Culture Magazine Monday  12/11/2007 G Issue 222
فضاءات
الأثنين 2 ,ذو القعدة 1428   العدد  222
 

الاختلاف والإبداع
يمنى العيد

 

 

لئن كانت الأنوثة، شأن الذكورة، معطى طبيعياً، وكانت الحياة من حيث هي وجود واستمرار، لا تستقيم بواحدٍ منهما دون الآخر، فإن السؤال البديهي الذي يمكن أن يطرحه كل إنسان عاقل هو سؤال يستنكر تمييز أحدهما الذي هو الذكر، على الآخر الذي هو الأنثى.

ترفض المرأة أن تعامل بدونيّة بسبب اختلاف هو في الطبيعة، اختلاف هو بين عدلين وليس هو اختلاف المرأة عن الرجل كأنه هو الطبيعي والمرأة تختلف عنه، أو كأنه هو المقياس والمرأة بهذا المقياس هي دونه.

ترفض المرأة، وهي على حق، أن تعامل بدونيّة، سببها مقياس معياري - قيمي يفضل الذكورة على الأنوثة.

ترفض أن يُنظر إليها خلافاً لما وصفته لغتنا الموروثة، والمتداولة حتى اليوم، بالولف والوليف.

المرأة وليفة الرجل، والرجل وليف المرأة. إنها العلاقة القائمة على الودّ والصداقة. العلاقة التي لا معنى للحياة ولا وجود للبشر بدونها. ولئن كان من تجاوز لهذه العلاقة ومعناها فهو مما تأباه طبيعة الحياة وجوهر الوجود. إنه مما نعزوه إلى عطل فيها. عطل يعمل الإبداع، بكل أنواعه، وبكل أشكاله، وبكل لغاته.. على إصلاحه.

ولعلّ المرأة وعت، ومن موقع الظّلم الذي لحق بها تاريخياً، هذا العطل، وأدركت مدى ضرره، لا عليها وحدها، بل على البشرية كلها، فسعت إلى رفع هذا الظّلم اللاّحق بها، وبمن هم في موقع الدونيّة مثلها سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً. ولقد ساندها، في سعيها هذا، رجل أدرك، شأنها، أهمية حصول المرأة على حقوقها في أكثر من مجالٍ من مجالات الحياة، وخصوصاً في مجال التعلّم والتثقف، ناظراً إلى ما للمرأة من دور مهم في نهوض المجتمع ورقي أبنائه. فدعا رفاعة الطهطاوي (1801-1873) إلى تعليم البنات، وسعى إلى تحقيق ما دعا إليه بفتح مدرسة للإناث، ودافع قاسم أمين (1863- 1908) عن حقوق المرأة وطالب بحفظ كرامتها ومساواتها بالرجل في ما يخصّ تعلمها واختيار شريك حياتها وخروجها إلى النور والحياة. ولم يبخل ناصيف اليازجي بالعلم على ابنته وردة ما هيأ لشاعريتها البروز، وكذلك سعى علي سلام لتوفير العلم لابنته عنبرة، وكان للمعلم بطرس البستاني (1819-1883) دوره البارز في الحضّ على تعليم البنات واحترام حقوقهن في الخروج إلى المجتمع. إضافة إلى هؤلاء كان للمبدعين من أمثال جبران خليل جبران (1883- 1913) وأمين الريحاني (1876-1940) موقفهم في مساندة المرأة ومناهضة كل سلطة تقمعها وتنال من حقها في حياة حرة وعادلة وكريمة.

ولم تعتبر هذه المواقف، أو هذه الكتابات، أدباً نسائياً لمجرد دفاعها عن المرأة، أو تناولها ما يخصّ المرأة، كما لا يمكننا اعتبارها أدباً ذكورياً لمجرد أن كاتبها رجل. فلماذا نعتبر ما تكتبه المرأة في الموضوع نفسه أدباً نسائياً، ألأنه صادر عن امرأة، أم لافتراض يقول بأنّ ما تكتبه المرأة هو ضد الرجل، وهو بذلك نسائي.

لكن لم تعبّر المرأة، يوم كان التعبير شفوياً، ولم تكتب في زمن النهوض والحداثة، ضد الرجل. وتسمية ما قدمته المرأة ب أدب نسائي، لا يخلو في اعتقادي، من معنى يستهدف وضع المرأة، أو استمرار وضعها، في خانة تُبقي للرجل إمكانيّة الاختلاف القيمي عنها، فيكون للرجل من التميّز ما ليس لها حقّ فيه.

لقد كتبت المرأة أدباً يصبُّ في العامّ الاجتماعي والإنساني والثقافي... وإن كان هذا الأدب يصدر عن أناها الأنثويّة، أو يتناول ما له علاقة بذاتها.

ويمكن القول إن كتابة المرأة، على تنوعها، هي في العمق منها، من أجل عدالةٍ وندّيةٍ تعيد إليها حقّها في أمور كثيرة، أو تعطيها ما يعطى للرجل دون نظرة دونيّة لها.

لم تكتب المرأة ضد الرجل الإنسان، بل ضد سلطة منسوبة إلى ذكورته، ولم تنحصر كتابتها في ما يخصّ أنثويتها كي نسمي أدبها أدباً نسويّاً. يشهد على ذلك ما قدمته عبر تاريخ طويل، منذ النهضة كتبت المرأة من أجل العدالة والمساواة . وفي هذا الصدد نشير إلى زينب فواز (1846-1924) التي تقول في إحدى رسائلها (الزينبيَّة) المكتوبة تحت عنوان (رجال المستقبل وتعليم البنات):

(وأعلم أن الروح جوهر مجرد لا ذكر ولا أنثى، ولكنه يتأثر بحالة التقويم البدني فتختلف قابليّة الرجال والنساء، وكل منهما نصف العالم، وأهمية موقعه على هذه النسبة العادلة).

إنَّ مسألة الاختلاف بين الذكورة والأنوثة في نظر هذه المرأة الرائدة، مسألة تستوجب نسبيّة عادلة قاعدتها المناصفة في الانتماء إلى العالم وفي صيغة الإفادة منه. وعليه تؤكّد هذه الأديبة على تعليم المرأة وتعتبر تربية البنات (الأساس الأكبر) في إصلاح شأن الشبان، فالطفل الذي ينشأ في حضن أمٍّ جاهلة، يأخذ عنها، كما تقول، ما يمكن أن تتصف به من مساوئ بسبب جهلها، وقد لا تصلحه المدرسة أو المعلم، ومثله في ذلك مثل البناء المختل.

هذا الموقف الاجتماعي الذي يحكم رسائل المرأة، زينب فواز، يقابله موقف إنساني تنطوي عليه كتاباتها الإبداعية الروائية: ففي روايتها (حسن العواقب) (1899) مثلاً، لا تتخذ موقفاً ضدّياً من الرجل، ولا تنسج عالم روايتها من منظور أنثوي، بل تحكي عن صراع الأمراء الإقطاعيين (في جنوب لبنان) على السلطة، لتُظهِر عواقب هذا الصراع ومآله الوخيم إذ يؤدي إلى فقدان أناس المجتمع لرزقهم ولأبنائهم، ولتؤكد، بالمقابل، على قيم الحب والخير والإيمان بعدالة الله. هذه العدالة التي تعاقب في الرواية، الشرَّ وأهله وتنتصر للخير وأهله.

ويبدو انتصار الخير في رواية فواز هذه، موقفاً ينشد الهدوء والاستقرار لأبناء المجتمع، ذكوراً وإناثاً، ويشير في الآن نفسه، إلى منظور روائي يداخل بين الاجتماعي والسياسي بما هو تداخل بين قضايا تعني الرجل بقدر ما تعني المرأة.

ويمكن الإشارة في هذا السياق نفسه إلى مي زيادة (1886-1940) التي وإن اهتمت بالمرأة وبما تكتبه من أدب، فإنها تجاوزت قضية تحررها من قضيّة خاصة إلى قضية عامة هي عبودية الإنسان، رابطةً بين هذه العبودية وما ساد البشرية من أنظمة سياسية، كأن ما يصيب المرأة يحيل لا على الذكورة التي هي طبيعة التكوين، بل على أنظمة هي من صنع التاريخ. ومن هذا المنطلق الفكري رأت مي زيادة في الثورات التحررية (كالثورة الفرنسية) مناسبة تاريخية أتاحت للمرأة أن تنهض (من تحت أقدام السيد الساحقة).

والسيد، في نظر هذه المرأة الأديبة، هو وفي حال الأسرة الأب الذي يسود أفراد عائلته، (كل أفراد عائلته) متأثراً بسيادة زعيمه عليه.

كذلك يمكننا الإشارة إلى رائدة أخرى هي لبيبة هاشم (1882 - 1952)، فهي في روايتها اللاّفتة: (قلب الرجل) (1904) حكت عمّا سبّبته الفتنة الأهلية، التي وقعت في جبل لبنان سنة 1860، من مآسي طالت النساء والرجال.

ليست هذه الرواية تاريخاً ولا هي حكاية نسائية، بل هي حكاية أمكنة وأشخاص يبحثون في هذه الأمكنة (مصر، فرنسا...) عن عيش ورزق لهم. وتجمع بينهم ظروف العمل. ينتقلون دوماً فيتفرقون بعد لقاء ويلتقون بعد فراق وتنشأ بينهم علاقات الصداقة بعد أن باعدت بينهم الفتن الطائفية والتعصب الديني.

هي رواية الغربة، غربة الإنسان عن بلده وذاته، كما هي رواية التلاقي على قيمٍ لا تناقضُ المرأة فيها الرجلَ بل يناقضُ الودُّ فيها العداءَ ليكون الحبُّ والسلامُ بديلاً للدم والقتال.

لم تكتب المرأة ضد الرجل، ولئن كان من كتابة بدت كذلك، فهي، في العمق منها، ضد سلطة مارسها الرجل، أو ضد سلطة كانت له تاريخياً وجعلت من ذكورته مرجعاً وقانوناً يشرّع لها.

على هذه السلطة، وليس على الرجل، شنّت بطلة ليلى بعلبكي، في روايتها (أنا أحيا) (1985) حربها. ولقد تمثّلت هذه السلطة في الأب، وفي رئيس المؤسسة، وفي الأستاذ الجامعي، أي تمثلت في الرجل بصفته في موقع السلطة في مراكز البنية الاجتماعية، وبصفته، من هذا الموقع، يمارس القمع على لينا بطلة الرواية، ويعيق عملية التحرر بما هو، أي أن هذا التحرر العلّة والهدف.

ويمكن القول بأنَّ المرأة تكتب الأدب بصفته أدباً، أو جنساً كتابياً له قواعده الشعرية وتقنياته البنائيّة، كما له متغيراته التاريخية. وهي قواعد وتقنيات لا ترتبط، على اختلاف الحكاية أو الموضوعات، بذكورة من يكتب أو بأنوثته... هكذا وحين انكسرت هذه القواعد، وتغيرت التقنيات فإن ذلك تحقق بإبداع من يكتب من الرجال والنساء. ففي الغرب وبالنسبة إلى الرواية، لا يمكن إغفال ما قدمته فيرجينا وولف ، مثلاً، والاقتصار على ذكر مارسيل بروست، أو كافكا، أو ألان روب غرييّه، أما بالنسبة لخطابنا السردي الروائي، فإن التجريب التحديثي للرواية العربية هو تجريب مارسه من يكتب الرواية من الرجال والنساء، أمثال جمال الغيطاني ورضوى عاشور، وصنع الله ابراهيم، وإدوارد الخراط، وهدى بركات، ومي التلمساني...

أما في ما يخص الشعر، فإن وردة اليازجي، وعائشة تيمور، وزهرة الحر... وقبلهن الخنساء، وليلى الأخيلية لم ينشدن الشعر، أو يكتبنه، بقواعد أنثوية، كما أنه، وبالمقابل، لا يمكننا اعتبار بحور الشعر وأوزانه ذكورية، ثم إن انتقال الشعر العربي إلى قصيدة التفعيلة كان بمساهمة من نازك الملائكة أساسية، كما كان بمشاركة من بدر شاكر السيّاب أساسية أيضاً... بمعنى أن مثل هذا الانتقال تحقق على مستوى الشعر كشعر ، وليس على مستوى أنوثة أو ذكورة من كتب وأبدع.

- بيروت


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة