Culture Magazine Monday  02/04/2007 G Issue 193
حوار
الأثنين 14 ,ربيع الاول 1428   العدد  193
 

أكدت أن العرب لا يحترمون العمل «المواطنة العالمية» سلمى الجيوسي :
ألغيت موضوعات كثيرة من موسوعة الأدب السعودي الحديث

 

 
* حوار: سعيد الدحية الزهراني aldihaya2004@hotmail.com

«المؤسسة» سلمى الخضراء الجيوسي .. عندما تهمّ بمشروع استضافتها لإجراء حوار صحافي، فأنت تحتاج بالفعل إلى مؤسسات عدة لتحاورها بشكل متخصص كل منها في مجالها! التقيتها في منتصف العام 2006 بإيعاز من مدير تحرير « الجزيرة» إبراهيم التركي في فندق «فور سيزونز»ببرج المملكة بالرياض. وحالت ظروف ٌ «مختلفة» دون إجراء اللقاء؟! عادت إلى المملكة مرة أخرى في أواخر العام نفسه والتقيتها في فندق «الماريوت»، فكانت « المؤسسة الجيوسية» حاضرةً بوعيها وإخلاصها ومعرفتها وروح الأمومة أيضا، وقبل هذا كله ب«عالميتها» فكان هذا الحوار الذي امتد قرابة الساعتين، فخرجت منها بكل شيء، وكأني لم أخرج بشيء.

الحديث مع د.الجيوسي ذو ألوان متعددة. لكنه ذو نكهة مميزة أي يبدأ من الإنسان ويعود إليه، ويراوح ما بين السياسي والثقافي والأدبي والتاريخي والتراثي والإسلامي والتنموي والحضاري ! في هذا الحوار الإضاءة، كانت د. سلمى وهجاً حقيقياًً أضاء سائر الزوايا والأركان التي استفهمنا حولها.

كما منحت للسعودية والسعوديين شهادة اعتزاز عرفاناً منها بالدور الذي قدموه عندما أيقنوا ضرورةَ الفعل البنّاء الخلاّق عالمياً.

* نستهل الحوار بالحديث عن الترحال؛ من الأردن حيث مسقط رأسك، إلى عكا والقدس فبيروت ثم لندن.

وبعد ذلك إلى أغلب عواصم العالم ومدنه. ماذا عن هذا الترحال؟ وما البصمة التي تركها على د. سلمى، الأكاديمية والمعرفية والإنسانة؟

- ماذا أقول سوى أن هذا الترحال المضني والجميل جعلني أنصهر في الحياة والعالم. إذ أصبحت مواطنة عالمية، لا مواطنة فلسطينية أو عربية أو مسلمة وحسب.

أصبحت إنسانة لا أشعر أينما كنت أنني غريبة أو في منأى عن الناس والأشياء. كشفت لي الأسفار كيف يتصرف الآخرون وصرتُ أفهمهم، استوعبهم، أتقبلهم، أنسجم معهم، وما إلى ذلك من التفاعل الإنساني مع الآخر - لا استثني إلا المتعصبين في أي شيء - في النهاية يدرك المرء أن الإنسان واحد في العالم أجمع، في أساس الوضعية الإنسانية نفسها، وإن اختلفت الثقافات والمواريث.

* خلال هذا التطواف كيف وجدت ِ العرب. أين تقف الحضارة العربية في قائمة حضارات العالم. وما المستوى الذي يوجد فيه الكيان العربي بمختلف تفاصيله؟

- ( تصمت برهةً ثم تجيب) هنالك مميزات جميلة جداً لدى العرب، كالصداقة والكرم وأصول الضيافة وحب الحياة، وهنالك أمور لا أعتقد أنها كذلك. وهذه المميزات وتلك الأمور تؤدي دوراً محورياً في مسألة تقييم العربي ضمن منظومة الوجود العالمي. ولكن هذا حديث يطول المهم هو أننا الآن نعاني وضعا ً عالمياً حرجاً، والأهم من هذا أن قلة منا تحاول أن تعمل شيئا بنّاء لتغيير الوضع.

قليلون اليوم هم الذين يدركون كيف يمكن لنا أن نعالج هذا الوضع المؤلم، وهذا خطأ وزارات الثقافة والإعلام، ما عدا واحدة أو اثنتين، في هذا العالم العربي الممتد دون انتهاء. إنهم يتركون مستقبل أحفادنا ينزلق من بين أيديهم دون أي تحرّز، ولا يستطيعون حتى تخيل الأحكام السلبية التي سيوجهها لهم جيل صاعد أكثر تنوراً وفهماً للعالم. هذا الجيل الصاعد لن يسامحهم، وسيكتب تاريخهم بأحرف سوداء.

العالم العربي محاط بالأعداء وهم أعداء ماكرون يعرفون كيف يصوغون ادعاءاتهم ضدنا ونحن غارقون في مستنقع كلسي فائر ولا نعرف ذلك ولا نتخيل فداحة إهماله. إن أشد مثالبنا اليوم هو عدم تيقّظنا إلى ذلك النشاط السلبي الواسع المفعم بالذكاء والكراهية الذي يطوّق حياتنا.

ليس أصعب على المرء الواعي من أن يرقب ذلك الانحدار المستمر نحو وضع لا يُطاق، أن يسمع بأذنيه الأكاذيب تُتلى ضدنا ويشاهد الركود العربي نحوها. كل موهبة عربية مخلصة (وعندنا مئات المواهب التي أصيبت بالإحباط واليأس ) يجب أن تُستَغل وتُشجَّع على دخول المعترك العالمي المعادي متصدية ً لسلبيات العالم وعدوانه الفكري ضدنا فتجابهه عن طريق البرهان العلمي والتأريخ الصادق والإدراك العميق لمنجزاتنا الروحية والفنية والثقافية، أي لمستوياتنا الحضارية قديمها وحديثها.

إن قلة نادرة عندنا تعرف طريق الدخول بها إلى العالم.

إن العالم الواسع، بجماهيره الغفيرة، ليس عدونا في الأساس، وبإمكاننا كسبه لو نحن عملنا على ذلك، ولكنا تركناه عرضة بريئة لدعايات الآخرين ضدنا.

أما المسؤولون عندنا ومعهم المقتدرون على الاشتراك في عملية المواجهة العالمية بما في ذلك رجال الأعمال كثيرو العدد، فهم لا يعيرون هذا الوضع اهتماما حقيقيا.

والزمن يمضي والإقليمية تترسخ والأعداء ينتصرون.

إنما أنا متأكدة أن لحظة اليقظة الثقافية لهذا الوضع قريبة وستجيء على أيدي جيل لا يزال بعد في الصفوف الابتدائية. وسعيد عندها ذلك المسؤول الذي فهمها قبل هذا.

خطأنا الأول هو أننا لا ندرك مواطن قوتنا فنستغلها.

إن قوتنا تكمن اليوم في موروث ثقافي طويل باذخ وموروث روحي غني شديد الإقناع لو عرفنا كيف نوجهه إلى العالم بأسلوب حداثي، ولكنا لا نعرف ذلك وفي أغلب الأحيان لا يهمنا الأمر. نحن نظن أننا ببناء الفنادق الكبيرة والمؤسسات الفاخرة واقتباس جميع مظاهر العمران الخارجية نصبح أكفاء للآخرين ممن تقدموا في حقل الحضارة الإنسانية، ولكن الحقيقة هي لو أننا استوردنا جميع وسائل الحياة والعمران وتأقلمنا مع التقنيات الحديثة فسوف نظل خارج هذا العالم ما لم نضاه ِ هذا العمران بثقافة حقيقية إنسانوية ونؤكد ثرواتنا الروحية والفنية والثقافية داخلين بها بحذق كجزء من العطاء الإنساني الذي هو ميراث كل البشر.

نحن نعيش اليوم على إنتاج الآخرين ونكرر أساليبنا القديمة التي لم يعد لها مكان في هذا العالم المتحرك شديد الاختراع. قد يشتري الإنسان المعلومات ولكن تحويلها إلى ثقافة متأصلة في النفس، في جذور الرؤيا والمعرفة الحضارية للعلم والفكر وأساليب الحوار والتداخل وأرستقراطية التعامل أمر آخر لا يحسنه الكثيرون.

كل حفلات التكريم وكل الجوائز وكل أبهات المظاهر لا تعني شيئا في النهاية أمام صومعة الجاحظ في القديم ومكتبة حمد الجاسر في العصر الحديث.

* من هنا دكتورة سلمى ماذا عن أبرز الملامح في الكاريزما العربية بشكل عام؟

- بالطبع عندنا مزايا قلّت في الشعوب الأخرى، مثلا ً قضية الكرم والضيافة ولكن هذه قضية ذات حدّين، فمزية الكرم والضيافة منغرسة في صلب الإنسان العربي سجيةً وطبعاً لا يملك أن ينفكّ عنه. ولكن حدها الآخر موجود أيضاً.

إن من أبرز أسباب ازدهار الغرب الأنجلوسكسوني أو الغرب البروتستانتي هو: التوفير، واحترام العمل. إذ نجد الغربي لا يصرف أمواله هدراً، وعندما يكون كريما ً فإنه يكون كذلك في حدود المعقول. أما نحن فأرى أننا نكرم الآخر كثيراً ونعطي شيئاً من مناعتنا أيضاً. وفي الوقت نفسه لا نحترم العمل - أقصد العمل اليدوي. العربي يريد أن يعمل ومعه قائمة طويلة من العمال تقوم بالعمل نيابة عنه، وهذه القائمة الطويلة لديها قوائم طويلة أيضاً تؤدي عنها أعمالها وهكذا. الدول العربية القادرة تستورد العمال، في حين أن أبناءها لا يعملون. احترام العمل في العالم العربي غير موجود بشكل عام. ثم إننا بالرغم من وجود جيوش من العمال في العالم العربي جميعه فإننا لم نبنِ ثروة صناعية ستغنينا في المستقبل عن الاعتماد الكامل على صناعات الآخرين.

* د. سلمى. من هذه الجزئية أود أن أسمع تعليقك حول بروز جهودك وعطائك المميز معرفياً وثقافياً على مستوى عالمي، وهي جهود فردية لم تقم بها مؤسسات. وهذا ما يدعم مقولتك إن العربي لا يحترم العمل، بل لا يعمل أصلاً.

- «اسمع تا قولّك شغلة». أنا لدي طاقة غير عادية. أنا نفسي لم أكن أعرف أنني أمتلكها. واكتشفت نفسي بنفسي عندما أحسست بالألم الشديد الذي أصابني عندما أدركت أن العالم لا يعرف عنا شيئاً. وأننا كالمنبوذين من بين شعوب العالم. تساءلت عن هذه الوزارات العملاقة، وهذه الدول العربية الغنية، وهذا الكم الهائل من المتعلمين والمثقفين. أين دورهم، وماذا قدموا لكي يتعرف العالم علينا وعلى حضارتنا وثقافتنا وموروثنا ومقدراتنا الإنسانية بشكل عام ؟ ما هذه الأمم العربية التي تستورد أثمن ما يصنعه الغرب وتفاخر بمبانيها العملاقة، ثم لا تقدم في المقابل أدنى ما يجب عليها أن تبذله لكي يعرفها الآخر..

هذا الغرب الذي يجهلها تماماً.

لماذا أتعذب كثيرا قبل أن أتمكن من إنجاز كتاب مهم عن الحضارة الإسلامية؟ لماذا بعد أن لمع الكتاب الذي حررتُه عن الأندلس ونال ما لم ينله كتاب آخر عن العرب والمسلمين من قبول وتكريم في الغرب (سؤال واحد لدار بريل للنشر أو لأي دائرة تاريخ في الأكاديمية الغربية يكفي ولكن ليس عندنا من يسأل ومن تدفعه حميته لكي يحاول أن يعرف حقائق الأمور)، لماذا لم يتابع لا العرب ولا المسلمون من سواهم هذه الخطوة؟ فكتابي عن الأندلس الذي صدر في 1100 صفحة بالإنجليزية و1500 بالعربية. هذا الكتاب احتل مكاناً راسخاً في المكتبة العالمية - وبالمناسبة كل كتبي التي قدمتها للتعريف بالحضارة العربية احتلت مكانة جيدة جداً في مكتبات العالم. هذا الكتاب الذي حررته من 49 دراسة متخصصة استغرق مني سنوات من السعي قبل البدء به.

راسلتُ في فترة الثمانينات كل وزارات الثقافة في الوطن العربي وكل المؤسسات الثقافية أيضاً، لكنهم لم يجيبوني، بل لعلهم رموا بخطاباتي لهم في سلة المهملات.

ثم بِوَحي رباني تذكرت الآغاخان في باريس، فكتبت له، وبعد أكثر من سنة من المراسلات والتشاور أخذ الآغاخان مشروعي من بين عشرة مشروعات قُدّمت له، وكان الكتاب. أنجزناه في أقل من سنتين لكي يصدر سنة 1992، وهي الذكرى الأليمة لمرور خمسمائة عام على سقوط الحكم الإسلامي من الأندلس. والسؤال هنا هو: لماذا لم يرفد العرب المسؤولون هذا الإنجاز بآخر مثله عن صقلية مثلا أو البرتغال أو شرق آسيا؟ لقد درست موضوع صقلية جيدا واكتشفت أهمية الصلة الحضارية مع أوروبا التي مهّدتها الحضارة العربية في صقلية وتوجهت بالمشروع إلى عدد من المسؤولين ولكن الاهتمام الحقيقي غير موجود.

غير أنّ ما يُبهر العالم ويؤكد حضارة الإنسان إنما هو المعرفة والثقافة والأدب والإنتاج الإنساني الخلاق، لا الشوارع العريضة والبنايات الضخمة والمؤسسات العملاقة.

لدينا ثراء ثقافي مذهل وعظيم عمره مئات السنين لو كان مثله في تاريخ أية أمة أخرى لفعلت المستحيل حتى تُدخله في تاريخ الثقافة والحضارة العالمية بقوة راسخة ولا سيما في زمن كزمننا تلنا فيه أسوأ إعلام خارجي بمكن أن يتصوّره الإنسان.

ثم إن عندنا في كل أنحاء الوطن العربي إبداعا واسعا، لكنه يحتاج إلى من يُخرجه إلى التراث الإنساني ويبلوره كفعل حقيقي.

وهنا أود أن أقف لأسجل شهادة حق للمملكة العربية السعودية، فالسعوديون هم أكثر من آزرني ووقف إلى جانبي في عدد من أعمالي العربية والعالمية. كانوا أكثر العرب الذين فهموا أهمية المشروع وضرورته. ولكنه مشروع يحتاج إلى الكثير الكثير. يحتاج إلى تأسيس واعٍ، ويحتاج إلى تحريك الآخرين واستحثاثهم للقيام به واستكماله، يحتاج إلى مواصلة الجهد.

* هذا الجهد الجبار ألا يجعلك تشعرين في بعض الأحيان بالتعب، أو أنك بحاجة إلى الاسترخاء أو ربما التوقف؟

- « بدّي أحكيلَك شي» أنا نشأت ورُبيت في بيت عربي أصيل، يحترم الثقافة العربية والتاريخ الإسلامي والتراث، ويحترم إيجابيات هذه الكيانات الراسخة، إلى جانب ما وهبني الله من طاقة وحب لهذه الحضارة العريقة. يشرفني أن أقول إن ما من أحد في العالم يستطيع أن يقول الآن بعد صدور أعمالنا التي لم تتوقف: «لا نعرف شيئاً عن العرب وثقافتهم»؛ لأن موسوعاتي وكتبي تملأ مكتبات العالم وهي ما تعرف ب «الموسوعات الجيوسية». لا.. التعب يخفّ يا ابني كثيراً إزاء النجاح، إزاء إحساسك بأنك خدمت وقدّمت، وأنك حاولت ملء ولو خانة من فراغ رهيب عنا في مكتبات العالم وفي أرشيفات معرفته. ولا يحز في نفسي أني تعبت ( التعب هو أكبر وأفدح من أن أصوّره بالكلمات)، ولكني تجاوزت جراحه ومستعدة أن أنساها لو أني شعرت بأن الرسالة التي حملتها وصلت إلى أهلها. ولكنها لم تصل إلى الجميع. ولذا فإنها دائماً مفاجأة جميلة عندما ألتقي بأحد المثقفين أو المسؤولين العرب ويحدثني عنها وكأنها أصبحت رسالته.

حدث هذا مؤخراً مرات عدة، ولكن طموحي هو أن تصبح ضرورة نقل الثقافة العربية إلى العالم أمراً حاسماً وفرضاً مقدساً، ليس عنه من بديل وليس عندنا أفضل منه نقدمه إلى الآخرين. غير أن زملائي الأجانب من أمريكا إلى أوروبا مروراً بإنجلترا يقدّرون الأمور كثيرا ً.

* الديوان اليتيم (العودة من النبع الحالم) ماذا بقي له من مساحة في ذاكرة الشاعرة د. سلمى الخضراء الجيوسي؟

- ( تتنهد) كنت سأصدر ديواناً آخر لكنها حرب حزيران. قامت فأحرقت كل الأحلام الجميلة. لقد كانت صدمة عنيفة للغاية وبالنسبة لي كانت تلك الفترة مليئة بالصدمات الوطنية والشخصية مضت بعدها سنوات كنت فيها منشغلة بأشياء ضرورية أخرى كتربية أطفالي؛ لأنهم حينها كانوا لا يزالون يدرسون، ثم اتجهت للتدريس في جامعة الخرطوم ثم عملت في الجزائر إلى أن ذهبت إلى أمريكا، وبدأ ما في داخلي يتبلور عندما أدركت جهل الناس بنا وبحضارتنا وثقافتنا. فدفعني هذا إلى المغامرة. تركت التدريس غير مصغية إلى نصائح أصدقائي وزملائي، وبدأت مشروع الترجمة، وكان أول من ساعدني هو العراق، ثم السعودية؛ السعوديون وقفوا مع مشروعي بشكل رائع مشرف.

أذكر ونحن في حفلة في المنتدى الأدبي في الرياض كيف أجاب د.منصور الحازمي و د. عزت خطاب عن أسئلة حمد الجاسر عن مشروعي، فكأنهما أنا؛ وكنا وقتئذ نقوم معا بمشروع جماعي حول أدب الجزيرة العربية.

أعود إلى سؤالك عن شعري وإبداعي، فأقول: بعد ديوان «النبع الحالم» كتبت شعرا ً كثيراً، ثم دخل مشروعي لنشر الثقافة العربية في العالم على الخط، وأصبح هو شغلي الشاغل، فقد كان إحساسي بضرورته الماسة التي لا يمكن تأجيلها يغلب دائماً على كل شيء آخر.

ولكن في الموسوعات المترجمة التي أصدرتها وضعت عدداً من قصائدي (أغلبها كتبت بعد «النبع الحالم »)، وعندما قرأها ناشر أمريكي طلب مني أن أعطيه بقية ما عندي من شعر، وقال إنه يريد أن يجمع هذه القصائد مترجمة في ديوان ويصدره باللغتين. نحن نعمل عليه الآن، إلا أن أعمال المشروعين تَحُول دائماً دون اهتمامي المستمر بأعمالي الشخصية.

* أود أن أسألك عن الجانب النقدي أيضاً. ماذا عن المنهج النقدي الذي تتبنينه؟

النقد بالنسبة إلَيّ قضية وليس ترفاً أو شيئاً عابراً. أنا لا أحتمل الأدب الوسطي أو الإبداع الوسطي الخالي من الإشراق ولا ألتفت إليه، أياً كان كاتبه، لأنني لا أنظر إلى الأسماء. وحقيقةً أشعر باستياء شديد عندما أجد الكتابات الطويلة والمقالات العريضة التي تصدر ولا سيما في الصحف عن أدب لا قيمة له، سواء كان روايات أو دواوين شعر أو مجموعات قصصية. كل هذا النوع من النشاط يسيء إلى مستوى الثقافة وإنه لأمر مذهل أن يُسمح له بالاستمرار. لديّ منهج واضح في النقد لا مجال هنا في هذا الحديث الذي طال أن أشرحه.

إن مشكلتي مع النقد هي أني كتبت أغلبه بالإنجليزية وأغلب القراء في العالم العربي لا يقرأون هذا. لقد زارني زميل متخصص بالإنجليزية ويدرّسها في جامعة أردنية ولم يكن قد قرأ ولا حتى رأى شيئا من كتاباتي النقدية بالإنجليزية. ما الذي تريدني أن أفعل إزاء هذا الأمر؟ غير أننا الآن نترجم هذه الكتابات ونعدها للنشر بالعربية.

* حدثينا عن مشروع المدينة الإسلامية؟

- مشروع المدينة الإسلامية انتهى وهو الآن تحت الطبع بالإنجليزية، أما النسخة العربية فهي لم تكتمل بعد، وهي بين أيدي أساتذة في جامعة الملك سعود يدققون ترجمتها.

وأتذكر عند بدء هذا المشروع أنني كنت سنة 1991 في مطار «جاتويك» مسافرة إلى أمريكا وكانت معي ابنتي «مي»، وهي تقرأ في كتاب كبير بانتظار إقلاع الطائرة التي تقلها إلى فلسطين. كان اسم هذا الكتاب «المدينة في التاريخ» للمؤرخ الأمريكي «لويس مامفورد»، وهو مؤلف مشهور.

فتشت في الكتاب لأرى ماذا كتب عن المدينة الإسلامية، وإذا به لم يذكر مدينة إسلامية واحدة، وكأننا لم نكن أبداً في التاريخ. كل هذه القرون من الحضارة والإشراق، وليس لنا وجود في كتاب كهذا ؟! أتذكر حينها أنني انفجرت أبكي ووقفت وقلت : «أقسم بالله إني لن أكلّ ولن أملّ حتى أحرر كتاباً عن المدينة الإسلامية».

ومن حينها سعيت سنوات طويلة لكي أتمكن من إعداد هذا الكتاب، وهو كتاب مكلف جداً، يحتاج إلى الكثير لكي يخرج بشكل حقيقي ومشرف. أود أن أقول إن عبد الله الناصر اهتم كثيراً بهذا المشروع. وهو رجل مثقف ووطني ويفهم قيمة العمل الجاد.

لقد قدّر عملي كثيراً، إذ تحدث بهذا الخصوص إلى معالي د. خالد العنقري وزير التعليم العالي في السعودية، الذي تحدث بدوره إلى سمو الأمير عبد العزيز بن فهد. فساند سموه هذا المشروع. والآن في هذه الزيارة أحضرت «ديسكات» الكتاب معي. كما قلت لك قبل قليل الكتاب الآن تحت الطبع في دار بريل للنشر في هول ندا، وهي أعرق دور النشر الغربية لنشر الكتب الشرقية، وهم الذين نشروا لي كتابين من قبل، الأول كتابي المطول عن تاريخ الشعر العربي الحديث، والثاني كتابي عن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس.

سيصدر كتاب المدينة الإسلامية قريباً - إن شاء الله -، وهو عمل كبير جداً وضخم ويستحق الاحتفاء به بشكل جاد، يحتوي على 57 دراسة تضم كل ما يتعلق بالمدينة الإسلامية في التاريخ حتى اليوم وقد حرره معي ثلاثة إخصائيون بالمدينة الإسلامية منهم الأستاذ الفرنسي الشهير أندريه ريموند.

* حدثينا عن كتابك حول الأندلس؟

- هذا الكتاب نجح نجاحاً كبيرا، وقالت لي دار بريل التي نشرته إنه نجح حتى أكثر من الموسوعة الإسلامية التي نشروها هم. وصدرت حوله عشرات المراجعات بلغات كثيرة تتحدّث عنه بإطراء كبير.

لقد كتب لي فيه أحسن المختصين بالأندلسيات في الغرب، ومع أني أحببت أن أُشرك أكبر عدد من المختصين العرب بالكتابة فيه وأخذت وعوداً منهم، إلا أنهم خذلوني في النهاية بما في ذلك الصديق د. إحسان عباس - رحمه الله - الذي أحبّ أن يكتب لي حول الأدب الأندلسي شعره ونثره، إلا أنه شُغِل عنه بأمور أظن أنها كانت صحية.

وكان هذا إيذاناً متأخراً لي بالعكوف على دراسة هذا الشعر والكتابة عنه بأسلوبي الخاص في النقد الذي اختلف جذرياً عن أساليب الكتب الأدبية الأخرى التي نُشرت حول هذا الشعر.

وبعد إنجازي هذا الكتاب الذي بلغ أكثر من 1100 صفحة بالإنجليزية في 49 دراسة (و1500 بالعربية) عملت على تجميع المعلومات لكتاب آخر عن الحضارة الإسلامية في صقلية. فصقلية تعد علامة بارزة في تاريخ الحضارة الإسلامية، وقد أخذ عنها ومنها الإيطاليون ومن بعدهم الأوروبيون الكثير حتى بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها. ولكني لم استطع أن أجد دعماً له حتى الآن.

هل تصدّق أننا بعد النجاح الكبير الذي أحرزناه في كتابنا عن الأندلس لا نتمكّن من استئناف السلسلة وأوّلها الكتابة عن صقلية الإسلامية؟ بماذا وكيف يفكر المسؤولون العرب؟

* ماذا عن مشروع ترجمة القصة السعودية والشعر السعودي؟

- ترجمنا جزءاً كبيراً في إطار هذا المشروع بالتعاون مع د.منصور الحازمي و د. عزت خطاب وأساتذة آخرين من خلال «دار المفردات». وأنا في حقيقة الأمر أعتز بهذا الإنجاز كثيراً. فلقد اكتشفت أدباً سعودياً جيداً وحتى الآن طلبتْ منا مجلتان أمريكيتان كبيرتان الإذن بإعادة طباعة بعض القصائد من هذه المجموعة.

ومن أهم ما اكتشفت خلال عملي على هذه المجموعة هو أن المرأة السعودية لديها شعر وأدب قصصي في مستوى جيد جداً، وأود أن أعمل في السنة القادمة - إن شاء الله - على أدب المرأة السعودية من شعر وقصة (بما في ذلك الرواية) ومسرح ومذكرات شخصية وقد كتبت عن هذا لمعالي وزير الثقافة والإعلام.

نحن لا نستطيع أن نقدم شيئا يمزج ما بين الثقافة والإعلام أهم من أن نقدم إنجازات هذا العدد الغني من المبدعات السعوديات إلى العالم فإنه سيقاوم كثيرا الدعاية الواسعة بأن السعودية تضطهد المرأة وتهمّشها.

*أُثيرت عن موسوعة الأدب السعودي الحديث مسألة التدخلات والمجاملات. ويبدو أن هذا لم يرق لك ولم يتناسب مع أمانتك المعرفية والأدبية والثقافية؟

- ماذا تقصد بالمجاملات؟

* أعني أن هنالك أسماء ومشاركات لا تستحق أن تترجم - نعم. هناك موضوعات لم أقبل بها وطلبت إزاحتها من هذا العمل. وعلى أية حال، أنا مقاييسي صارمة جداً. لكن هناك اعتبارات أخرى لا بد من أن أضعها في الحسبان. غير أن القضية ليست دائماً قضية جودة.

هنالك أمورٌ أخرى تحول دون ترجمة قصيدة ما قد لا تتعلق بمستوى النص كشعر، وإنما بكونه غير قابل للترجمة أصلاً. خذ مثالاً على ذلك الشاعر الكبير أحمد شوقي. فعندما تأتي لترجمة إبداعه فإنه لا ينتج لديك إلا كلام نثري قليل الشاعرية؛ ذلك لأن شعر شوقي مبني على البلاغة والبلاغة (وهذا قد لا يعرفه نقاد كثيرون) هي جزء من المعنى وليست تزويقاً وإثارة، بالكلمة للمعنى الأساسي في القصيدة؛ وكان أحمد شوقي يعتمد في شعره على الجانب البلاغي، والبلاغة الشعرية لا تترجم إلى لغات أخرى وتتهافت عند إعادة صياغتها نثرا، ولذا فإن القصيدة المبنية على البلاغة تتهافت عند ترجمتها، لأن معناها يجيء مبتوراً وخالياً من التأثير بلغة أخرى وإن كانت القصيدة المبنية على البلاغة رائعة في العربية.

وأذكر أني تعذبت كثيراً يوم قمنا بترجمة شوقي. إنه شاعر أثير عندي، ولكنه في الترحمة لا ينجح إطلاقا ً.

أما الأسماء التي نُحّيت من المجموعة السعودية الأخيرة كان أغلبها من هذا النوع، فقد نُحيت لأنها لا تصلح أن تُترجَم لأسباب فنية، عادة، لاعتمادها على البلاغة.

وهنا أود أن أشير إلى أن الذي أقنعت الزملاء بضرورة إزاحته من المجموعة كان قسم المقالات. فما الفكرة التي يأخذها القارئ الغربي عن الإبداع السعودي عند قراءة مقال على غاية من البساطة الفكرية قد يكون كُتب في خمسينيات القرن الماضي؟ إنه عادة مقال بسيط موجه إلى قارئ في بداية النهضة الأدبية الحديثة. ولكن المقال الأدبي ليس من هذا النوع. إنه مختلف جداً عما رأيته في منتخب المقالات الوعظية والمعرفية التي وجدتها بين يدي.

ولما لم تكن هذه المقالات أدبية، فهي لم تكن تصلح لمثل هذا المشروع الأدبي الصرف، بل تصلح لصفوف الأنثروبولوجيا، وهذا لم يكن من شأننا في هذا المشروع الأدبي.

* لكِ وجهة نظر في «ذي الرمة» وعلاقته بالشعر الجاهلي. هل يمكن أن تحدثينا عنها؟

- ذو الرُّمة هو مفتاح الشعر الجاهلي. من أراد أن يعرف الحياة الجاهلية بصورة ثرية فعليه أن يقرأ ذا الرمة جيداً ثم يعود إلى الشعر الجاهلي. فهو في الواقع قدم إبداعاً عظيما لم ينل حقه في زمنه وحتى في الأزمنة اللاحقة.

إن في شعره استخداماً متطوراً للأعراف الجاهلية وهي أعراف لم يتمثلها تمثلاً حقيقياً عدد من أكبر الشعراء الأمويين. الأخطل اقتبس منها ولكنه لم يطورها، على الرغم من أنه فهمها. أما جرير والفرزدق فلم يفهماها بشكل عميق أبداً، وبالذات الفرزدق.

وحده ذو الرمة تمثلها بعمق وبصيرة نافذة، شعره يمثل أكمل استمرار لتراث الشعر الجاهلي، فقد أعاده هذا الشاعر الكبير إلى توهجه السابق بعد أن عتّم عليه ذلك الفاصل الزمني في صدر الإسلام فلم يتمثله الشعراء الذين نشأوا في مطلع الدعوة الإسلامية. لقد برهن ذو الرمة على ما في الشعر الجاهلي من تعقيد جمالي ومن عمق وانهماك في الوضعية الإنسانية بأبعادها الشمولية والعربية المستوحاة من تجربة الصحراء الفريدة.

وأساء فهم هذا الشاعر العبقري نقاد زمنه وشعراؤه وبعد زمنه بكثير، واستمر تجاهله أو قل الجهل به حتى العصر الحديث. وأذكر كيف اكتشفته أنا بفرح ودهشة لا يوصفان عندما كلفتني دار جامعة كمبردج في إنجلترا أن أكتب الفصل الخاص بالشعر الأموي لموسوعة كمبردج للأدب العربي، الجزء الأول.

وأسعدني بعد ذلك كثيراً أن أرى كيف عاد هذا الشاعر الفريد إلى الحياة في العصر الحديث. كتب عنه بتفرد كبير صالح آغا وبيّن معنى الصحراء في شعره ورموزها والنماذج العليا التي اكتشفها في ذلك الشعر العظيم، كما كتب عنه عبد الله الناصر بتميز أيضاً .

هذه دراسات مفتاحية لشاعر من أكبر شعراء العربية في تاريخ الشعر العربي جميعه، ولا أظن أن أي أستاذ يدرّس الشعر الجاهلي والأموي يستطيع أن يتجاوز أبعاد المعنى والرمز والتقنية الشعرية الموروثة في شعر ذي الرمة وعلاقة كل ذلك بالشعر العربي في الجاهلية.

* ما هو تعليقك على فكرة إقامة مركز دائم للترجمة، وأن تتبنى وزارة التعليم العالي في السعودية مسؤولية النهوض بها؟

- هذا ما أتمناه بحقّ، وأطالب به بقوة. وعندي مخطط مدروس له وحولي مترجمون مجَرّبون من عشر ثقافات عالمية (الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، والإسبانية، والهولندية، والروسية، والأردية والصينية واليابانية ) ينتظرون أن يفرّج كربنا ونبدأ بنقل الثقافة العربية إلى لغات العالم الحية. ليس هذا بمعجزة، ولا يعصى على مجَرّبين مثلنا العمل عليه بإتقان كبير. ويجب أن تصحب مشروع الترجمة إلى لغات العالم دراسات توثيقية أيضاً كما فعلت أنا في رابطة الشرق والغرب (للدراسات) وبروتا (للترجمة).

وصدقني أن هذا الأمر من أهم ما يمكننا القيام به إن لم يكن أهمه على الصعيد الثقافي، ونحن نستطيع أن نقوم به بإتقان كبير، فأهم ما فيه هو أن مترجمين متميزين من أنحاء العالم يشعرون بضرورة القيام به ويولونني ثقتهم ويريدون أن يعملوا معي حالاً عليه. ولكنه يحتاج إلى التمويل. وليس عندنا نحن العرب نُدرة مال ولا قلة تمييز، فلماذا نتوقف دقيقة واحدة دون هذا النوع من الإنجاز؟ ألم تصبح الكلابة أضيق من ضيّقة على أعناقنا؟ الزمن ضدنا يا سعيد ونحن ضد أنفسنا.

* د. سلمى في ختام هذا اللقاء. تقبلي شكري وتقديري. وهل من كلمة تختمين بها حديثك ل«الثقافية» ؟

- أختم بالقول إنني أنست بكم. شكرا جزيلا لك ولجريدة «الجزيرة» وللمجلة الثقافية.

خصّت الدكتورة سلمى الدكتور خالد العنقري والأستاذ إياد مدني بشهادة مستقلة نصها :

«هذان الرجلان يجب أن تعتزَّ المملكة العربية السعودية بهما؛ إنهما يعملان في تلك المنطقة الرهيفة، منطقة العلم والثقافة، وهي المنطقة العربية الأكثر تطلبا والأبهى عطاء والقادرة اليوم على اختراق الآفاق والدخول إلى العالم، وما أحوجنا إلى ذلك! هذان الوزيران يفهمان أهمية هذا الأمر».



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة