Culture Magazine Monday  12/02/2007 G Issue 186
فضاءات
الأثنين 24 ,محرم 1428   العدد  186
 

النظرية العربية وسؤال الغياب (1 - 3)
سعد البازعي

 

 

السؤال المتكرر عن إمكانية تطوير (نظرية عربية في النقد الأدبي) لا يلبث تحت مجهر التأمل أن يتحول إلى سؤال عن الهوية، هوية الفكر أكثر منه عن هوية الإنسان: هل للفكر هوية؟ بمعنى هل يرتبط الفكر بالمكان وظروف الثقافة والتاريخ والاجتماع بحيث يكتسب ملامح تنسبه إلى جماعة أو وطن؟ هل للفكر وطن وأهل؟ أم أنه مستقل ينتسب للجميع ويصلح للجميع، لا مقاييس تحد من صلاحيته ولا سمات تضيق من صلاته؟

النظرية النقدية تدخل إطار السؤال المطروح لأنها منطقة تلاقح أو امتزاج بين الفكر المجرد والنص الأدبي، بين التجريد والواقع المحسوس، تلاقح يدفعه المسعى الإنساني الدائب إلى عقلنة الظواهر بإخضاعها لمقاييس التفكير والفهم. فالنظرية تعود إلى الأصل الحسي المتمثل في النظر أو المشاهدة، لكن النظر يتحول إلى التأمل والتعرف أو التفكير وهو المعنى المتكرر في القرآن الكريم (انظر كيف نبين لهم الآيات)، (انظروا كيف كان عاقبة المكذبين).

وفي اللغات الأوروبية هي (ثيوري) theory التي تعود، على الرغم من اختلاف أشكال تلفظها وكتابتها، إلى كلمة يونانية تعني المشاهدة في المسرح، فالمشاهد هو (ثيوروس) theoros عند قدماء اليونانيين. غير أن المعنى الحديث، وإن بني على ذلك الأساس العقلاني، فقد تطور بتطور العلوم ليصير تعريف النظرية الشائع هو أنها نموذج أو وصف أو تفسير لظاهرة أو ظواهر طبيعية يمكنه التنبؤ بحدوثها مستقبلاً.

ولعل أقرب الأمثلة هنا هي النظرية البنيوية التي تحاول أن تستنبط بنية النص بالكشف عن العلاقات الداخلية الثابتة داخل النص، حيث يمكننا بمقتضاها أن نكتنه النص الأدبي أمامنا ونعرف على ذلك الأساس كيفية بناء النصوص الأخرى للكاتب نفسه أو للنوع الأدبي نفسه.

النظرية النقدية، بتعبير آخر، هي محاولة النقد الأدبي أن ينتقل وقد يقول البعض (يرقى) إلى حيز العلم، ولكن تلك المحاولة ظلت دائماً مطاردة بالحقيقة المتمثلة بكون النظرية النقدية أو النظرية الأدبية متصلة بمتغيرات كثيرة أهمها صعوبة ضبط الظواهر الإنسانية على النحو الذي يمكن من خلاله ضبط ظواهر الطبيعة، فالظواهر الإنسانية متغيرة تخضع للعواطف والأفكار والظروف التاريخية والبيئية على اختلافها، ومن هنا فقد ظلت النظرية النقدية الأدبية، على الرغم من محاولاتها المتكررة أن تكون علمية، مرتبطة بإنسانيتها متغيرة بتغير الإنسان وأحوال المجتمع والثقافات.

ومع أن هذا لم يصل إلى حد النفي التام للصبغة العلمية عن النظريات في العلوم الإنسانية، ومنها الدراسات الأدبية، فإن الواضح هو أن تلك النظريات لم تحقق سوى نجاح محدود في مسعاها للوصول إلى قدر عالٍ من الدقة والتجريد يسمح لها بتحقيق العالمية المنشودة، بل إنه حتى في العلوم التطبيقية والبحتة ظلت النظريات تتأثر إلى حد ما بمتغيرات المجتمع والثقافة، كما أكد غير مفكر وغير عالم.

يقول عالم الكيمياء البلجيكي الروسي الشهير إليا بريغوجين، الذي فاز بجائزة نوبل للكيمياء سنة 1977، في كتابه التحالف الجديد (1979): (أضحى من الملح على العلم أن يعد نفسه جزءاً لا يتجزأ من الثقافة التي تطور بين أحضانها). ويصل إلى ما يشبه ذلك الحكم المفكر الفرنسي ميشيل سير Serres والأمريكي كون Kuhn في كتابه بنية الثورات العلمية.

أما على مستوى النقد الأدبي فنجد إدوارد سعيد يحلل النظريات النقدية وهي تتغير تبعاً لمتغيرات البيئة الثقافية في مقالة بعنوان (النظرية المهاجرة) Traveling Theory ونجد ناقداً مثل الأمريكي هلس ملر يؤكد أن النظرية غير قابلة للانتقال من ثقافة إلى أخرى إلا إذا مرت بتغيير جوهري، أي أنها لا تنتقل كما هي وإنما بصورة مغايرة لما كانت عليه في مكان نشوئها أو بيئتها الأصلية.

كما أن انتقالها إن أمكن فإنه لا يؤدي إلى تغييرها هي كنظرية وإنما إلى تغيير الوسط الذي تنتقل إليه.

يقول ملر (على الرغم من أن النظرية قد تبدو موضوعية وعالمية مثل أي اختراع تقني، فإنها في حقيقة الأمر تنمو في مكان وزمان وثقافة ولغة محددة، وتبقى مربوطة إلى ذلك المكان واللغة).

ما الذي يحدث إذاً حين تترجم نظرية من النظريات في العلوم الإنسانية أو الاجتماعية، ومنها الدراسات الأدبية، أو يحاول أحد تطبيق تلك النظرية في سياق ثقافي مغاير؟ يقول ملر، وهو الناقد الذي انتقل بين عدة نظريات نقدية ابتداء بفينومينولوجية هوسرل وميرلو بونتي ومروراً بالمنهج التقويضي الديريدي: (عندما تترجم النظرية أو تنقل، عندما تعبر الحدود، فإنها تحضر معها ثقافة من أسًّسها). ومعنى ذلك، كما يقول الناقد الأمريكي ان (جهوداً ضخمة من الترجمة ضرورية لفك تركيب نظري معين من أصوله اللغوية والثقافية، على افتراض أن هناك من يريد أن يفعل ذلك. وفي الحقيقة قد يكون ذلك من المستحيل) (السابق: 211).

ما يعنيه هذا هو ببساطة أن النظرية النقدية تظل لصيقة بالبيئة التي أنبتتها على الرغم من وجود تلك السمات التي تمكنها من الانتقال من بيئة إلى أخرى، السمات التي تحملها بوصفها منتجاً إنسانياً يحمل خصائص عامة تتقارب الثقافات بموجبها بعضها من بعض.

فإذا كان هذا هو الحال لماذا إذاً لم تتطور حتى الآن نظرية أو نظريات نقدية تحمل سمات الثقافة العربية؟ ذلك ما سأتناوله وإن باختصار في المقالتين القادمتين.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5135» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة