Culture Magazine Monday  12/02/2007 G Issue 186
مراجعات
الأثنين 24 ,محرم 1428   العدد  186
 
استراحة داخل صومعة الفكر
موهبة شعرية مبكرة
سعد البواردي

 

 

وُلد وفي فمه صرخة شاعر يقظ يجدل شعر الحياة ويجادلها بحسه المبتكر.. وبعمره المبكر..

شهادة بموهبته وقّعها بأنامله ولما يتجاوز السابعة عشرة من عمره.. كانت لها الصورة المتحركة.. والإطار المناسب، والريشة المبدعة.. عرفته لأول مرة ورأيته لأول مرة.. وسمعته لأول مرة وهو يشدد بنغمه الشعري الجميل في جسارة الواثق.. وفي جدارة العاشق لكل ما هو أصيل.. كان رائعاً وهو يُرَجع أبيات قصيده عن ظهر قلب دون تلكؤ.. ودون افتعال.. وإنما انفعال وجداني يوحي بالإدراك والفهم لما يقول أشبه بمن ينظم عقد مشاعر متمازجة الألوان متداخلة الصور.. وبصنعة الواثق..

في باكورة قصائده التي جادت بها قريحته المبكرة بتاريخ 15-10- 1421هـ تحدث عن خواطره وهمومه وهواجسه وأمانيه..

أنا الشاعر الصداح ما زال خافقي

يصوغ لي الشعر المنمق كالشهد

وفي أيكها الأطيار إن مسها الأسى

تغرد أشعاري فتطفو على السعد

ويلج إلى بوابة الاقتحام والالتحام مع روح من التحدي جسورة.. وجديرة بالمواجهة..

سأفتض عذراء القصائد كلها

وإن كان يذكي في فؤادي لظى الوجد

ولكن لمن سيفتض عذراء قصائده.. لم يترك لأحد فرصة التخيل ولا التحمين. أجاب قبل أن نسأل:

إلى أمة الإسلام أزجي قصائدي

وأهدي لها شعراً تضوع بالسند

أقدُّ لها من خافقي شعري الذي

سأستله من مضرم الجمر والسهد

أصوّر فيه المسلمين وحالهم

وكيف استحالوا دمية في يد القرد

ويسترجع ماضيهم إيقاظاً للذاكرة.. لعلها تذكر أو تتذكر:

وكانوا أسود الأرض أنّى توجهوا

رأيت لهم فينا من العز والمجد

وما هدّهم إلا ركوب هواهموا

وإذعانهم للذل في عصر الوغد

شخّص الداء.. وأعطى جرعة الدواء.. وهذا مكمن موهبته المبكرة.

كيف يرى العيد شاعر الشاب الموهوب مشوح بن عبدالله المشوح.. وبأي منظار ينظر إليه؟ تحت عنوان (بسمة العيد)

أشاح عني وألقى في يديه يدي

وقال: (لا عيد والإسلام في كبَدَ!

وكيف استقبل الأعياد مبتهجا

والمسلمون بلا عون ولا سَنَد؟!

أم كيف أبسم والأيام تخنقنا

والدهر يعزف فينا نغمة النكد؟!

وقلت: (يا صاح رفقاً أن أمتنا

محتاجة بعد طول البؤس للمدد)

نَعم المدد.. والعدة التي نصنعها بثوابتنا وقدراتنا واعتمادنا بعد الله على أنفسنا.. شاعر قديم ذكرنا بهذا المعنى:

ما حك شفرك مثل ظفرك

فتولَّ أنت جميع أمرك

ومن العبد البائس إلى الأقصى البائسة، وكأنما يذكرنا بالشهادة والاستشهاديين الذين يعشقون الموت من أجل الحياة..

شدَّ متنا وراية المجد مدَّا

واحتسى الموت راغبا واستعدا

وارتمى في ربى المنايا حساما

ماضيا يحصد الطواغيت حصدا

راعه أن يرى الضيافي ذبول

والظلام الظلام يسفر جدا

إلى أن يقول:

عشقه أن يرى الشهادة جسرا

لجنان تضوع عطراً وندا

هذا ما يقوله شاعرنا.. أما ما يقوله الزمن الردي فغير هذا.. المقاومة أصبحت إرهاباً!! والقدس أحيطت بالأسوار والجدار العنصري وما تبقى من أرض فلسطين تحول إلى سجن كبير.. وصراع موجع بين الأشقاء الأعداء!! والعالم ساخراً متآمراً يراقب!

شاعرنا المجيد بُحّ صوته وهو ينادي ويصرخ بالوجع نفسه الذي سبقه إليه شعراء كثر.. وكأن شيئاً لم يكن.. جملة قصائد تتحدث عن القضية بالنفس نفسه.. في (ليلة العيد) و(رسالة إلى الأرض المقدسة) و(مجاهد في واحة الأمجاد) كلها تصرخ وتستصرخ محاولة بعث النار من تحت الرماد.. وفتح العيون المطبقة من ذلة الرقاد.. ولكن..!

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام..

القضية الكبرى أفرغ من أجلها ما في جعبته.. وراح يحكي لنا ملحمة شعرية حول طفل يقود عربة داخل السوق بحثاً عن لقمة عيش تسد رمقه.. ورمق أهله.. المدخل يقول:

وقف الشعر والشعور توارى

حينما أبصر الفتى المغوارا

حاملا في حشاه هماً كبيرا

ويداه تناشد الأقدارا

عربات يقودها كل صبح

حط فيها بكل سوق وسارا

وجهه مظلم كئيب.. ولكن!

كلما أبصر الريال أنارا!

لا تلوموه واسمعوا منه قولا

يشرح الحال.. يسرد الأخبارا

الراوي الطفل حدده بفصه ونصه، وأسماه في ملحمته.. لن أقول مَنْ هو.. يكفي أن أشيد به إلى درجة الإعزاز والإكبار مكتفياً بقوله:

قصتي أيها الورى أحرقتني

بشظايا الأسى وجمر الهموم

اسمعوها ففي الحكاية درس

وخطاب لكل قلب كريم

والدي مات قبل عام وأمي

أصبحت تستحث كل القروم

وأنا أكبر الصغار إذا ما

أبصرتني أمي بكت كالغيوم

وددت في الشطر الأخير لو جاء على النحو التالي، وكلتاهما في الحالتين صح:

أبصرتني أمي بكت لهمومي

ويسترسل الطفل المكافح في سرد واقعه:

وأخي مات بعدما مات جوعا

وأنا منهك بجرح عظيم

حبذا يا شاعرنا لو أن هذا البيت ورد بهذه الصيغة لكان أفضل:

وأخي مات بعد أن مات جوعاً

وأنا منهك بجرح أليم

المحاور للطفل وقد تملكه الحزن يحاول مؤاساته ومواساته:

كم كوتني هذي الحكاية ويحي

ويح قومي أين القلوب الرحيمة؟!

أوَ ما في الرجال شهم أبي

يسكب العطف في العظام السقيمة

العِظام لا توصف بالسقم.. وإذا كان لا بد منها فلتكن العظام الرميمة.. والأصح يسكب العطف في النفوس اليتيمة.

أتجاوز قطرة الرجاء مع أنها إناء مملوء بماء بالمشاعر لما بعدها.. وهل أشهى من أن ننتقل من الرجاء إلى الوفاء حيث بلاد الحب:

الضياء السّني منكِ سطوع

والرحيق الزكي منكِ يضوع

أقرب معنى إلى الرحيق أن يكون شهياً أكثر منه زكياً؛ هذا ما أتصوره:

وكمال الجمال فيكِ تجلى

وعلى جرسكِ الغرام بديع

يا عيون السناء وفجر المعاني

جل فيك الهوى وجل الخضوع

حين ألقاكِ كل شيء يغني

شفة الصبح والحيا والربيع

ويسوق الوجود أعظم لحن

يتسلى به الغد المفجوع

وتميس الربى ويرقص ناي

ملَّ من مكثه الطويل الهجوع

مقاطع من هذه القصيدة الطويلة الجميلة في حب الوطن.. وبالنسبة إلى الناي الأنسب أن يعزف بدلاً من يرقص..

وعن مدينته بريدة يقول:

لكِ في خافقي أعز مكان

فاسكني في دمي وروي كياني

واسكبي في فمي حروفك حتى

يتغنى برائعات الأغاني

توصيف رائع.. وتوظيف للمفردات أروع

لكِ يا مهجتي اشتياق وحب

منهما يُشرق السنا في كياني

إلى أن يقول:

إنما أنتِ يا بريدة شمس

ضوؤها شاع في ربى الأوطان

يا بلادي ملكتِ ساح فؤادي

ونثرتِ السرور في وجداني

لست وحدي أهواكِ خلفي ألوف

وجدوا فيكِ راحة للأمان

ويختتمها بهذا المقطع المعبر:

كل وُد يذوب إلا وداد

مستقر في خافق ولهان

ومن حب مرغوب إلى آخر مرهوب مدمر.. لعله حب اللاحب.. بل ليت أبياته كانت تعبيراً عن مفردة حرب. الحب بريء لا يستحق كل هذا العنف لأنه لا ذنب له:

قالوا لي: ما الحب؟ وماذا؟

يحوي من فلسفة الدار؟!

قلت.. الحب كما هو جاء

حتف لقلوب الأحرار

والباء به باء بلاء

وبداية مشوار هار

الحب أيا صحبي نار..!

من منكم يرغب بالنار؟!

ألستَ الذي تغنيتَ به وأوفيته حقه تحت عنوان.. (ويبقى لكِ الحب)..

ويبقى لكِ الحب وحدكِ أنتِ

لأنك علمتني الحب حتى

لِمنُْه استقيت رحيق حياتي

ومنه تذوقتُ طعم وجودي

وحلوا السمر..

ومن ها هناك ابتدأت السفر

قصة حب واعدة لقلب يستحق كل هذا العناء الشعري المتوهج كالجمر.. سأنتزع من سطورها أروع ما فيها وكلها رائعة:

بحبكِ أشدو فعودي لنطرب

من بعد هذا الونى.. والأنين

بحبك أنمو فكيف إذاً

يا حبيبة قلب المنى ترحلين؟!

إذا ما رحلتِ فمعنى رحيلك

أن شموسي سترحل عني

وأن ظلالي سترحل عني

ومائي الزلال سيرحل عني

وإني أصافح كف السنين

وإني أودع عمري الثمين

وأني.. وأني

بهذه الصور الإبداعية توقف شاعرنا الشاب المُجيد مشوح المشوح عن الكلام المباح. والسؤال: هل عادت إليه ملهمته واستراح؟!

ومن رثائياته هذه الأبيات التي نعى فيها الشيخ عمر السبيل:

آه يا خافقي الكئيب تجلد

ليس في العالمين حي يُخلّد

ليس في العالمين حر يرى ال

سموت فيزودُّ عنه أو يتردد

إنما الموت يا فؤادي سهم

في صدور الأنام قسراً يسدد

وأخرى رثا فيها خادم الحرمين الراحل فهد بن عبدالعزيز من أجمل أبياتها:

فراقك صعب والوداع عسير

وفقدك يا حمي العرين مرير

وقربك يروي القلب أنسا وبهجة

وبُعدك لا يقوى عليه ضمير

أيا خادم البيتين ودّعن ركبنا

وقدرك في كل القلوب كبير

رحلتَ فما أبقيت دمعاً لمحجر

ولا عبرة إلا إليك تسير

ملاحظتان

في السطر الأول من الشطر الثاني كلمة (حمي) والصحيح (حامي) وفي الشطر الأخير من السطر الأخير أفضل كلمة تشير بدلاً من تسير..

وأخيراً يأخذ الشاب الشاعر الموهوب مشوح بن عبدالله المشوح.. يأخذنا معه في لمسة وفاء مستحقة لأخيه الوفي الدكتور الشيخ محمد المشوح.. لمسة وفاء نقدره عليها حق قدرها، فصديقنا صاحب الثلاثية الناجحة قدم خدعة للثقافة والعلم والأدب. ربما أكثر وأكبر حظاً من أندية كثيرة خانها التوفيق عن أداء رسالتها.. قدمها بوفاء وسخاء كريمين دون مقابل..

تلك هي قصيدته مسك الختام التي شنف أسماعنا بها إمتاعاً وإشباعاً في ثلوثية أخيه الأكبر التي أُورِد بعضاً من أبياتها:

العنوان (أنت الثلوثية)

أراك في الليل شمساً تحضن القمرا

حتى ينير لنا من عقله الفكرا

وفي الصباح أرى عينيك أغنية

يشدو بها كل من قد غاب أو حضرا

وبين كريها أصبحتِ فاتنة

إذا رآها الورى أرخو لها النظرا

وسلموها من الأشواق أفئدة

مشبوبة بغرام ظل مستعرا

يا أنتِ يا عشق من لم يعشقوا أبدا

وحين لاقوكِ ذاقوا العشق والسهرا

حبذا لو استعاض بكلمة السهر في شطرها الأخير بالسمر لعلها أنسب.. إلى أن يقول:

وأصبحوا ولهيب الشوق يحرقهم

يداعبون نسيم الحرف مبتكرا

ويقطفون لكِ الأشعار يانعة

من كل لفظ ومعنى يشبه الدررا

ويوقظون لك الأزهار في دمهم

حتى ترى أن رمز الحب ما اندثرا

وأن حبكِ جارٍ في عروقهموا

وأن عقد الوفا الماسيِّ ما انتثرا

ويختتمها كما بدأها بتحية مستحقة بهذا البيت المليء بالمعنى وبالمغنى:

فأنتِ غيث على ساح الثقافة في

زمان جدب وقحط طالما انتشرا

تهنئة لشاعرنا الشاب مشوح.. وتحية لأخي المثقف الشيخ الدكتور المشوح الذي تكرم وأمدني - وفق طلبي - بهذا الزاد السخي الغني الذي أثرى هذه الحلقة وأمدها بالطاقة الحرارية مانحة الدفء، والحرارة.. الدفء لمن ينشد الإشراق والحرارة لمن لا يطيق إلا الاحتراق بنار الصمت الذي دونه صمت القبور..

***

لإبداء الرأي حول هذه المراجعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5621» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض ص ب 231185 -الرمز 11321 فاكس 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة