Culture Magazine Monday  06/08/2007 G Issue 210
فضاءات
الأثنين 23 ,رجب 1428   العدد  210
 

الاستيراد النقدي وافتقاد النمط الافتراضي
دراسة في بواكير النقد الأدبي السعودي

 

 

(ما أضعف الإنسان إن لم يستطع أن يرفع من قيمة نفسه)

عدد (7) من المنهل، الجزء السادس، 1945، 336

القصد من استخدام كلمة (الاستيراد) في عنوان هذه الورقة أن تكون موازيةً لكلمة (تصدير) التي وردت في استفتاء أجرته مجلة (المنهل) في جزئها السادس من عام (1945-1365) في الصيغة التالية:

(نشأ الأدب الحديث في هذه البلاد قبل عشرين عاماً مزيجاً من تقليد لأدب المصريين وأدب المهجريين، ولا يزال هذا الأدب مبحوح الصوت ضئيل الصدى غير معترف بوجوده لدى أدباء الأقطار العربية المجاورة.. فكان ذلك داعياً للمنهل لأن تبادر في عهدها الجديد باستطلاع آراء فريق من بناة الأدب. يزخر العالم العربي اليوم بطاقة عظيمة من الإنتاج الأدبي القيم الواسع الانتشار والتصدير، وفي بلادنا أدب لم تتجاوز أصداؤه آفاق هذه البلاد، فهل كان خفوت صوت الأدب عندنا ناشئاً عن أسباب داخلية فيه؟ أم عن بواعث أخرى؟ وأياً ما كان الأمر فما رأيكم نحو هذا الأدب: هل يصلح للتصدير؟ وإن كان لا يصلح له فكيف يصلح؟).

وقد استغرب كثير من الكُتاب في ردودهم على هذا السؤال استخدام لفظ التصدير في الإشارة إلى الأدب، وتساءلوا إن كان الأنصاري صاحب (المنهل) يرى أن الأدب بضاعة أو هو محصول وطني، ثم تأتي إجابة حسين عرب مغرقة في المصطلحات الاقتصادية تماشياً مع ذلك اللفظ:

(كل أدب صالح للتصدير سواء كان غثاً أو دسماً، هذا على اعتبار أن الأدب بضاعة تبحث عن مواطن الرواج والنفاق في الأسواق، فالأسواق دائماً لا تضيق بأنواع البضائع، الصالح منها والطالح.. المهم أن نجد وسائل التصدير وأسباب الرواج..).

ولربما كانت كل هذه المفردات مناسبة للحديث عن النقد السعودي ومنتجاته.

اللافت في هذا الاستفتاء أنه ينطوي على طموح وتطلع لأن يكون للكُتاب السعوديين أدب مستقل ذو خصائص ومميزات ليأخذ مكانه اللائق في منظومة الأدب العربي الحديث. وقد حوّل السؤال (بناة الأدب) هؤلاء إلى نقاد يقيّمون المسيرة الأدبية التي شاركوا فيها، ويُصدرون أحكاماً تحدد مدى نجاحها أو فشلها. بعض الردود على هذا الاستفتاء جاء متفائلا وأقرّت على استحياء صلاحية التصدير لأدبنا الذي وإن كان (أدبا تقليديا)، إلا أنه (صالح كل الصلاحية) للتصدير؛ ذلك أن (الذي يستقرئ نهضة هذه البلاد ليحمد لأدبائها الأبرار جهودهم الطيبة المشكورة (في نقل) الحركة الأدبية التي لم تكن في العهد العثماني شيئاً مذكوراً).

(وحولوا) نتاجاً فكرياً سخيفاً لا فنية فيه ولا حياة إلى إنتاج قيم ومتطور، ف(الشعر والنثر والأقصوصة والرواية قد نضجت عندنا وآتت أكلها أضعافاً مضاعفة)، (وما نحن في قافلة الأدب بالمتخلفين؛ فعندنا من الشعر والنثر ما يسمو إلى الذروة المرموقة..).

وعلى الرغم من تردي الأوضاع المحلية التي تفتقر إلى (الميادين الفسيحة والمطابع الفاخرة والصحافة الرفيعة والإقبال الهائل وشيوع التعليم بين طبقات الأمة)، على عكس الأدب العربي الحديث الذي وجد الأداة والوسيلة والجو والتشجيع والتقدير في البلاد التي قدر لها أن تسبقنا في الطباعة والصحافة والتعليم، فإن محمد عمر عرب يشهد بأن الأدباء الحجازيين قد (تغلغلوا في صميم الحياة الواقعية تارة، وحلقوا في أجواء الخيال أخرى، فأنتجوا لنا آثاراً قيّمة حَريةً بالتقدير وجديرة بالإعجاب، آثاراً عليها طابعها الخاص...)، لكنه يرى أن العنصر الزمني هو المسؤول الأول عن أي ضعف بالمنتج الأدبي؛ إذ إن (الأدب في الحجاز أدب ناشئ؛ فهو وليد الربع الثاني من هذا القرن، وهذا الزمن ضيق المدى لا يكفي لتكوين أدب قوي ممتاز كالأدب في مصر).

لو عدنا بهذا الزمن إلى الوراء، أي قبل عشرين عاماً من هذا الاستفتاء، نجد أن محمد سرور الصبان قد جمع في كتابه (أدب الحجاز 1923-1344) إنتاج أدباء كانوا ناشئة حينها ولم تكن ثقتهم في قدراتهم قد بلغت النضج الكافي، فقدم لهم الصبان في كتابه على استحياء بقوله: (إني أصدر هذه المجموعة الشعرية والنثرية من عمل شبيبة اليوم، وأنا شاعر بما فيها من قصور، وأنا شاعر أن قيمتها الأدبية ربما لا تساوي شيئاً في سوق الأدب، بل ربما تكون محل سخرية من البعض، كما تكون محل عطف وتشجيع من الآخرين).

ولو أنصتنا بعد عقد من صدور أدب الحجاز إلى الخطاب النقدي لسمعنا إنذارات عالية تحذر من انسياق أدبائنا في طريق التأثر بما يقرؤون، فها هو عزيز ضياء ينعى الأدب المحلي الذي لا يقصد إلى غاية وليس فيه روح وليست فيه قوة، ولا أرى لأصحابه إلا أن يدفنوه. تعود أسباب الدعوة إلى هذا الوأد المبكر إلى تمثل القدوة إلى درجة تخنق الأصالة: (وليس كل ما يطالعك به أدباؤنا في كل أسبوع إلا محاكاة فاشلة لما نقرأ من أدب المصريين.. سترى كلاماً كالكلام الذي يؤدي به العقاد واجبه الأدبي، أو كالكلام الذي يتحدث به طه حسين عن الأدب العربي، أو كالكلام الذي يؤلف به المازني قصصه. سترى أساليب أولئك الأدباء بنفس الألفاظ ونفس الجمل.. الأدب عندنا يشعوذ ويدجل فقط. أقول هذا وأنا أعلم أن هذه الحقيقة ستغضب كثيراً من الأدباء وستثيرهم، وأنا على علم أنهم سينكرون هذه الحقيقة، ويزعمون أن أدبهم قد بلغ أشده وأصبح قادراً على أن يدعي لنفسه شخصية قوية مستقلة وصفة ممتازة مشرفة. وأنا مع هذا حريص على أن أرضيهم فأعترف لهم أن أسلوبهم لا يقل في متانته وقوته وإشراق ديباجته عن أرقى ما نقرأ لكبار الأدباء في مصر وغيرها، وأنا أعترف أنهم وفقوا كل التوفيق إلى إتقان الكتابة بأسلوب العقاد وطه حسين وهيكل والمازني).

ويكرر عبدالسلام الساسي في تقييمه للمنتج المحلي تشكي عزيز ضياء من الافتتان بالأدب المصري إلى حد تمثله ونسخه في مؤلفات.. (لا تخلو في موضعها عن النقل من كتب الأدب والإنشاء التي ملتها الأسماع ولاكتها الألسن، فكيف وهؤلاء المؤلفون الكرام يأخذون طرفاً منها ويصوغونها في قوالب التأليف وتسمى بعدئذ مؤلفات حجازية؟).

بعد عشرين عاماً من ممارسة الأدب يأتي استفتاء المنهل ليكشف بقوة عن التقييم النقدي الذي ما زال غير راض عن المستوى الفني والفكري للمنتج المحلي. يقول أمين مدني: (غير أن الحقيقة المؤلمة التي لا مناص من المجاهرة بها أن أدباءنا كتاباً وشعراء لم يجاروا النهضة الأدبية كحفدة لمعشر عكاظ.. وأن منهم من كان في أكثر ما نشروه سطحيين، فكانت موضوعاتهم عجالة؛ لعدم تغلغلهم في صميم الموضوعات التي يطرقونها). ويؤكد ذلك عبدالله عبدالجبار قائلاً: (وإذا نظرنا إلى الأدب الحجازي في العهد الحاضر ألفيناه في جملته لا تفصيله أدباً لا يقوى على تجاوز البلاد، بل إن بعض ألوانه يولد هزيلاً مهيض الجناح لا تكاد تسمعه أو تقرؤه حتى تراه وهو يحتضر.. فأدبنا لا يحمل في ثناياه عناصر الحياة والبقاء). حتى تفاؤل أحمد السباعي بصلاحية تصدير الأدب لم يثنه عن القول بأن أدبنا (ناضج في مجموعه وليس بناضج.. هو من ناحية الفكرة قوي، أما عناصره فرخوة). ثم يفاجئنا صاحب الاستفتاء في افتتاحية العدد الثامن من المجلد السادس بعينه بتصريح خطير حدد طبيعة النشاط الأدبي الذي شغل الكُتاب على مدى هذين العقدين. يقول الأنصاري:(تبين أن أدبنا كان لآخر لحظة مطبوعاً بطابع (المحاولة والمران). فكان في جملته أدباً تمرينياً يهيم في كل وادٍ ويسعى وراء كل ناعق، ويتلمس الاقتباس من كل سار، ويستمد كيانه من الاستعارة الخفية أحياناً، ومن الاستعارة الجلية حيناً، ويقوم معظم أمره على الأسقاف واللف والدوران على نفسه وعلى القائمين به). هل عجزت كل هذه المحاولات والتمرينات عن أن ترفع المنتج المحلي إلى مستوى ما سماه الأنصاري بأدب (التثفيف والتقويم) أم تراها هي كثرة (المحاولة والمران) التي أتخمته حتى أعجزته؟

في السنوات القادمة لن تتغير قسوة هذا الحكم النقدي في تقييمه للأدب المحلي ونعته بالضعف والركاكة والإفلاس، ففي مقدمته لكتاب (شعراء الحجاز في 1370) يستثني حمزة شحاتة الشعراء السرحان، وعواد، وقنديل، وحسين عرب من بقية من ضمهم هذا الكتاب، فهو يرى أن منهم (مستحق الرثاء ومنهم مستوجب التعزير حتى يعلن التوبة من رفع عقيرته بمثل هذا الهراء ظنه شعراً فأفسد به أو كاد هذه المجموعة.. فانطلقت منها هذه الأحياء الشاعرة تكثيراً للعدد أو إغراقاً للسوق بالعملة الرديئة...). ولو أننا تقدمنا في الزمن أكثر إلى عام 1378، أي بعد مضي ثلاثة عشر عاماً من صدور المجلد السادس للمنهل، لطالعنا عبدالكريم الجهيمان بشكوكه في وجود شيء لدينا يصح أن نطلق عليه كلمة أدب. فأدبنا (لم يستطع حتى الآن أن يقف على قدميه بل هو لا يزال يسير ويتعثر، وهو حتى الآن أيضاً لم تتحدد معالمه ولم تتميز سماته ولم يتخذ طابعاً مستقلاً معروفاً يميزه عن سواه ويجعله وحدة قائمة بذاتها لها أشكالها). بعد كل هذه المحاولات والمران على مدى ما يقارب أربعين عاماً، ما زال النقاد يرون أن أدبهم المحلي متعثر، وهذا ما يتعجب له محمد عمر توفيق قائلاً: (أما أن ننتج آثاراً عليها طابع الأدب المصري الحديث بعد أن قطع في اتجاهه كل هذا التاريخ الطويل، فذاك ما يبدو غريباً في نظر تاريخ نهضة الفكر وسيرها البطيء! كيف دخل منتجنا الأدبي في هذا المأزق الشائك؟ ولماذا يظل مسخاً فارغاً مبحوح الصوت في تقدير النقد الذي ينفي وجوده، مهما تقدم به الزمن؟

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة