريعا من سخونة الجو، حتى لمح السيد (محمد حسين) الذي كان يعمل موظفا لدى والده، وقد جاء إلى مقر المعسكر هذا يسألهم عن الطفل الضائع..

صاح سيف بأعلى صوته: (أنا هنا أنا هنا).. ركض إليه محمد حسين وأخذه من يده وأركبه خلفه على الدراجة النارية (الدباب) وطار به إلى مخيم العائلة الذي كان قد اقتلعت منه الخيام تماماً.. وكانت سيارة العائلة وحدها الواقفة تنتظر الابن التائه.. ارتمى سيف على حضن أمه التي راحت تقبّله وتبكي وتحمد الله، بينما كان أبوه يشكر السيد محمد حسين ويجزي له المكافأة!

قبل أن تتحرك السيارة بالعائلة، فتح سيف الباب وخرج محاولا البحث عن (السيارات الصغيرة الملونة) التي دفنها هناك.. فلم يعد يعرف مكانها؛ إذ كان يحفظ موقعها بين الخيام فلم يعد للخيام وجود.

شعر سيف بالحزن فبكى.. الآن يسأل نفسه: كيف لم أبك وأنا ضائع، بينما بكيت من ضياع أشياء صغيرة؟!

وجدير بالذكر أن سيفاً، بعد ذلك اليوم، كان في كل زيارة إلى منطقة عرفات يظل يفتش عن تلك السيارات..!

* المدخل (الرابع) إلى الفصل (الأول) من سيرة (سيف بن أعطى) قيد الكتابة والنشر www.ffnff.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة