Culture Magazine Monday  12/02/2007 G Issue 186
فضاءات
الأثنين 24 ,محرم 1428   العدد  186
 
الرؤية الاجتماعية في روايات عبد العزيز مشري 3
د.سلطان سعد القحطاني

 

 

تحدثنا في الحلقة الماضية عن معنى الأساطير في العرف الشعبي، وإسقاطاتها في كل مجتمع وموسم تأتي فيه، وعلى العموم هي لها فرحة قد تنقلب إلى حزن، عندما تكون فيضانات أو يغرق فيها أحد...، ويرى الكاتب أن الأساطير رويت منذ القدم عن المطر، وأنه يعمل نهراً يمنع الناس من التواصل، وبعض الأساطير تروى عن الحمير المحملة بالقطن والملح، أيهما يبتلعه النهر، أو الوادي في عرف سكان الجبال. كانت هذه الأسطورة تطرح علينا ونحن أطفال في ذلك الوقت، كلغز يتفكه به الكبار على الصغار، ونحن نعرف أن القطن أخف من الملح، لكن الحالة تكون بالعكس تماماً، فالملح يذوب بسرعة في الماء، أما القطن فيتشرب بالماء فيكون ثقيلاً؛ وبالتالي يغرق الحمار.

من المعهود في الحياة الاجتماعية في منطقة الجنوب، تقسيم السكان إلى فئتين، بدو وقرويين مزارعين، وكثيراً ما يحصل الخلاف بين الطرفين، وأهل الغنم يودعونها مع الراعي البدوي، ومن لم يودع غنمه سيتسبب في أكل زرع القروي وإتلافه، ويحصل على اللوم والتقريع في خطبة الجمعة، أو بعدها. هذا المشهد الدرامي رسمه الكاتب بدقة متناهية، في قوله: (وبعد هذه التباشير الصيفية، يكون القمح قد اخضر، وصبغ المدرجات وبطون الأودية ومنابت الشجر بأمواجه الخضراء، فيطرح من بعد صلاة الجمعة الرأي المعهود، فعلى كل ذي غنم، أن يبعد غنمه عن الزرع).

ويناقش الكاتب عدداً من القضايا الاجتماعية في القرية، باعتبارها ممثلاً للحياة الاجتماعية في هذه المنطقة من الجزيرة العربية، ويجد في مقدمة التحولات الاجتماعية مجيء السيارة إلى القرية تحمل الحجاج العائدين من مكة. يقول: (وردت السيارات إلى القرية، وجاءت بالحبوب، وجاءت بالفواكه النادرة، وجاءت بالملابس الجاهزة، وجاءت بما لم يعهده الناس من قبل.. فكانت النفس تشتهي الجديد، وتتوق إلى كل حديث، فالأشياء المبهرة والمريحة تحتاج إلى الريالات، والريالات لا تأتي إلا من منافذ غير مهيأة، أسهل ما فيها بيع الثور والبقرة والغنم، ثم ترك الأرض والعناية بها، وشغف ذوي الزنود الشابة بالأسفار... أما الشيوخ فلم يهن عليهم هذا، وإن مات البعض فهو يموت بحسرات كبيرة..).

وكثيراً ما يجد المتابع لروايات عبد العزيز مشري، تأكيده - بطريقة فنية - على جانب العلاقات الاجتماعية، بين الجيران والأقرباء. ويحاول أن ينقل هذا التصور الاجتماعي من منظور إبداعي، وليس من منظور (إنثروبولوجي)، ويعترف بذلك في مناسبات كثيرة، فيقول: (إنني لا أستطيع أن أكون دارساً إنثروبولوجياً، ولا محللاً اجتماعياً، لكي أفند فتافيت الحياة القروية المتلازمة... ربما كنت أقول قولي بحلولي الكتابية، في إطار الأعمال الإبداعية القصصية والروائية). هذه العلاقات الاجتماعية ليست مطلقة في عالم الريف، إنها محاطة بالحذر وبالتوجس والخوف. وكثيراً ما ينتقل الكلام بسرعة، ويؤول على هوى ناقله، ويحور من واحد إلى آخر، فهناك من يحب فتاة ويرغب في الزواج منها، لكن ظروفاً تحول دون ذلك، فباختيارها أو بدونه، تتزوج من شخص آخر، قد يكون صديق الأول، فيتحاشى زيارته، خوفاً من سلطة العرف الاجتماعي، وهناك الرباط الاجتماعي المتعارف عليه الذي يفرض على الإنسان قيوداً ومجاملات قد تكون فوق طاقته، وبعدم قناعة منه، لكنه يقوم بها مرغماً لتحاشي نقد المجتمع. يقول مشري: (أربعون ذراعاً بالتقريب هي ممشى القدم الذي يفصل بين بيت (مطر) وبين جاره (ظافر) وهو جار طيب، بالغ التحفظ قليل الكلام، قليلاً ما يفتح جسر العلاقة بين سمعه ولسانه... قليلاً في زيارته لمطر، وقد حدد علاقة اسمها (جئت أسلم، وأشرب قهوتكم) مع جاره بعد زواجه من (فضة) ولم يكن لسبب شكاه منها أو من (مطر)، غير أن الناس (لا تترك أحداً في حاله)؛ فهو يسمع ويصمت، ويمتلئ سمعه بتسلط (فضة) وإلغائها لرجولة مطر...).

هذه الحساسيات بالغة الخطورة تشكل علامات بارزة في السرد الاجتماعي، فخوف ظافر من بعض الإشاعات جعله يقلل من الزيارات، ويحددها في أوقات تبعد عنه الشكوك، كدواء وقاية. وبقدر التعاون والتكاتف بين أبناء الريف، وكأنهم أسرة واحدة، هناك الكثير من المشاكل والخصام الذي يحدث من حين إلى آخر لسبب من الأسباب يستدعي تدخل أصحاب الرأي السديد وكبار القرية وأولياء أمور الجهلة والنساء لفض هذا الخصام والنزاع. يقول مشري على لسان إحدى الجدات، وقد أخذها الغيظ من تعدي حمارة الجيران على مزرعتهم:

(تعدت حمارتكم على زرعنا.... ما تخافون الله؟ فترد جارتها: لسانك طويل، والحمارة ما عندها عقل. فترد الأولى: قلت لكم، ما تخافون الله، اربطوها عن حقوق الناس. فترد الثانية: أنتِ تكثرين الكلام.. كل حمير الناس وحلالهم تتعدى على حقوقهم. فترد الأولى: كيف؟ هذا بدل الاعتذار؟).

كان هذا الخصام الحاصل بين (صالحة) وواحدة من القرية ينصب كلاماً في مسمع الحفيد الذي نبت من نومه مذعوراً وخرج إلى الساحة، فلم ير أحداً، لكنه انجذب إلى سطح الدار نحو صوت الجدة. وسمع الثانية تقول: (سوّد الله وجهك يا مخلوقة... احفظي لسانك... وكان الخصام يبدو في حدته؛ إذ صعد الشايب (عطية) بن حامد إلى الجدة و(صالحة) فأمسكا من يد الجدة (رفعة)، وجعلا من نفسيهما ملتقى للسان تلك المرأة، التي لم يسلما منها: هيا.. ارفعي طرف ثوبك، والزمي يد زوجك المخرف... ويرسم الكاتب صورة لرجولة الجد في التدخل السريع، وردع الجدة وهو يردد: نساء.. نساء، أدخلي يا مخلوقة، فضحتمونا..). بهذا الحوار يرسم الكاتب جانباً من الجوانب السلبية في المجتمع، لكنه يجد لها حلاً سريعاً في تدخل العقلاء وأصحاب الرأي في حل مثل هذه الجزئيات. ونجد المشري يعالج بكل حرفية فنية ظروف المجتمع على هذه الشاكلة، في كل رواياته.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة