Culture Magazine Monday  12/02/2007 G Issue 186
فضاءات
الأثنين 24 ,محرم 1428   العدد  186
 

الشاعرة الجزائرية زينب الأعوج في ديوانها (نوّارة لَهْبيلة)
نبيل سليمان

 

 

ما الذي يحدو بشاعرة أو شاعر إلى كتابة الشعر بالعامية بعد ربع قرن أو أكثر من كتابته بالفصحى؟

- يعاجل السؤال قراءة ديوان (نوّارة لِهْبيلة) للشاعرة الجزائرية زينب الأعوج وهي التي سبق لها أن قدمت بالفصحى ديوانيها (يا أنت من منا يكره الشمس) و (أرفض أن يُدجَّن الأطفال)، ثم توقفت عن النشر عقدين إلى أن جاءت بديوانها الأول بالعامية الجزائرية (نوّارة لَهْبيلة).

على غلاف هذا الديوان يتلامح الجواب عن ذلك السؤال بين التأثيرات العميقة الدامية لعقد التسعينيات في الجزائر، وبين الرغبة في الوصول إلى القارئ، وبين (الرغبة المحمومة لملامسة الجرح الذي لا تتمكن اللغة النظامية والعرفية أن تصله في لحظة اشتعاله وعنفوانه).

وينضاف إلى التعليل الأخير ما جاء بصدد قصيدة (النخلة) من ديوان (نوّارة لَهْبيلة) التي أبكت الكثيرين في الجزائر وخارجها، بصفتها خير »نموذج على هذه القوة التي تبترها اللغة الرسمية وتوفرها بسخاء اللغة الشعبية). إنه الجدال العريق بين (اللغة الرسمية - النظامية - العرفية) وبين اللغة الشعبية، وهو الجدال الذي لم يخلُ من التسييس، وتبارت فيه القصائد المكتوبة بإحدى اللغتين في التعبير عن (الجرح).

وفيما لا يبدو أن لهذا الجدال من نهاية منظورة يتواتر من الشعر بالفصحى ما يحقق فاعلية الشعر باللغة الشعبية، أو بالعاميات ما دام ليس من عامية عربية واحدة مقابل الفصحى الواحدة. وربما كان شعر محمود درويش وأحمد فؤاد نجم مثالاً ساطعاً على ذلك.

ربما كان تعقيد التجربة هو ما جعل شعراء آخرين يكتبون الشعر بالفصحى والعامية، كما فعل الرحابنة أو كما فعل مظفر النواب.

ومهما يكن فالقول الفصل هو للشعر نفسه بهذه اللغة أو تلك، وخارج المباراة العتيدة. أما تجربة زينب الأعوج فعلينا أن نتقصاها في ديوانها الجديد بالفصحى (راقصة المعبد) حيث جاءت (رباعيّات نوّارة لَهْبيلة) لتخاطب فيها الذكور تلك التي تخضرّ في كفيها النجوم، وتصير وجوهها التي غابت شمساً، ومهرها جبال من الخوف المرصوص، وحلّة عرسها عسس وحوافر خيل هذه التي تجأر: (أنا المرأة..المرأة - أنا الجمع والمفرد) وتجأر:

(أفنت القلب

صوّانا

يطفئ غصة

صغاري).

إنها عشتار وسبأ وزنوبيا وبنيلوب وكليوباطرا، ولها إذن أن تصدح:

(أنا

كل المنسيات

في ذاكرة التاريخ).

ولعل زينب الأعوج قد استعادت نوّارة لَهْبيلة من هذا الديوان (راقصة المعبد) وأفردت لها، وباسمها، ديواناً، لأن هتفة الشاعرة توحدت مع هتفة نوّارة:

(تحاصرني اللغة

البلاغة

الاستعارة).

فمضت الهتفة إلى (تقاليد القصيدة الشعبية الملحمية). واستعادة الشاعرة لنوّارة إذن من ديوان إلى ديوان هو استعادتها ل (حيوية اللغة الشعبية وعفويتها وطفولتها الأولى). ولا ننسَى هنا أن الشعر الشعبي قد ختم قصيدة (السماء الميتة) وانسرب في متن قصيدة (الجرح وهديل الحمام) من ديوان (راقصة المعبد).

في التخلّق الثاني (الشعبي) لنوّارة يتواصل جئيرها وصداحها:

(أنا لَهْبيلة

حَلَّتْ الشعر

فَرْقاته على

بنات القبيلة

تبكي

وتنوح

وتزي

زوتها المهبولة).

ولابد من الإشارة، قبل المتابعة، إلى أهمية طوبوغرافيا النص كما هو في الديوان، مما يخسره النقل منه هنا.

أما نوّارة لَهْبيلة فتوالي تشكيل ديوانها، وليس فقط قصيدتها منه، بما هي امرأة، وبالدم الجزائري المسفوح، وبخاصة خلال العشرية الأخيرة من القرن العشرين.

فللمرأة قصيدة (العاقر)، ولها قصيدة (النافسة) التي تتلوى بوأد الوليدة:

(سبع حراسْ

سبع حراس

واقفين

واقفين

بين العتْبة

واللساسْ

وآخرينْ سيوفهم

لمّاعة متعطشة

لدم النفاسْ

فقاوا

يمنينْ

سبع بنيّات

جَاوا

هَرَّبُوا

لُمِّيمة

وْلَبْنَيّة

وكل

من جابْ الخبرْ

وْخبّا وهمْ في نورْ القمر).

كما ترمح المخيلة الشعبية في هذه القصيدة، إذ تنقذ النجمات الوليدة وأمها وسبع بنيّات..

سترمح في قصيدة (بني سليمان) في مشهد ذبح الإرهابيّ للأم ولوليدتها:

(حلّْ كرشْها

بْشَحْطِه كِيْ البرقْ

طارْ

اللي

في كرشها

لسّْمَا

وهو

ما زالْ

معلقْ

بحبلْ السرّة

رْمَا يدّهْ

على سيفه

وقطع الحبلْ

طارت

الطفلة

وْهيْ

ترغي

دارت جنحينْ

كِيْ

طيور

الجنة

وعياطها

وعياط

أمها ينسمعوا

في سابعْ

سما).

تأتي هذه القصيدة في هيئة الحكاية ليسرد السارد بدايةً ما جرى في قرية بني سليمان عندما هاجمها الإرهابيون، فنقرأ:

(الناسْ كانوا صايمين

يستنّاوْ المغرب

في لمان

كي العادة

بعد الفطورْ

بابا لْبَسْ بَرْنُوسُه

اللي نسجاته الجدّة

بنور

عيونها

وْخَصْلَتْ شعورها

جدي

راحْ ملفوف

كِي العريس

في ليلة

الدخلة

ما كانش يعرفْ

بلّي في صلاة التراويح

راح يجيوا الوحوشْ

ويقطعوا

مع

كل

الجماعة

راسه).

تتقد الصورة في هذا الحمام الدموي المتفجر عبر الديوان كله، فإذا بنوارة تتوضأ برغوة الرماد، وإذا بالقلب (مْهوّل) في قصيدة (النخلة) مثل بحرغريب ينشّف ملح دموعه، والغيمة مثل عروس هاربة

(ما زالْ ما خسرتْ

ريحةْ لْوَانها

زرقتها مخبّية

في عيون بناتها)...

وكما استقت القصيدة من السرد في بنائها، تستقي من الأغنية، سواء هدهدت لطفل كما في قصيدتي (تنويمة باسم) و(تنويمة ريم) أم للبلاد، كما في قصيدة (دموع الحرة) التي ذيّلت بتاريخ، ومكان كتابتها (لوس انجلس 10 - 2 - 2000) وفيها نقرأ:

(يا بلادي

حاجيني

لقلبكْ لزّيني

وعلى صدرك نَنّيني

وْحْكي لي

نفرحْ بعريسي

ولا لُمّيميه

تغنّي لي في عرس

لمنْ نشكي

بقصّتي وقراحي

غصبوني

وخطفوا دم صْباحي).

أليس للعروس إذن أن تزهر النيران في فؤادها، أو أن تكون مشوية كالحطب؟

غير أن المشهد الجزائري ليس ذلك وحده، فعبد القادر - أليس بالأمير عبد القادر الجزائري؟ - نخلة واقفة في قبرها، تخاطب الوحوش في قصيدة (النخلة):

(هذا

يانا

قامتي

طويلهْ

على قبركم).

هكذا تشكل زينب الأعوج شعريتها من الأنوثة الجريحة والبلاد الجريحة، وبالنبض الشعبي لغةً ومخيلةْ تمضي إلى الصميم، وتدع لغيرها أفخاخ العابر والراهن والشعارية، لا لتبلغ القارئ الجزائري أو المغاربي وحده، بل القارئ العربي بعامة، على الرغم من تعويق العامية ببعض مفرداتها وصيغها، وهو ما ينتأ أيضاً في الكثير من الروايات العربية التي تدير حواراتها بالعامية، وقد تذهب أبعد في المتون، بينما يتواتر الجدل العريق بين الفصحى والعاميات، وإلى أمد غير منظور، وبينما يتأكد أن الفيصل هو للفن، والفن وحده.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة