Culture Magazine Monday  06/08/2007 G Issue 210
سرد
الأثنين 23 ,رجب 1428   العدد  210
 
قصة قصيرة
بين نخلتين
محمد بن عبد العزيز الموسى

 

 

كان الموعد المضروب أن أتوجه إلى مزرعته التي تقع في منطقة هيت بالخرج، كانت دعوة على وليمة الغداء، بينما كنت أحادثه هاتفياً قال لي: (أنا غداً في مزرعتي فهلا تناولت معنا الغداء) أجبته: على الرحب والسعة.

كنت حريصاً جداً على أن أتوجه إليه مبكراً، فكم أطرب لمرأى الخضرة والنخيل حينما تتدلى منها عذوق الرطب وقد اكتنزت وورمت، وأطرب لمرأى الماء حينما ينسال في سواقيه كأنه يقصد غاية فيجري مسروراً بحريته بعد أن انتزع من قعر تلك القليب عنوة وأخذ من بين أهله وخلانه ثم رمي به في بركة تذرعها الشمس وقت القائلة فلا تغادرها إلا وقد أوشكت على أن تغلي الماء، ثم إذا جاء المساء تغشاها الصقيع فما يزال بها يمر من فوقها ويضرب في جنباتها حتى تخضع له وتذعن لحكمه، فما يلبث إلا قليلاً فيهبها من جليده وبرده فيبدأ ماؤها يدفع عنه ذلك إلا أن قوته تخور سريعاً فيبدأ بالتجمد شيئاً فشيئاً.

فمن يلومه حينما يطلق سراحه يخطب ود الأرض وترابها، وما ذاك إلا لأنه يعلم أنها المنفذ الوحيد إلى موطنه ومستقره.. ما أعذب مرآه وهو يصدر ذلك الخرير الذي يخيل إلي أنها أنغام اخترعها كي يعبر بها عن فرحته حينما عتق من إساره.. ثم ما أجمل منظره وقد أوغل في الصفاء والنقاء وكأنما هو قصد إلى ذلك فقد صفا وطاب ليقينه أنه سيلتقي بأحبابه عما قريب..

وما أجمل الزهور والرياحين حينما تتراقص مع حركات النسيم العذبة، التي تمر من فوقه وكأنما هي تداعبها فإذا ما رأتها فوق رفت أوراق تلك الأزاهير شوقاً وكأنها تنطق بصمتها وتوحي بإشارتها إلى أنها تتمنى لو رفرفت بورقاتها حتى تحلق في أحضان تلك النسمة الوادعة التي مرت فوقها..

بل ما أجمل منظر تلك الأشجار التي تدلت ثمارها معلنة أن جنة الأرض اليوم تهب كل ناظر ما يشاء من معاني الفرح والسرور، كم أطربني أن تلك الثمار تتدلى من أغصان الشجر وقد امتلأت حيوية ونضجاً، وكأنها بحركتها حينما يحركها الهواء تقول لكل من ينظر هيت لك فأني ما نضجت إلا الآن فدونك من نفسي ما تشتهي.. أشعر أن كل ما في المزرعة يبعث على الهناء.. لا أدري أهو كذلك أم أنا نظرت إليه بعين الرضا.. أشرقت شمس صباح جديد، بدأت أشعة الشمس تهتز اهتزازاً هزيلاً توحي لمن رآها أن تفيق من سبات ليلة باردة، بدأ ضوئها يغزو المكان بنوره وكأنها ذلك العامل الذي يعالج جموع الجراد فتفر منه لأنها رأت الموت.

جعلت تصعد بعد أن كانت في بدايتها لا تطمح إلا إلى ثرى الأرض شعرت أنها اكتسبت مزيداً من القوة، مدت عينيها إلى الأعلى صعدت بضيائها طمعت في أعالي الجبال فلم تعجز عن ذلك، ثم رامت السماء فما أسرع أن بلغت عنانها بل توسطت في كبدها هازئة بكل أحد فتلك السماء التي تتباهى بعلوها طغت الشمس فيها فتوسطتها وجعلتها أحد جنودها اصطفت خلفها.

يا لجبروت الشمس ما أعتاه.. يبدو أن موعدي مع صاحبي أوشك، انطلقت بسيارتي، خمس وأربعون دقيقة تقف سيارتي بباب مزرعته فتح لي العامل البوابة وابتسامته تعلو وجهه، لا أدري ساعتها شعرت كأني ملك مملك ربما لم أجد أحداً قط يفتح لي بوابة الدخول.

دخلت المزرعة فوجدت صاحبي، عانقته عناقاً حاراً، ثم قال لي أترغب أن تتنزه قليلاً في المزرعة فقلت له في نفسي ما جاء بي إلا ذاك، فأومأت إليه وأنا أبسم له أن نعم..

انطلقنا وكلما مررت بحديقة من حدائق مزرعته جعل يصفها ويحدثني كيف انتقاها واختارها وعند من رآها قبل ثم يصف لي طعمها ووفرة محصولها.

فلما بلغنا النخيل وجدت أنه قد أحسن الاختيار وأجاد في الترتيب، جعلت أقلب بصري فيها.

قطعنا فيها شوطاً طويلاً كانت أطوالها متناسقة تبعث على الارتياح.

بعد فترة قصيرة من التجول أبصرت في ركن من النخيل نخلتين لا يفصل بينهما إلا متر واحد إحداهما كانت باسقة طويلة كدها طول الزمان وتعاقب الأيام والدهور، قل جريدها وأبيض أكثره حتى سعفها كان نحيلاً جداً، وأما جذعها فلم تعد تثبت فيه الكرب فصار دقيقاً وبدت عروقها تمر في كل جذعها، رأيت فيها العمر كيف يطول بالإنسان ثم ما يلبث أن تمر به مرحلة الكهولة والإياس فيبدأ القلب قبل كل الأعضاء باستشعار الشيخوخة والهرم ثم لا يقر له قرار حتى يبدي ما كان يخفي فتتعاطف معه جميع الأعضاء فتبدأ العينان في الصغر وتتضخم الأذنان، ويبدأ الجلد يأخذ مرحلة جديدة هي الحفاظ على بقية مائه حينما يتلوى بعضه على بعض، وتكثر فيه التجاعيد، كما أن الشعر لا ينسى نصيبه فتلك المرحلة تعطي كل ذي حق حقه..

ذكرت جميع ذلك وأنا أنظر إلى تلك النخلة الهرمة.

وحينما هبطت ببصري وجدت تلك النخلة الفتية في طولها قد توسطت تلك الهرمة لكن روح الفتوة والشباب تقفز في أرجائها وتتلوى مع تلوي أغصانها، كانت خضرتها تشعر من ينظر إليها أنها تلك الفتاة التي جمعت بين الحسن والجمال وخفة الظل وحسن اللحظة وتناسق الأجزاء واكتمال العود وبهجة الروح، كانت عذوقها التي اصطفت على أغصانها بشكل دائري جميل تصور لك أنها تلك الفتاة ذات القوام الجميل حينما تدور في حركة من حركات رقصة (الباليه).

وما أجمل منظر الكرب وهي تكسو جذعها بكامله، وما أمتن جذعها واستقامة عوده..

كان صاحبي يعطيها مزيد عناية، فما أن يرى فيها عوداً قد نتأ إلا وشذبه أو يرى فيها غصناً قد بلي إلا وقطعه، كان يحافظ عليها كأنها أحد أولاده..

أما الطويلة فكانت في عليائها تعبث بها الرياح، وكأنها تتوعدها في كل مرة أنها سوف تقصم ظهرها وتقطع عنقها، خيل إلي وأنا أنظر إليها كلما لعبت بها الريح أنها سوف تسقط فأنت لا تراها إلا وهي تهتز كأن بها جان أو مس من الشيطان الرجيم ولا ترى أغصانها إلا وهي تتحرك في الفضاء وربما خانت أحدهم قوته فانطلق مع الهواء تاركاً صاحبته تحته تعبث بها الرياح، وأما رطبها فلطولها آثر صاحبها أن يتركها للطيور فلم يعمد إلى تلقيحها، ولم يعمد إلى تشذيبها فتركها وأشواكها مرة تغيض فيها ومرة تصيب من يقع عليها، وتأملت في تلك الطيور التي تحط عليها فلم أجد إلا الرخم والغربان ساكناً لها وأنيساً لوحشتها.

أما الصغيرة فكانت في منأى عن جور الرياح تجد في ثباتها وقوتها معنى الثقة والعزة بالنفس تتجلى فيها، أعيت الريح فتركتها تحيا حياتها الوادعة، حتى الماء حينما ينساب فإنه يسرع إليها في جريه بينما تراه بطيئاً كئيباً وهو ينتقل إلى تلك العجفاء، وهذه الصغيرة لا يحط عليها من الطيور إلا الكناري والبلابل والعصافير وفي كل مرة تغني هذه الطيور أغنية الفرح والبهجة التي لا تنقطع، وأما ثمرها فقد كان محمياً عن كل أحد إذ ستره صاحبه بملائة لا تصف لونه ولا شكله..

وكان لسان حاله يقول:

إني اصطفيتك لا أريد تحولا

أنت الجمال وأنت كل البهجة

هذا فؤادي قد كساك دماءه

فاحيي فإنك قد سقيت بمهجتي

وكان لا يعدل بها أحداً أبدا..

كانت الطويلة لفرط طولها قد انثنت قليلاً ومالت إلى الأرض وكان انحناؤها باتجاها تلك الصغيرة، وكأنها قصدت ذلك حتى تنظر إلى تلك الصغيرة وتنظر إلى صنيعها فتقلدها، إلا أن سنها كان يأبى عليها أن تعود شباباً.

قبيل المغرب بدأت الريح تستعرض قوتها فجعلت تعصف بشدة وكانت تلك الطويلة تميل مع الرياح أينما مالت، ولكنها هذه المرة جعلت تهبط بشدة فتلامس رأس الصغيرة، وكانت في كل مرة تقع على الصغيرة تضربها ضرباً شديداً وكأنها تنتقم منها..

نظر إليها صاحبنا فقال يبدو أن نخلتنا الهرمة سوف تنكسر لفرط شدة الريح، وربما إذا سقطت حطمت تلك النخلة الأثيرة ولا بد من قطعها الآن حتى تنجو حبيبتي..

أمر عماله فأحضروا السلالم والمناشير وتوجهوا إليها واصطفوا قبالتها وكأنهم جيش ينتظر إشارة قائده، فلما أمرهم هجموا عليها وصار كل واحد منهم ينشر فيها فما هي إلا لحظة حتى قضي عليها ولم يبق منها إلا طول المتر فقلت لصاحبي لم أبقيت هذا المتر؟ فأجابني قائلاً: إن هذه النخلة الصغيرة حينما نريد خرافها فإننا كثيراً ما نجلب لنا شيئا نقوم عليه، وحتى نستعيض عن ذلك الشيء آثرت أن أبقي متراً من تلك الهرمة حتى أقف عليه حينما أريد أن أخرف منها.

فقلت له وأنا أضحك له: ما أشد ما انتقمت من تلك النخلة المسكينة....

قال: أو ما رأيت ما كانت تهم به؟ قلت له: تقصد أنها غارت من صغيرتك فأرادت؛ قتلها؟ قال نعم..!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة