Culture Magazine Monday  06/08/2007 G Issue 210
قراءات
الأثنين 23 ,رجب 1428   العدد  210
 

هدى الدغفق ولهفة جديدة وتجليات البنية الشعرية القصيرة
عبدالله السمطي

 

 

الديوان بأكمله يتشكل من (935) كلمة، وهي نسبة شحيحة جدا في مشوار الشاعرة، بالقياس إلى عدد النصوص (32) نصاً.

الصيغة التعبيرية التي تترى فيها الجمل الشعرية لدى هدى الدغفق تأتي بشكل يحتاج إلى إعادة الصياغة التركيبية.

(1)

تترى النصوص الشعرية القصيرة التي يحتوي عليها ديوان الشاعرة هدى الدغفق: (لهفة جديدة) في ثلاثة حقول دلالية، تشكل جميعا البنية المهيمنة على حركة النصوص، ومسعاها الرؤيوي في تشكيل التجربة، وتوصيل رسالتها.

وتتمثل هذه الحقول في:

1- الذات الشاعرة، ورصد الأبعاد النفسية والوجدانية التي تعترضها.

2- الزمن، بمفرداته، ومواقيته، وهاجسه التاريخي.

3- الطبيعة، بما تنطوي عليه من صور الحياة العضوية، وبهجة اللون، والحركة، والصوت.

هذه الحقول تتسع أحياناً، وتتكثف أحياناً أخرى تتقاطع، وتتنافر، تتماهى وتفترق لتشكل في التحليل الأخير الصيغة الرؤيوية للشاعرة، وهي صيغة لا نستطيع أن ندعي - خلال القراءة الفاحصة للديوان - بتمايزها، أو انفراعها في مسرب خصوصي، عن السياق الشعري العام الذي تأتلف فيه تجربة الشاعرة، وتترامى في مجالاته.

بل يمكن التأكيد على أن: (لهفة جديدة) هو بمثابة جملة من المقاصد الدلالية المطواع المركوزة على انبثاقات معهودة، وعلى سنن من التآليف الشعرية مألوفة، ومنسوخة.

ولا ينسرب بعيدا عن ذلك سوى بعض الخطرات الشعرية، والسردات الشعرية - إذا جاز التعبير - التي تدرج في بعض النصوص القليلة حد الندرة في الديوان.

ما هو السؤال الذي يمكن استشفافه بداية من هذا الديوان، ولنترك هواجس الإضافة، والتراكم الفني الكيفي، وجدة النتاج الشعري جانباً؟.

إن السؤال الذي يمكن طرحه هنا قبل أن نبين المجالات الدلالية الثلاثة السالفة، هو سؤال الشكل حيث تتبنى هدى الدغفق في هذا الديوان، وديوانها الأول: (الظل إلى أعلى) البنية الشعرية القصيرة، لتصب تجربتها الشعرية عبرها، وهذه البنية - على خطرها - نجدها بنية يسيرة، سهلة لدى الشاعرة لا تقدم طريفا، ولا تحتفي بتعبير قشيب.

(2)

يتشكل ديوان: (لهفة جديدة) من 32 نصاً شعرياً قصيراً جداً يستثمر آلية الجمل القصيرة، واستخدام كلمات قليلة جدا على مستوى الجمل والأسطر الشعرية، وهو ما يفضي إلى القول بالكتابة بالحذف، أو التكثيف، وهو الأمر الذي يتحقق على مدار نصوص الديوان بوصفه كلا.

ويمكن لنا مبدئياً النظر إلى هذه الإحصائية:

عدد النصوص 32

عدد الصفحات 60

عدد الكلمات 935

عدد السطور 466

من هذه الإحصائية تتبدى لنا جملة من النتائج:

- إذا قسمنا عدد الكلمات على عدد السطور فإن كل سطر شعري يتكون في المتوسط من كلمتين تقريبا بواقع 2.006 لكل سطر شعري.

- إذا وزعنا عدد السطور على عدد النصوص، فإن متوسط كل نص يتكون من 14.562 سطراً تقريباً.

- إذا قسمنا عدد الكلمات على عدد النصوص، فإن عدد كلمات كل نص: 29.218 كلمة.

- أطول النصوص بالديوان هو نص: (الكرسي ليس قلبي) ويتشكل من 78 كلمة.

- أقصر نص بالديوان هو نص: (انسجام) يتكون من 6 كلمات.

من الجلي هنا أن الديوان بأكمله يتشكل من (935) كلمة، وهي نسبة شحيحة جداً، بالقياس إلى عدد النصوص (32) نصاً، لنقل إنها أيضاً نسبة مكثفة جداً، ومتقشفة إلى حد بعيد، وهو ما يعطي قراءة النصوص أيضاً قراءة فاحصة ومكثفة لقراءة ما وراء الكلمات والسطور.

إن مغزى هذا التقشف وهذه الكثافة أن تعطينا قدراً كبيراً من استشفاف الكلمات، وأن يكون لكل كلمة قيمتها الدلالية الكبيرة في إنتاج الصورة وإنتاج المعنى، وإنتاج المفارقة أيضاً، على اعتبار أن الاشتغال على البنية القصيرة المكثفة، أو على النصوص الفلاشية ينجم عنه - بالضرورة- كثافة في الرؤية- الرؤيا، وكثافة في البعد المفارق للنصوص، كما يبدو من سياقات النصوص القصيرة المنتجة في زمن الحداثة وما بعد الحداثة في الشعرية العربية.

إن القصائد القصيرة التي نكتبها - فيما يرى روبرت شولز - هي في الأعم الأغلب نسخ إجمالية مختصرة لما يمكن اعتبارها بسهولة نصوصا تأملية أو خطابية أو سردية أو درامية،

وهي غالبا ما تكون توليفا من أنماط الخطاب هذه ومن غيرها (روبرت شولز: سيمياء النص الشعري، من كتاب: اللغة والخطاب الأدبي، ترجمة: سعيد الغانمي ص 95) ولذا فإن الاشتغال على هذا النمط في مجال البنية القصيرة، هو اشتغال دال يتخلى عن الاستطراد في ذهابه للكثافة، وعن الحضور في تأكيده الغياب، وعن الوجود في استثماره للحذف، وهو يسعى إلى التجريد، وإلى المفارقة على مستوى الكلمات والمعاني.. إنه في النهاية اشتغال على الكلمات، وعلى الجمل القصيرة جداً.. فهل تجلى ذلك كله في نصوص هدى الدغفق؟.

(3)

تستهل الشاعرة هدى الدغفق ديوانها بنص قصير بعنوان: (سماؤها) يقول النص:

نتفت ريشتيها

العصفورة

ناولتهما إياه

طارتا

يداه جناحان (ص 7)

يتشكل النص من ثماني كلمات، وهو يترى في حركات أربع، تشكلها الأفعال الثلاثة الماضية، والجملة الاسمية نهاية النص، ولأن النص لم يشكل فهو قد أوقعنا في ربكة دلالية تبحث عن إعراب النص، وبالتالي عن معناه، فكلمة (العصفورة) هل هي مرفوعة فتكون هي (الفاعل) أم منصوبة فتكون (مفعولاً به ثانياً) أو (بدلاً) وبالتالي نبحث عن فاعل مؤنث مستتر تؤكده تاء التأنيث في (نتفت) و(ناولت)؟.. ما أريد أن أشير إليه هنا أن هذه الربكة الدلالية ليس محلها على الأرجح البحث عن الترتيب النحوي، بل أريد أن أذهب إلى أن الصيغة التعبيرية التي تترى فيها الجمل الشعرية لدى هدى الدغفق تأتي بشكل يحتاج إلى إعادة الصياغة التركيبية، وإلى ترتيب التقديم والتأخير الذي ترد به الكلمات والجمل في النصوص، فهي صيغ تعطي نوعا من الأسلوب غير الدال أو المنتظم الذي من المفترض أن يدل على التجربة الشعرية للشاعرة، ويعطيها ميزة خصوصية ما، أو نسيجاً أسلوبياً معيناً، تتفرد به في السياق الشعري الراهن.. وهذه بعض النماذج التي تحتاج إلى إعادة كتابة لتعطي كثافة المعنى، وجمالية الصورة:

- رقة تنساب

بين أصابع الموج

خصرها اليدان

دموعها الأرجوانية

شفق

تسكبه البرتقالة

في كأس عاشقها

أحلاما

ترتعش

في يد الشاطئ

كل يوم يزفها إليه (ص 35).

- (مثلنا من تراب. جدار الحلم. طعنه. مسمار أحبته. تطاير. دمه. في غرف الدار) (ص38)

- القهوة

وحدي

ذاكرة

أتأجج.

أظافري تتعرى

تسبقني

إلى وليمتها. (ص 59)

مثل هذه النماذج تتكرر كثيراً في نصوص الديوان، وهي تقاسي من ركاكة الصيغة، ومن فقدان جمالية الأسلوب على الرغم من الإيهام بأنها كتابة حذف، أو كتابة تكثيف.

وربما كان مرد ذلك هو هذا التقديم والتأخير المتعمد الذي لم يتخذ من تلقائية الكتابة مسرباً له، حيث يمكن إعادة النصوص لصياغتها بهذا الشكل مثلاً: (جدار الحلم مثلنا من تراب.

طعنه مسمار أحبته) و(القهوة ذاكرة). وحدي أتأجج (وهذا افتراض للقراءة، بيد أنه يعطي التوصيل الدال، ويحفز القارىء على التجاوب الفعال مع النص. ولا تقف هذه الصياغة المرتبكة عند حد التقديم والتأخير، بل تتعداها إلى إيقاعية النصوص في الديوان، حيث تمزج الشاعرة أحيانا في بعض النصوص بين ما هو موزون عروضيا وبين ما هو نثري، بيد أن هذا المزج لا يتم بشكل منتظم.

في نص (صدى) وهو النص الثاني في الديوان، تمزج الشاعرة بين ما هو تفعيلي وما هو نثري، ولكن دون أن يشي ذلك بأن ثمة انتظاماً دلالياً في هذا المزج، لأن الشاعرة لا تعطينا مفاداً دلالياً أن هذا المزج سوف يفضي إلى بنية جمالية مؤثرة، نستشف عبرها أن ثمة تحولاً في إيقاعية النص، وأن هذا التحول يحمل قصدية ما من لدن الشاعرة، يقول النص:

أحيانا..

أبكي هذا القمر المتسلق غرفتنا

ما ذنب عقاربه

تضي؟

أسلمه الوحدة

كل مساء

يسلمني عينه العاشقة. (ص 8)

وفي نصوص أخرى نجد هذا المزج غير المنتظم، وغير الفعال دلالياً أو جمالياً، أو إيقاعياً في نصوص: (تلميذات، ص 17) (حنان ص 21) (خرير ص 22) (دفؤهم ص 23) (رحيل ص 25) وعلى العكس من ذلك، نرى هذا المزج الإيقاعي يقدم دلالته عبر الفصل بين مقطعين في نص بعنوان: (المعنى) (ص.ص 29-30) فالأول يأتي بإيقاع المتدارك، فيما يأتي الثاني نثريا، ليقدم مستويين دلاليين متقابلين إيقاعيا ودلاليا، مما يعطي المبرر الجمالي لهذا المزج.

(4)

توغل هدى الدغفق في التذكر، تذكر الطفولة، مرحلة المدرسة، تذكر الماضي.. الماضي هنا يستعاد ما بين التذكر من جهة، وبين التخيل من جهة ثانية، وإذا كان التذكر يقيمه فعل السرد، فإن التخيل تقيمه الصورة، وإذا كان فعل السرد يتأدى بشكل قصصي فإن فعل الصورة يتأدى بشكل غنائي مكثف، وهنا ينتج التوتر الشعري الدال الذي نلمسه في نصوص مثل: (سبورتي البعيدة ص.ص 26-27، تشييع ص 36-37، أي امرأة أنت ص.ص45- 46، الكرسي ليس قلبي ص.ص 49-51) وهذه النصوص هي أبرز ما يعطينا الديوان، فهي ذات تماسك رؤيوي دال، وذات بنى جمالية متميزة على المستوى الصياغي وعلى المستوى النسقي بوجه عام.

تقول الشاعرة في نص: (سبورتي البعيدة):

لم أعد التلميذة الساكنة في كرسيها

وما زلتُ أفر

من كل دفتر يشبه دفتر المدرسة

قبل أن ألبس العباءة

نسجتُ روحي عباءة لدفتري

فيه خبأت بذورها

لا أدري.. بعد!

لماذا تنبت في الصف؟ (ص 26)

وإذا كان هذا التذكر والتخيل هو أحد الخواص الذاتية بالديوان، فإن هذا يفضي بنا إلى استرجاع الحقول الدلالية التي سبقت الإشارة إليها وهي: الذات، والزمن، والطبيعة.

إن الذات الشاعرة في الديوان تسعى للملمة أحزانها عبر الإصغاء إلى الأشياء، ومراقبتها، وكسر رتابة الواقع، هنا يصبح الطائر، والعصفور، والشجرة، والقمر، والساعة، والعباءة، والكرسي، والدفتر، والجدار - على سبيل المثال - دوالا تتقنع بها الذات، وتبوح برؤاها.

إن هذه الدوال هي المضاد الدلالي الذي تتقنع به الذات الشاعرة في مواجهة: البكاء، والوحدة، والسكون، والألم، والموت وهي دلالات تتوارد بنصوص الديوان.

واستدعاء الزمن، وآلة الوقت من الحقول الدلالية الواردة بالديوان، وهي تتأتى في عدة نصوص، وتعبيرات مبثوثة في الديوان.

أما حقل الطبيعة فهو ينتشر بكثافة في الديوان، بيد أن الرؤية الشعرية لدى هدى الدغفق في هذا الحقل رؤية رومانتيكية محض، وهذه الرؤية غير المطورة شعريا، لا تتضمن - على الأقل - أزمات الإنسان المعاصر، أو ملامسته لعذابات الإنسان العميقة، ومكابدات الواقع، بل مجرد تكرار رؤيوي يحتفي بالعصفور، والغصن، والشجرة وكأن الشاعرة تستعيد - على مستوى الرؤية - ما تم نسجه شعريا من قبل شعراء بدايات القرن العشرين الميلادي، وعلى مستوى اللغة الشعرية لا تفضي هذه الرؤية بتجديد ما، أو بتمايز شعري على نحو مخصوص.

(5)

هل قدمت هدى الدغفق هنا نصوصاً تشي بالتميز والخصوصية، وتدل على أن ثمة شاعرة لها نسيجها الشعري الخاص.

إن الشاعرة لا تقدم تجارب شعرية لافتة، إنها تقدم كلمات في بنى نصية قصيرة جدا لا تقنعنا تماما بأننا حيال شاعرة لها تجربة كثيفة، فإصدار ديوان يحتوي على (935) كلمة ينم عن هذا الشح الشديد في الكتابة الشعرية، خاصة أن هذا هو الديوان الثاني للشاعرة المولودة في العام 1967م كما تشير في الديوان، ويأتي هذا الديوان بعد الديوان الأول (الظل إلى أعلى) الصادر في العام 1997م أي خلال تسع سنوات أصدرت الشاعرة (935) كلمة!! والحضور الشعري اليوم يتطلب كثافة في الإصدارات، وعلى الرغم من تيقننا أن كثرة الإصدارات لا تعني التميز الشعري لكن لابد من إقناع القارئ على الأقل بأن ثمة نتاجا شعريا متواليا للشاعر، وإلا فإن الشعر الشحيح المنتج هنا هو مجرد كتابة عابرة لا تسمن ولا تغني من جوع.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة