Culture Magazine Monday  06/08/2007 G Issue 210
فضاءات
الأثنين 23 ,رجب 1428   العدد  210
 

بينما يحدث في بغداد الآن
قاسم حول

 

 

(الكاتب جلال نعيم.. ولد ببغداد 1968، درس الأدب واللغة الإسبانية في جامعة بغداد، له (اليوم الأخير للمطر) قصص - دار ألواح - مدريد 1998، له ترجمات عن الإسبانية والإنجليزية، يكتب في الشعر والنقد والسيناريو السينمائي، يقيم في الولايات المتحدة منذ 1999، يعمل سائق تاكسي في لوس أنجلس حاليا، ويعتقد أنها أجمل مهنة في العالم).

هكذا يقدم جلال نعيم نفسه في غلاف الكتاب المعنون (بينما يحدث في بغداد الآن؟).

لا يصح القول هل الموهبة سبقت المهنة أم المهنة سبقت الموهبة عندما تقرأ قصة ليزا وأخواتها، عن زبونته الدائمة ليزا التي ينقلها إلى لاس فيجاس في سيارته التاكسي. فالموهبة ليست فقط تسبق المهنة، بل هي سبقت الوجود ومن دونها ما كانت الحياة أن تكون. لم أسمع باسمه قبل أن تصلني حكاياته في هذا الكتاب، وهذا ليس ذنبي ولم يكن ذنبه، ومن الصعب أن نقول ذنب الوطن، فقد علمونا أن نقول (وطني دائما على حق)؛ ولذلك عشنا مسلوبي الحقوق، ومن الحقوق التي سلبت مني الوثيقة، فصرت دائم البحث عن وثيقة سفر وهوية إقامة وبلد يقبلني ضيفا أو مواطنا فيه حتى أني لم أسمع باسم جلال نعيم أو غيره من الجيل الذي جاء بعدنا. هناك أسماء تبدو وكأنها أسماء مستعارة لكثر ما هي منسجمة مع ذاتها، ولا أدري إن كانت المصادفة هي التي ترتب الأسماء المنسجمة أم أن آباءنا يبحثون عن هذا الهارموني عند الولادة عسى أن يسلك الاسم بضرورة معناه دروب المحبة والإبداع، أو أن يدرك الشخص عندما يكبر في الحياة أن اسمه لا يسمح له بأن يبدو سيئا أو مثيرا للشبهات. وجلال نعيم تكوين لا خيار له غير الإحساس بالأشياء والتعبير عنها بحكاية، بقصة، بسيناريو قد يتألق يوما على الشاشة وتبدأ وسائل الإعلام بالحديث عن سائق التاكسي الذي أصبح نجما، وربما لن يتخلى عن مهنته حتى في أشد حالة التألق والرفاهية.. هكذا أشعر وأنا أقرأ في بطاقته (يعمل سائق تاكسي في لوس أنجلس حاليا، ويعتقد أنها أجمل مهنة في العالم)

كان لا بد لسائق التاكسي هذا أن يغادر وطنه؛ فهو لم يغادر وطنه لأن السيارات صارت مليئة بالمفخخات، ولكنه غادر وطنه لأنه يحب الكتابة، لأنه يحب وطنه، أو يحب وطنه لأنه يحب الكتابة، فيحمل الإنسان وطنه في جيبه ويغلق عليه (بالساحب) حتى لا يمد اللصوص أيديهم ويسرقوا الوطن، فخاف عليه وهاجر نحو الولايات المتحدة الأمريكية التي جاءت لتنقذ الوطن من الدكتاتور فخلصت العراق من الدكتاتور حقا ولكنها في ذات الوقت خلصت الوطن من جلال نعيم.

وجلال نعيم موهبة حقيقية، أعجبتني قصصه كلها، ولكل منها مذاق خاص، وهو يتعرف على شخصيات أمريكية أو تعيش في أمريكا من خلال مهنته، وهو بحد ذاته موضوع ظريف ومثير للكتابة والقراءة، ولعل قصة ليزا وأخواتها أكثر الحكايات إثارة ووضوحا في شخصياتها، مع أن كل شخصيات قصصه هي مرئية وواضحة لأنها حقيقية.

في قصصه كان جريئا في التعبير، ربما لأنه تحرر من الخوف في العراق الذي ضمه في جيبه فأخذه معه ورحل خوفا عليه من اللصوص. قصته الأولى في المجموعة هدوء القمر هي في بغداد وعن بغداد، حيث الموت بالصدفة وحيث تكثر المصادفات بل تصبح قاعدة وليست استثناء كما تشخصها قوانين الدراما.

طبع الكتاب في إسبانيا في دار النشر العراقية (ألواح) التي تصدر للعراقيين في منافيهم. ودار ألواح ليست وحدها التي تأسست مع الهجرات منذ سنوات طويلة، بل هناك الكثير من دور النشر التي أسسها العراقيون لأنفسهم بعد أن عزفت دور النشر في فترة ما عن قبول نتاجات العراقيين الذين رفضوا القمع وتكبيل حرية التعبير؛ وذلك لمنفعة الكثير من دور النشر من مؤسسات النظام الدكتاتوري في العراق. وكان تأسيس دور نشر محدودة القدرات في التوزيع، لكنه كان حلا عمليا للكاتب حيث تطبع دار النشر بضع مئات من المطبوع وتهديها لكاتبها الذي يتولى بدوره عملية التوزيع على الصحف والكُتاب والنقاد والأصدقاء ويحمل عشرات منها كلما أقيمت ندوة أو انعقد مؤتمر. تحصل أحيانا دور النشر على دعم من بلديات أو مؤسسات الثقافة في أوروبا.

ليزا وأخواتها

(شفت حبيبي.. وفرحت معاه.. ده الوصل جميل.. حلو يا محلاه.. أدندن معه بينما يرن هاتفي النقال، هي رنة ليزا الخاصة، سأرفع الهاتف وتسألني أين أنت كعادتها، وكعادتي سأكذب عليها مثل أي سائق تاكسي احترف الاثنين، سأقول إنني على بعد ربع ساعة منها، كي تنتظرني ولا تلجأ إلى تاكسي آخر.. وسأصل إليها بعد ثلاثة أرباع الساعة أو أكثر وسألعن الزحام الذي يتخم هذه المدينة من شمالها إلى جنوبها. هذا يحدث غالباً، ومع الزبائن الخاصين تحديداً، وهو ما لم يحدث معها سابقا، فقد تغيرت مواعيد اتصالاتها هذا الشهر فجأة، وبعد أن كانت تتصل مساء كل اثنين، باتت تتصل في أوقات مختلفة رغم أنها ما زالت تحتفظ بعملها نفسه كمعينة في دار للعجزة، وتعمل سبعة أيام في الأسبوع ولأربع وعشرين ساعة في اليوم، فلا يتبقى لها غير ساعات تسترقها لتتصل بي لأقلها إلى كازينو قمار تعلب فيه البوكر لتخسر ثم تربح ثم تخسر ثم تربح، ويندر أن تغادر وفي جيبها دولار واحد. أما أجرتي ومن ضمنها أجرة الانتظار الذي أقضيه في القراءة غالبا، فأستحصلها في اليوم التالي أو في الرحلة القادمة.

هاأنذا أركن سيارتي حيث تقف، بعد خمس وخمسين دقيقة فقط. قلت ربع ساعة. قلت ربع ساعة أو أكثر يا ليزا.. تعرفين بألا أحد في هذه المدينة يمكنه التكهن بالوقت الذي يمكن أن يصل فيه إلى أي مكان).

تبدأ رحلة سائق التاكسي.. رحلة الكاتب مع ليزا فتنكشف أمامنا عوالم مثيرة للتأمل لاكتشاف الذات واكتشاف الخفي، عوالم الإنسان، الذي نعرفه ونعرفها أو التي لا نعرفه ولا نعرفها، ليس سوى عبر الفن والأدب والرؤية الواعية ومشاهدة الأشياء بعين الرؤية الواعية والحس المرهف. والأجمل من كل هذا عدم الخوف من قول الأشياء كما هي وبلغتها.. أهو موقف التمرد على المألوف أم هي الواقعية التي يخاف منها الكُتاب ويعمدون على دفنها حية. جلال نعيم لا يفتعل المكان والحدث حتى يقول ما لا يمكن أن يقال، لكن الواقع هو هكذا، يمر عليه، يراه يتحدث عنه، لا يرفضه ولا يقبله ولا ينقده بل الواقع نفسه ينعكس على المادة السليلودية للإنسان فيحدث انعكاسا. ولأن سليلود الإنسان هو غير طبقة الفيلم الحساس السليلودية فإن انعكاسها لا يكون واقعيا بالمعنى الفوتوغرافي للكلمة.

بينما يحدث في بغداد الآن

هذه العبارة هي ملصق صغير يضعه الأمريكيون على مؤخرات سياراتهم للتذكير بما يجري في العراق. وكان هذا الملصق موجودا ربما على سيارة التاكسي التي تمتلك الكاتب في حنينها وتعطيه الحرية والخبز وتكشف له عوالم الحكايات التي قد يتألق فيها يوما. (كثيرة هي الأشياء التي لا تفكر فيها وأنت تقود سيارتك في صباح لوس أنجلوس لذيذ، حتى بعد أن تؤرث سيجارة أخرى، وأنت تحاول أن تضيء الجوانب المعتمة في دماغك بأنوار حمراء وأخرى وردية تجنح لهدوء لم تألفه منذ زمان. تضغط دواسة البنزين لتخترق الطريق السريع لينقلك من مدينة إلى أخرى بسرعة أكبر. بيفرلي هيلز التي غادرتها توا، تبدو أشبه بشجرة عيد ميلاد مضاءة ناعمة ومشذبة وكتومة على أسرارها التي بت منذ الليلة، تمتلك إحداها. سانتا مونيكا تمتد أمامك وقد غادرت بهجة ضجيجها، طردت سائحيها إلى غرفهم وراحت تنام مع مشرديها الدائمين، وهم يحتضنون أرصفتها وكأنهم يرضعون ما تبقى لهم من حرية وقرار متواصل. كثيرة هي الأشياء التي لا تعبأ بها وأنت تقود سيارتك في صباح يوم أحد لوس أنجلوسي عذب. البار المنطفئ إلى يسارك شهد ليالي أخرى، قد تكون أكثر عذوبة ولكنها ربما كانت أقل عصفاً من ليلتك التي لم تنم فيها هذه، فرحت تذرع الشوارع بسيارتك وكأنك تتنشق عذوبتها لأول مرة. هل كانت آشلي أم هو رايان اليهودي الطيب كما تسميه مع نفسك واللعين كما يلذ لك أن تناديه. لا مفر. اتصل بي الليلة بعد غياب بلا سبب، هكذا وكأنه فارقني قبل ساعات لا أكثر. وقبل أن أطلق منبه سيارتي خرج لي راكضا...).

أن يتمتع سائق التاكسي وهو الكاتب بكل تفاصيل الأشياء التي يراها وهو في مهنته وفي محنته، فيرى دقائق الشبابيك والأضواء ويخزنها في ذاكرته ويحسها ويعمق الإحساس بها.. لا أدري متى يكتبها هل يأخذ إجازة للكتابة من زبائنه ليؤرخهم أم يكتب وريقات وهو ينتظر ليزا لتنهي فصل لعبة القمار حتى تخسر ما بجيبها وتعود إليه.. هي ليست مذكرات سائق تاكسي إنما ما جمعته (بينما يحدث الآن في بغداد) هي قصص لكاتب عراقي يعيش في المهجر إن صح التعبير، فأمريكا هي مهجر وعند البعض هي حلم؛ لأنها تجمع المتناقضات وتقدم الفرص في الروليت الحياتي، وهي وحكاياتها تختلج في ذات الكاتب الذي يحتفظ بوطن في جيب سترته المغلق بالساحب حتى لا يسرقه اللصوص.

دور النشر العراقية في الغرب هي الحل المنصف الذي لا يخضع للرقابة العربية، تجربة لا يزال جمهورها محدودا ودعمها هو الآخر محدودا، ولكن أن يتحول الإبداع إلى كتاب ويصبح في المتناول، فتلك نعمة قد لا تتوافر بمعنى الحرية حتى في أشد حالات التحرر مثالية مثل لبنان وسط عالم عربي رقيب.

تحية لدار النشر في إسبانيا (ألواح) التي أتمنى أن تتفوق أكثر في طباعتها وفي إخراج المطبوعات حرفا وحجما وورقا حتى تعوض عن عدد المطبوع وتصبح ميزة جديرة بعراق ذي تاريخ تم الاتفاق على تهديمه لأسباب غير مكتشفة بعد. وتحية إلى المبدع جلال نعيم الذي يعتبر مهنة سائق التاكسي هي أجمل مهنة في العالم.. أكيد بعد الكتابة عندما تصبح الكتابة مهنة مثل مهنة كاتب السيناريو في قصته (Little Sad dam) الذي يكتب حكاياته الكوميدية

ويتقاضى عنها عشرين ألف دولار في الأسبوع (بينما يحدث في بغداد).

- سينمائي عراقي مقيم في هولندا Sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة