Culture Magazine Monday  02/04/2007 G Issue 193
فضاءات
الأثنين 14 ,ربيع الاول 1428   العدد  193
 

ما لم أقلْهُ حياً في الأدب والسياسة والثقافة
القوميّة العربيّة اليوم
عبد السلام العجيلي

 

 

ندوة جاك بيرك بيلفور - فرنسا 25- 26 حزيران 1999م

عندما تتلفّظ بكلمة (قوميّة) فإنّ الذهن ينصرف أوّل ما ينصرف إلى المعنى السياسي لعقيدة إيديولوجيّة. نهمل، أو أنّنا نزيح إلى مستوى أدنى، نصيب الثقافة في تكوين هذه العقيدة، وفي بقائها، أو في ديمومة بقائها.

والقوميّة العربيّة منذ بروزها في العقود الخيرة من القرن التاسع عشر، وبعضهم يقول بعثها، كانت الوليد الشرعيّ للثقافة العربيّة. لقد حضنت هذه الثقافة اعتزاز العرب القدماء بأنفسهم وبجنسهم بين الأجناس طيلة عهود الجاهليّة، كما كانت الحاملة لفخارهم بانتمائهم إلى وحدة قوميّة، شديدة التميّز عن غيرها، وكبيرة الرضا عن ذاتها.

وعندما جاء الإسلام، الذي أراد لرسالته أن تكون عالميّة وأمميّة، ظلّت الثقافة تحمل لواء التفوّق القوميّ العربيّ الذي قاد أمم العالم، المعتنقة للإسلام، في مختلف ميادين الحياة، بين سياسيّة وعسكريّة وعلميّة وأدبيّة.

ثمّ جاءت عهود سيطرة الأمم المسلمة الأخرى، سيطرتها في الميادين العسكريّة والسياسيّة بصورة خاصّة. في تلك العصور تحوّلت الثقافة العربيّة، على الرغم من الضعف الذي تسرّب إليها، إلى شبه غلاف واق حفظ في حضنه بذرة انتماء العربيّ إلى وحدته القوميّة الأصيلة والمتميّزة.

لقد كان المثقّفون العرب في أواخر القرن التاسع عشر، والمسيحيّون العرب منهم بصورة خاصّة، هم حملة لواء القوميّة العربيّة في الجزء اللبناني من سورية، سورية الطبيعيّة التي كانت تسمّى بلاد الشام. أمّا قوميّة المثقّفين المسلمين فقد كانت في البدء مصطبغة بعض الشيء بالصبغة الإسلاميّة، لارتباطهم بسلطة المهيمنين العثمانيين الذين، على أنّهم غير عرب، كانوا شركاءهم في الدين ما داموا مسلمين. غير أنّ تسلّط جماعة تركيا الفتاة (الجون ترك) على الحكم، وتظاهرهم بشوفينيّتهم العرقيّة، سارع في ميل المثقّفين المسلمين إلى قوميّة أكثر علمانيّة، قوميّة يظلّ للدين فيها الاحترام والتقدير، إلاّ أنّه يأخذ مكانة متأخّرة وراء مثاليّات المطامح القوميّة.

والبؤرة الحقيقيّة للقوميّة العربيّة، كانت، وما تزال متمثّلة فيما يسمّى بالهلال الخصيب. تعني هذه التسمية سورية الشاملة، قبل أن تمزّقها اتفاقيّات سايكس - بيكو إلى سورية الحاضرة، ولبنان، وفلسطين، والأردن، مضافاً إليها العراق. مثقّفو هذه البلاد هم الذين حملوا ورفعوا عالياً شعلة قوميّتهم. وجاء بعد هؤلاء الروّاد رجال السياسة الذين كانوا مدفوعين بتعطّشهم للحكم وبمصالحهم الشخصيّة أكثر من اندفاعهم بالمثل العليا. أمّا البلاد الأخرى الناطقة باللغة العربيّة، فقد تقبّلت القوميّة التي صار اسمها العروبة، محلّة إيّاها في منزلة متأخّرة، منزلة تأتي بعد منزلة القوميّة الإقليميّة كما كان الحال في مصر، أو كرافد من روافد الإسلام كما هو الحال في بلدان غيرها.

وقد أخذت العروبة شكلها السياسي الأكثر بروزاً في الفترة ما بين الحربين العالميّتين، ثمّ في العقود الأولى من سني ما بعد الحرب العالميّة الثانية. مصر مثلاً، وجدت من فضائلها دعم العالم العربيّ لها في كفاحها ضدّ الاحتلال البريطاني، وضدّ التحالف الأوربيّ الإمبرياليّ. بل إنّها، وأعني مصر، اكتشفت في هذا العالم إمكانيّة توسّع عظيم الفائدة لها. كما أنّ السياسيين في بلدان الهلال الخصيب الرئيسة سارعوا إلى تبنّي شعارات المثقّفين في موضوع القوميّة العربيّة، رغبة منهم، أو ادّعاء لهذه الرغبة، في أن يضعوا موضع التطبيق نظريّات المفكّرين القوميّة. وكلّ منهم في الحقيقة طامع في أن يصبح بسمارك الوحدة العربيّة، أو متصوّر أنّه كذلك!

ولكن، ولعظيم الأسف، كان هناك كثير من الطامعين بينما الحبيبة واحدة، بل إنّ الذين نادوا وينادون بشعار واحد تناحروا فيما بينهم، وكلّ منهم يسعى ليستأثر بزعامة الأمّة العربيّة. أمّا المثقّفون، فإنّهم، بعد أن كانوا الدعاة والبناة للمثل الأعلى، أُزيحوا وردّوا إلى الوراء. صمتوا، أو أُجبروا على السكوت. بل إنّ بعضهم قبل أو قسر على قبول أن يكون الخادم المطيع للسلطة السياسيّة العسكريّة أو العسكريّة السياسيّة.

ولكنّي يجب أن أتكلّم على القوميّة العربيّة اليوم. ثمّة ظروف أرويها لكم، قد يكون فيها تعبير عمّا أريد أن أتكلّم به.

كان وديع البستاني، وهو أحد أفراد عائلة البستاني التي ضمّت عدداً من المثقّفين القوميين الأوائل، كان وديع البستاني هذا أحد الملتزمين، المتحمّسين لقضاياهم العروبيّة. بعد وفاته، التقى أحد أصدقائه، وهو قوميّ متحمّس أيضاً، بابنته، وذلك في فترة من فترات الإحباط التي عمّت الأمّة بكاملها. حيّاها، وقرأ لها بيتين باللغة العربيّة، هما الآتيان:

أبوكِ بلّ ثراها دمعاً، دماً، لا مياها

غنّى العروبة دهراً وعاش حتّى رثاها

وهنا يأتي مكان التساؤل: أتراها هذه الحقيقة المطلقة عن القوميّة العربيّة اليوم؟ وهل هناك ما يبرّر هذه النظرة المتشائمة عن حال القوميّة العربيّة؟ وهل صحيح أنّ هذه العقيدة على شفا هلاك، أو أنّها ماتت حقّاً، وأنّ أولئك الذين كانوا يتغنّون بأمجادها أصبحوا ينظمون القصائد في تأبينها؟

إنّ أجوبتنا على هذه التساؤلات يجب أن تكون، من دون شكّ، نفياً، فعلى الرغم من كلّ الضعف المصابة به القوميّة العربيّة، وعلى الرغم من كلّ الأدواء النازلة بها، تظلّ لها نواتها القاسية والغنيّة التي هي الثقافة العربيّة. إنّها النواة التي تحمل تراث عشرات القرون من الزمن، والتي استطاعت الصمود ومقاومة كلّ أصناف الغزاة والمجتاحين، والتي تظلّ قادرة على أن تحبل من جديد ببعث جديد.

إنّ المفكّرين العرب الذين يؤمنون بمستقبل أمّتهم ليسوا وحدهم فيما يؤمنون به. ففي الغرب عديد من المفكّرين الذين يؤمنون بثقافتنا وبقدرتها على أن تكون العاملة الفعّالة للتقدّم وللوحدة. بين أولئك المفكّرين، وربّما كان في مقدّمتهم، الراحل الكبير، المأسوف عليه البروفيسور جاك بيرك. كم من الأحاديث، وكم من المناقشات دارت بيننا حول هذه القضيّة الهامّة، وكم من الصفحات خصّصها هو لها في نتاجه الفكريّ الضخم!

أجزل الله له الرحمة والثواب

15 - 6 - 1999م


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة