Culture Magazine Monday  02/04/2007 G Issue 193
سرد
الأثنين 14 ,ربيع الاول 1428   العدد  193
 
قصتان قصيرتان
إبراهيم الناصر الحميدان

 

 

سوق الجفرة

قد تكون بعض المسميات في العهود السابقة جافة لكونها تخلو من تلطيف العبارة مكتفية بالصراحة التي لا تبتعد عن الواقع.. فلقد كان ذلك عصر الوضوح والشفافية بعيداً عن التحايل وراء الإغراق في الغموض، فحين سألني ابني ذات صباح، وقد رأى الحيرة بادية على وجهي.. لماذا لا نملك عربة مثل أعمامي وأخوالي؟ أجبت بسرعة لأننا فقراء.. وفي حسباني أنه لم يستوعب هذا المعنى حيث لا يرى فيهم ما يختلفون به علينا.. هكذا ابتلع الإجابة دون فهم.. ومع ذلك فقد أشفقت عليه من متاعب البحث والحيرة، فأوضحت له أن مرتبي محدود.. وأضفت أن ما أتقاضاه من مرتب شهري لا يسمح لي بتوفير قيمة شراء عربة.. لأنها هي الأخرى أيضاً بحاجة إلى مصروفات الوقود وخلافه.. فهزَّ رأسه مع يقيني أن ما قلت لم ينر أمامه سبيل الفهم الكامل لأن الله خلقنا سواسية.

وبما أنني في ذلك الحين كنت أستعد للذهاب إلى العمل، الذي يستغرق مني السير عشرات الأمتار قبل العثور على واسطة تنقلني إلى موقع قريب من مكان عملي.. فقد عزمت أن أجلس مع ابني جلسة مكاشفة تميط اللثام عما انغلق عليه فهمه، وهكذا مضيت إلى الشارع العام وأنا أُحادث نفسي.. هل أعترف له متحسِّراً من ضآلة مرتبي الذي يبزني فيه معظم زملائي.. لأن الوساطة لعبت دورها كأي منشأة خاصة في تحديد المرتب.. وبينما كنت في غمرة هذه الرؤى وجدت جاري أبا عبد الله - وهو متقاعد منذ بعض الوقت - يتقدم باتجاهي وكان من عادته الخروج يومياً من منزله صباحاً والتجوال في أزقة الحي لقضاء الوقت حسب ما أخبرني لأن جلوسه في البيت يضايقه، لذا فإن مقابلتي له تتخللها في الغالب التحيات والسؤال عن الصحة والأحوال.. على أنه أبدى في ذلك اليوم ملاحظة أثارت انتباهي إذ قال لي هامساً: ألا تفكر في شراء سيارة يا أبا محمد؟. ابتسمت له وأنا أجيب بكل صراحة: من أين آتي بقيمة السيارة؟ رد بكل ثقة: سوف أدبر لك الحصول على ديْن من أحد التجار فما رأيك؟ قلت: جزاك الله كل خير على هذا السعي.. سوف أفكر جدياً عندما يتيسر الأمر.. مضيت في حال سبيلي وما زلت أفكر في هذا الاقتراح الذي لم يخطر على بالي رغم أن اقتناء عربة أصبح من شروط الوجاهة في مجتمعنا الذي يركض وراء المظاهر في حمى مرحلة التحول.. وبعد أيام شاهدت جاري ليس بعيداً عن داره ربما يترصَّد خروجي، بدليل أنه تقدَّم مسرعاً باتجاهي حالما رآني أغادر باب المنزل خلفي، فسلَّم عليَّ مبتسماً وأخبرني أن موعدنا عقب صلاة العصر في المسجد القريب من زقاقنا.. فشكرته ومضيت إلى عملي مفكراً بما سوف يحدثه اقتناء عربة وإن كانت مستعملة من تغيير في مجرى حياتنا إذ لا جديد في المصروف اليومي الذي يغتال المرتب قبل نهاية الشهر.

وقد أيدني جاري حينما شكوت له من هذا الغلاء الذي بدأ يضرب أطنابه في السوق المحلية فعلَّق قائلاً:

كلنا في الهمّ شرق.. إن شاء الله ربنا يصلح الحال.

فأضفت: الحل هو أن تتدخل الدولة لتحديد الأسعار.

- فرد قائلاً: هذا لا يجوز لأن التجارة حرة.

- الجشع أصبح يعمي القلوب ويصرفها عن الرحمة.

ووصلنا إلى مشارف سوق المقيبرة فقال: علينا بسوق الجفرة فدكان صاحبنا هناك.. وكان يقتضي أن نزاحم المتبضعين في تلك السوق الشعبية حتى توقَّف صاحبي أمام حانوت صغير مليء بأكياس الطعام.. فسلمنا على الرجل ثم رأيته يتهامس معه، فأشار الرجل وهو يحدجني بنظرات مركّزة إلى بعض الأكياس قائلاً:

- ضع يدك عليها.. فسوف تؤول إليك إن شاء الله.

وحالما فرغت من تحسس تلك الأكياس تناول دفتراً كان يضعه بين طيات تلك البضاعة وشرع في الكتابة قائلاً:

- أنت اشتريتها بأربعة آلاف ريال موافق؟

فهززت رأسي بعلامة الإيجاب وسمعته يعقب، لكني لن أدفع لك فيها سوى ثلاثة آلاف ريال فما رأيك؟

فتدخَّل جاري أبو عبد الله معلِّقاً:

- الأسعار متذبذبة هذه الأيام فتوكل على الله وبع.

- فقلت: موافق.

- فعقَّب الرجل: على بركة الله.

وطلب مني أن أوقِّع على الورقة التي كتبها دون أن أقرأها لأنه أشفعها بصرة نقود فتناولتها ووضعتها في جيبي وأنا غير مصدق، وكنت أستمع إلى تحذيره وهو يقول:

- لا تهمل القسط.. كل شهر.. خمسمائة ريال.

فرد جاري بالنيابة عني:

- إن شاء الله.. هو رجل وفي ومثبوت.. فلا يصير خاطرك إلا مرتاحاً.

وكان أكثر أفراد الأسرة سعادة هو ابني الذي أخذ يعدد الفوائد التي سوف نجنيها من شراء السيارة.. أولاها أننا سوف نأكل أكثر وجباتنا خارج المنزل أسوة بما يفعله الجيران في العطل الأسبوعية وأضاف: ثم سأتعلم القيادة بواسطتها بين كثبان الرمال!!

(صدمة المفاجأة)

أبصرته يجلس في ركن قصي من مكان ملتقانا.. زائغ النظرات.. مكتئب المحيا على غير عادته.. بينما عرفناه متفائلاً.. يستعيد من الأحزان جداول فرح، يسخر من الذين يتذمَّرون من مصائب الدنيا، ويستعيدون من الأمس ملامح الفشل.. نعرف أن دخله محدود ومع ذلك يتحدث - بثقة وإيمان - عن ثروات مختزنة في رحم الغيب سوف تتكشف في قادم الأيام.. دعوناه مرة لتجريب حظه في صفقات العقار رد قائلاً: إنني أدفع أقساطاً شهرية من مرتبي تخترم تطلعاتي.. فلا داعي لتضييق الخناق على هذا المتبقي من دخلي لأنني لا أطمع إلى منافسة الباحثين عن الغنى السريع، فدعهم يتصارعون.. أما العبد لله.. فهو يرنو إلى البعيد الذي هو آتٍ ذات يوم.. وليس في الآخرة التي يريدون نسيانها.. إنما بين أصابع هذا الزمن الذي يعبث كيف يشاء، أنه يدفع نحوي ببعض العصافير اللاتي يعزفن أغنيات الغد يضئن العتمة ويملأن القلب بوهج الأمل المتوثّب.. فالحب في ذلك الموقع الصغير يزدهر على مدى لسعات الترقب، ويشحنه بنسمات مورقة.. متطلعاً إلى الزهور فوق ربوات الخدور وجحافل النور.

هو رب أسرة متوسطة العدد.. إنما تترنح في أجوائها مرابض الألفة والترابط، لا يطيق سماع التّوجع لأن يده الكريمة تمسح على الجراح حتى تبرأ.. كان أول الحاضرين إلى جلساتنا حتى لا تفوته ملامح الرفاق يلهثون وراء السراب وقد تخففوا من بطشه.. السيجارة لا تفارق أصابعه لأنها في نظره أقل المتاح مما يطرد الاكتئاب.. وحين يكثر من (السعيل) يتوعَّد شركات التصنيع لأنها تحارب قهر التفكير بزيادة مفعول النيكوتين وتكتم الشكوى من شبح يختبىء خلف رداء الظلام.. سألته مرة ما هي فلسفتك؟ رد بسرعة: أحب الحياة وأستبشر برؤية الوجوه الباسمة والمرأة الجميلة.. هي الفاتحة لشهية الاعتصام ضد شهقة الموت.. تمتلك أسرار التفاؤل ولا تبيح بمكنونها لأنها عصية على الفهم السريع.. ولا تقبل كل تودد لها ما لم يكن نهائياً وليس في أوقات الذروة الشبقية.. أنشأت أبنائي على محبة الدنيا والاغتراف من مباهجها.. وهو ما حفزهم على مواصلة النجاح مما أدخل السرور إلى قلبه.. حتى جاء ذلك اليوم الذي تخلى فيه عن كثير من رؤيته فاستسلم مبرراً تراجعه بأن ملهاة الدنيا تستطيع أن تكسو رداء النعمومة بفيض الأشواك شأن القنفذ في خصاله المتقلبة.. والحرباء في مواجهة الضحية.. ثم أوضح: من يصدِّق بأن زهرة أبنائي - وهي أكبرهم سناً - وقد نالت شهادة الدكتوراه في تحصيلها العلمي يشتبه بأن لديها مرضاً خبيثاً، قال ذلك ثم اغرورقت عيناه بالدموع.. سارع أكثرنا فصاحة ليخفف عنه قائلاً: إن الأعمار بيد الله يا صاحبي وليس الاشتباه حقيقة أو يؤكد مسارعة الأجل.. إنما عليك أن تخفف من صدمة هذه الزهرة اليانعة وتسقيها من رحيق حنانك ومخزون صبرك وتفاؤل أحلامك.. أجاب وما زال يجهش.. هي طلقة سددت إلى قلبي الذي تفرَّغ للأمل دون احتساب الصدمات الجائرة فماذا أقول لها وقلبي يتفطر وأنا أراها تحتمي عن نظرات الشفقة وتعتزل العالم في مغارة الجروح.. تتحسس شعرها بانتظار تساقطه، فقد كرهتْ تذوق الطعام ورائحة الدواء، بل وكفَّت عن أي تحاور من غدر الأمراض وخديعة الحياة، ومع ذلك فقد فتح لها أطباؤها كوة صغيرة حين قرروا إرسال عينات من شرائح الموضع إلى معامل أخرى لعل تشخيصهم أخطأ في تحديده.. على أنه أبلغنا عن عزمه اصطحاب ابنته إلى أوروبا حتى لا يترك باباً للشفاء إلا طرقه لعله بذلك يريح قلبه من السكاكين التي تمزق نبضاته.. بعدها ران على مجلسنا شبح الترقب والأسئلة تنهال والدعوات تتعالى حتى يشفي الله مخلوقاته من وجيب الخوف.. فالأمراض تتناهش الأجساد وتفتك بالعباد ولا راد لقضاء الله وبعد أسابيع خلناها دهراً جاء صوته من وراء المحيطات يرشح بالتفاؤل بعد أن تدنت نسبة التشخيص إلى مجرد أوهام الشك الضعيف.. والعلاج كفيل بمسح تلك الزوائد، وحين عاد افتقدنا فيه الكثير من السجايا.. كانت تلك الصدمة سبباً في ضياع بهجة أحلامه واتساع أفق التفاؤل.

عمل للفنان فان كوخ


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة