Culture Magazine Monday  12/02/2007 G Issue 186
فضاءات
الأثنين 24 ,محرم 1428   العدد  186
 

خطاب النخبة الثقافية العربية وأساطير ما بعد الاستشراق(2)
فاضل الربيعي

 

 

هاتان الإشكاليتان، أي التقنيات الجديدة للأساطير (القديمة) المملّة والمكرّرة من جهة، ومضامينها المتعارضة، بل وصدامها مع وعي العربي لنفسه ومعرفته بحقيقة صورته من جهة أخرى، تتلازمان بشكل وثيق مع نشوء الأساطير الجديدة في الإعلام الأمريكي والغربي وذيوعها وانتشارها.

لقد أصبح الخوف القديم نفسه مصدرا (لخوف جديد لا يني يولد خوفاً آخر، وفي الآن ذاته مصدرا) لأساطير مروّعة عن الإسلام والمسلمين والعرب.

بذلك تكون الصحراء العربية قد عادت لتسترد في الخيال الغربي صورتها الأثيرة مرة أخرى، لا بوصفها فضاء رومانسيا (يلهب المشاعر والأحاسيس الدينية وبحيث يمكن رؤية عالم التوراة شاخصا) هناك، بل كمكان مخيف تنبثق منه صور القتلة والمجرمين الطائشين أيضا.

عندما كانت الكونتيسة دو غاسباران تكتب في يوميات رحلة إلى بلاد الشرق - الجزء الثالث 1848 - (عن العرب الذين) كانوا يجلسون القرفصاء وهم يمسكون رؤوسهم بين أيديهم ليحسنوا الإصغاء و(كانت عيونهم تلمع وكان كلام المسيح يسقط رقراقا) على نفوسهم، فإنها كانت تتحدث بالضبط عن هذه الصورة النمطية لمتلقي الرواية بالأمس كما اليوم.

ها قد عاد الساردون القدامى إلى جمهورهم نفسه، ولكن من أجل أن يسردوا عليه من جديد، الرواية نفسها وهذه المرة بتعديل وتحوير صور الأبطال والضحايا.

وفي هذا النطاق من الاسترداد شبه المُمنهج والمنظم، يمكن للمراقب والباحث أن يستخلص من معاينة حاذقة لأشكال ووسائل وطرق السرد الجديد المتبعة، بعض الأفكار الضرورية عن النتائج المباشرة، حيث يسقط كلام المسيح التوراتي رقراقا على نفوس المتلقين العرب تماما" كما تخيلتهم الكونتيسة دو غاسباران.

سنقوم هنا بدراسة ثلاثة أساطير (ما بعد استشراقية) شائعة في العراق، عمل المخياليون الأوروبيون والأمريكيون على نشرها قبل الغزو بسنوات طويلة، ومن ثم تعميمها بعد الغزو في سياق النشاط الثقافي الذي صاحبته، وتلازمت معه بشكل وثيق عمليات انتهاك جنسي واسع النطاق.

إن مقاربة مفهومية (لصناعة الأساطير) هذه، بين عصر الكولنيالية الكلاسيكية وعصر عودة الاستعمار إلى الشرق سوف تبيّن وإلى حد كبير، طبيعة الوظائف التي نهض ما بعد الاستشراق بعبئها، والطرق والأساليب التي اتبعها على مستوى صياغة موضوعات الخطاب الكولنيالي الجديد.

وهي، إلى هذا كله ومن دون أدنى شك طرق ووسائل اتسمت بديناميكية عالية، جرى خلالها استلهام منتظم للموضوعات الاستشراقية القديمة من أجل إنشاء واستنباط رمزيات جديدة من داخل الرمزيات القديمة.

الأسطورة الأولى: نساء طالبان العراقيات بالأمس البعيد ( عصر الاستشراق الكلاسيكي) كتب غيه أوليفييه عام 1828 في كتابه الشهير (رحلة في الإمبراطورية العثمانية - ص 96) قائلاً: من المؤكد أن أعناق الجنس اللطيف - حتى العهد التركي - اقل تعرضا لحبال المشانق وسيوف الجلادين من رقاب أزواجهن، ولذلك منَحَ الرجالُ زوجاتهم حرية معتبرة في العمل والتصرف، وفي كثير من الأحيان يعزّز الحجاب و(اليشماغ) بكل ما يلفهما من غموض شجاعة النساء.

واليوم (في عصر ما بعد الاستشراق) تكتب سو كيلي عضو الكونغرس الأمريكي عن نيويورك بعد زيارة إلى بغداد 2003 ما يلي : ( إن 77 % من نساء العراق أميات. علينا مساعدتهن وتعليمهن وتدريبهن).

عندما كتب وليفييه النص الآنف، قبل ما يزيد على مائة وسبعين عاما من زيارة عضو الكونغرس الأمريكي السيًدة سو كيلي إلى بغداد، كان عالم (ألف ليلة وليلة) يتراقص أمام عينيه وهو يتجول في أسواق استانبول.

كل امرأة محجبة بدت في نظره في تلك اللحظة من التأمل، موضوعا (قصصيا) تخيّليا (عن سيّاف أحمق سوف يستشيط غضبا) ليطيح بعنقها.

وكل امرأة تضع النقاب وعيناها تتلصصان من خلفه وهي تمشي في الأسواق المزدحمة، بدت كما لو أنها امرأة مسكونة بهاجس الخوف، هاربة أو تحاول الهرب من قدرها الذي يتربص بها.

كانت قصص شهريار العراقي الجديد تنتشر ويتم من خلالها تصعيد من نوعٍ مرضي لصورة الرجل الشرقي الذي يضرب أعناق النساء بسيفه.

كانت قصص شهريار الجنسية حاضرة بقوة في الصور الاستشراقية الأولى.

مع عصر الفتوحات الاستعمارية للشرق بدا أن طغيان هذه الصور هو من النوع الذي لا يقاوم. ولكن، سرعان ما انتقلت رمزية الحجاب و(العقال البدوي) هذه، من حيز الثقافة إلى حقل السياسة دفعة واحدة.

لم تعد موضوعا (ثقافيا) (رومانسيا)، بل أصبحت جزءا من عالمٍ سياسي يزداد غموضا (وتعقيدا).

ومعهما انتقلت محاولة فهم العربي من كونها حلقة دراسية، غرضها التعرّف على الثقافة والحياة الاجتماعية، إلى عمل لا يعوزه التصميم ولا الرغبة المهينة (للآخر المتوحش والبدائي)، وبطبيعة الحال، الرغبة الفظة في تخيله كبربري، على تعديل رمزيات الشرق أو حتى إعادة تكييفها سياسياً لتتلاءم مع قيم الغرب الكبرى والحديثة.

في هذا النطاق أسهم الاستشراق بحيوية، في الربط بين كل محاولة (لفهم العربي على حقيقته)، وبين التعرف على مغزى وفعالية هذه الرمزيات في حياته، وجرى على أيدي أجيال من الكتاب والرحّالة، استلهام واستنباط منظومة قيم افتراضية زُعم أنها تقيّد العربي وتتغذى من إسلام راكد، تتحكم تعاليمه في تصرفات الشرقيين وأفعالهم.

ولذلك ارتبطت (أساطير الاستشراق) الأولى والمبكرة، بوجود فعالية استثنائية لكل فكرة وخاطرة وخيال وتصور، يدور حول (عالم النساء المهددات على الدوام بقطع أعناقهن)، حتى من دون أن يكون هناك سبب منطقي واحد لفكرة الذعر من سيوف الجلادين الرجال، كما ارتأى نص غيه.أوليفييه الفرنسي.

كل ما قام به ما بعد الاستشراق، في نطاق هذه الصور المطردة المشحونة بالخوف الغريزي، إنما هو قلب التصور الشائع رأسا على عقب: فالنساء الشرقيات لسن في الواقع أقل تعرضا من الرجال لخطر الجلادين حاملي السيوف، بل الأكثر عرضة منذ العهد التركي.

ولكن، وفي سياق عملية أفغنة العراق عثر الأمريكيون على مادة أسطورية نموذجية قابلة للتطوير في هذا الاتجاه، ويمكن من خلالها، فضلاً عن ذلك كله، التعرف بدقة أكثر على ملامح (سيّاف) عراقي متنكّر في ثياب الملك شهريار.

إنه جلاد من هذا العالم الغامض وقد شخص بأبصاره نحو المرأة ذاتها المهددة بالموت.

استخدم الأمريكيون هذه الصورة الخيالية وعلى نطاق واسع، كأساس صلب لمادة دعائية رخيصة وديماغوجية، كان المعارضون العراقيون يروجون لها أصلاً، وقاموا بتسريبها إلى كبريات الصحف قبل بضع سنوات سابقة على الغزو.

وهكذا أنشأ الأمريكيون واحدة من أكبر أساطيرهم عن هذا البلد قبيل الحرب بقليل انطلاقا من الصور الاستشراقية القديمة المعدلة الآنفة، وقبل أن يتبين لاحقا وبجلاء، أن لا أساس لها في الواقع.

تقول الأسطورة كما جرى تداولها: إن الجلادين في العراق قاموا بقطع أعناق عدد من النساء العراقيات (العاهرات) وتعليقهن في الساحات العامة في بغداد والجنوب.

لا أحد بالطبع شاهد الجثث وهي ُتعَلق، ولا أحد رأى رؤوس النساء وهي تقطع.

وحتى كتابة هذه السطور - بعدما مرت ثلاث أعوام على الاحتلال - لم تقدم الولايات المتحدة أو أي جهة مستقلة، دليلا واحدا وموثقا يدل على صحة الرواية.

هذه المادة الدعائية كانت في صميم عمل الاستشراقيين الجدد.

لقد انتقلوا من وصف المستشرقين الكلاسيكيين لعالم الأتراك حيث أعناق النساء أقل تعرضا لحبال المشانق وسيوف الجلادين إلى وصف أعناق النساء العراقيات المتطايرة.

في وقت ما، وطوال السنوات القاسية من العقوبات الدولية، كان هذا النوع من المواد ضروريا للغاية بالنسبة للأمريكيين، ويلائم مزاجهم على الأقل لأجل رسم صورة أفغانية متكاملة للعراق، فالنساء هنا أيضاً أصبحن ُعرضة للاضطهاد والقتل الشنيع بواسطة السيوف.

ومادام العراق في المخيال الأمريكي قد غدا مزيجاً شيطانياً، فمن الضروري العثور على نساء مضطهدات ُتقطع رقابهن السيوف.

لا بد من نساء طالبان عراقيات يمكن العثور على صورهم المُعذبة والشقية في أزقة بغداد القذرة، وقد ُحرمن من الذهاب إلى المدارس وجرى انتهاك فظ لأرواحهن وحرياتهن الشخصية.

على هذا النحو بدأت تنتشر في الصحف الأمريكية والأوروبية والفضائيات الغربية وبالتلازم مع قصص الإرهابيين المسلمين، صور وقصص غرائبية تدور كلها حول الحكاية ذاتها، نساء طالبان الجديدات اللواتي يكتشف الغرب حجم الفاجعة في حياتهن التعيسة في أزقة بغداد.

في هذه الأثناء، وحين كانت الأساطير تنتشر، تجاهلت وسائل الإعلام الأمريكية القصص الواقعية والحقيقية والحيًة عن النساء اللواتي كن يظهرن في التلفاز باكيات نائحات على منازلهن التي هدمها الجيش الأمريكي في الفلوجة وأبو غريب والخالدية، أو على الحقول والمزارع التي تجرفها البلدوزرات الأمريكية في بعقوبة وبهرز وضواحي غرب بغداد.

وتم على الضد من هذا، الترويج من جديد لحكاية عاهرات بغداد مقطوعات الرؤوس، ففي الأول من كانون الأول - ديسمبر2003 قررت الحكومة البريطانية على عجل، ومن دون سبب واضح، إرسال بعثة مؤلفة من عدة نساء بريطانيات متخصصات بحقوق الإنسان وقضايا المرأة إلى العراق، لا من أجل معاينة أوضاع النساء العراقيات التي أصبحت مخيفة تحت الاحتلال، بل للتفتيش عن أدلة تتعلق بجرائم النظام السابق بحق النساء.

كان البريطانيون يفتشون عن أدلّة تخصّ جرائم شهريار العراقي في عصر ما بعد الاستشراق.

من بين هذه الجرائم ما ُزعم أنه عمليات قطع رؤوس لنساء عراقيات متهمات بممارسة الدعارة.

في هذا الوقت كانت التقارير القادمة من بغداد إلى العاصمة البريطانية لندن تشير إلى استمرار وقوع عمليات قتل وحشية ضد النساء، تجاوزت فيها حالات القتل شبه العلني أو المُعلن عنه أكثر من 450 حالة موثقة، عدا عن حالات الاغتصاب الفظيعة التي يصعب التصريح بوقوعها في مجتمع محافظ مثل المجتمع العراقي - حسب شهادات روابط نسائية تشكلت حديثا في بغداد -.

مقابل أسطورة قطع أعناق النساء كان هناك واقع آخر يروي فظاعات الغرب نفسه فوق أرض الشرق.

لقد عاد الغرب، مع عصر ما يعد الاستشراق ليروي القصة نفسها.

وهذه المرة بمعونة نخب ثقافية وفكرية عربية آمنت بأن أساطيره قابلة للتصديق و ربما ضرورية من أجل (الحرية)؟

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7641» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة