Culture Magazine Monday  02/04/2007 G Issue 193
فضاءات
الأثنين 14 ,ربيع الاول 1428   العدد  193
 

اللغز الخالد
(نصٌ تجريبي جديد)
د. عبد الله محمد باشراحيل

 

 

الطفل النائم في أحضان القلب، سناً يتهامى بسمة عمر، يتراءى كالبرعم في الزهر، نسيم يتأرَّج بالعطف، ويرعى بين عيون الدهشة، ونفوس اللهفة.. يتناءى عن أقنعة الزيف، ويتقافز مثل رقيق الطيف، يسافر بين أسارير المتعة والسعد، يرود جمال الورد، يثير الحس، فلا يحذر حتى يتعلم أن قطاف الورد أليم فيه الشوك.

الطفل وصوت الناي بكى بلحون الخوف، أو الرهبة، قطرات دموع تتشكل من آهات الشوق، وتنبت بالفطرة، إما شجرة نخل، أو شجرة طلح، فيأنس بالهمسة، يستشعر، بالقسوة، يتشوف للرحمة، يقرؤها في صفحات كتاب الدهر فخيرٌ أو شرٌ، يتنامى في روض الحب، وكهف البغض، تلوح على الأنظار حقول من نبت أخضر، أو أصفر، أو أحمر، أو أسود، أو أبيض، أسراب من شفق تتعدد فيه الألوان، لتورق في أغصان الطلع ثمار مؤذنة بالقطف.

الطفل الذكرى الأحلى والأغلى، كشعاع خيوط الفجر، تمر على هرم الأعمار، تجسد تاريخ اللحظات، تنير غياهب أعماق الأيام وتخصب أفراحاً، كانت كالظل الوارف بالتحنان على جدب النسيان.

في غمرة حزنك، كن طفلاً لا تعبأ بالأشجان، وكن أصفى من ماء العين على خد الجذلان، كن قلباً مملوءاً بالإحسان، وقم واصنع من بعض أديم الأرض، قباباً وبيوتاً يسكنها الموج، وجدِّل من أحداث الشمس ضياءً، يرسم في القمر بهاء البدر، ويقبس للبؤس بريقاً يتضرج بالألوان، وينسج من أسمال الفقر بروداً أثمن من قصب الكتان، وسافر لربوع الغيم، تلهى بالنجم، تضاحك بالوجد، وطهر بدموعك وجه العصر، ليشرق فيه الصدق الغارق في أعماق القهر، تحرر من أشباح الرعب، ومد بساط الجود على من أن، لتأمن كل الأمن.

الطفل بريء يأنس من لا شيء، يتهيأ نبض شعور في الليل المسدول، يشيع النور على كسف الديجور، يحيل فصول الدهر إلى فصل واحد، هو فصل الحب، تأمل في الطفل الساهر في الأحداث، الواثب نحو خيال يخترق الآفاق، تناسى ما قاسى من جهد النفس، يعود ليجهد مثل الأمس، فكم يجري، يلعب، يبكي، يضحك، يشتم، يضرب، يهرب، ينهل من أنفاس الثلج، ويطعم من أفنان المرج.

الطفل المتمرد بذكاء العقل.. يواري الجهل.. يعادي الضيم يحب اللثم، يبث الرفق، فما يتلعثم فيه النطق، فعالمه حر أوسع من غايات الصمت، ومن أغلال العذل، فلا يمرض بالأدواء الفتاكة مثل الحقد ومثل الختل، يجيد الهزل، فيمحض صفو الحب، ولا يبخل، حتى إن جار عليه الوقت فلا يقترف الغل، فيطلق عند الضعف لسان البوح، ليعلن ألا شيء يساوي العدل.

الطفل سيكبر، ينظر يتعلم، لكن له العلم الأقدم، من علم التكوين الأعظم، لاغيب المجهول المعدم، ينشأ بالفكر إذا استلهم، يرحل في التيه متى أظلم، يتناقض في عينيه زمان كان وما هو كائن، بل يحتار فهل يسلم أو يستسلم؟ أو يختار طريق الأخيار فما ينجو ممن يظلم، تتقاسمه الآمال، مع الآلام ولايسأم، من أي طريق موصود عنه الدرب الأقوم، يرجو، يسأل، أو يتظلم، لا يعذره العذر ولا ينقذه إلا أن يسلك ما يقضي الزمن المبهم.

الطفل الساكن في أحشاء الأم، وقلب الأب، تربى في أوطان الحب، ترشّف من لبن الكوكب، يرتاح على مهد السلوان، فلا يأبه بالأصحاب وبالندمان، ولا يغضب، يتساوى فيه الأسهل والأصعب، لا هم لديه، يخاف يديه ومن رجليه، وما يشعر بالذنب إذا أذنب، حتى يشتد قوام الجسم فيحبو يتعثر، لا يتأثر، ويحاول أن يمشي، ويحاول أن يأتي، ويحاول أن يذهب.

الطفل: أنا أو أنت، وقد كنا نتخلق من نطفة ماء في رحم الدنيا، صرنا أسماءً، أجناساً ذكراً أو أنثى، تتوالد منا أحياء، تخرج من بطن الظلمة، تنسل من المقدور إلى الحكمة، فعقول البدء هواء، تتقلب في الأشياء، تتسابق في الأرجاء، تتصارع في استحواذ الهم، وتملك كل فتون الوهم، من استكثار الغنم إلى استعلاء الذات، تفك مغالق هذا الكون على استحياء، وتسبح في يم الأفلاك، وتركب صهوات الإغراء، تسافر بالنظرة في الأنحاء، فتستكشف أن النار النور، شعاعاً يعتمر الأرواح، وأن الريح مطايا تعتسف الأهواء.. تدور على أمواج بحور، وقيد في أيد المأسور، يشيد سجون الأرض قصور، ينادي عاشق هذا الطين وهذا الماء، أليس اليوم صباح ثم مساء؟ وكل غدٍ يأتي أصداء، فقوِّ العزم، وطوح بالأرزاء، وجدد ميلاد الأعياد بوأد الداء.

الطفل: حياة للأرواح، ربيع للطرف الساهد، فيه الأحلام تطوف كما الطير الشارد، تتصادى بالبهجة في الأمل الواعد، فإذا ألفيت الكون عجيب، وإن العمر غريب، تراني الساجد والعابد، فاتركني طفلاً يتملى بالحسن، وحطم أنياب ضواري الشر، ولا تسترجع عهد الجهل، وقل أحرقت جذور الغل، دفنت الحاقد والحاسد، أفرغت فؤادي من سوءات الظن، أعيش أنا اللغز الخالد.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة