Culture Magazine Monday  12/11/2007 G Issue 222
مداخلات
الأثنين 2 ,ذو القعدة 1428   العدد  222
 
بَلْ أنَّ المفتوحة للتوكيد... يا أبا أوس

 

 

في العدد السابع عشر من المجلة الثقافية الصادر في الثاني عشر من رمضان 1428هـ، اطلعت على المداخلة اللغوية للدكتور إبراهيم الشمسان تحت عنوان (لا توكيد في أنَّ المفتوحة)، فالرجل عالم أصيل، وباحث مدقق، فقد التقيته في إبريل من عام 1992م بمؤتمر اللغة العربية في المستوى الجامعي، بجامعة الإمارات، ويومها قدم ورقة رصينة عنوانها (أخطاء الطلاب الصرفية والاستفادة منها في التعليم الجامعي) ذكريات، ويالها من ذكريات، فلم أنس، وهل ينسى الثقات؟!

أما وقد أعلن رأيه في مسألة علمية، فحق للتلميذ أن يرد على أستاذه، ما دام أن الرأي لا يفسد للود قضية وأقول له: بل أنَّ المفتوحة للتوكيد، حسب ما قرأته وجمعته من كتب النحو لعلماء أجلاء تتلمذنا على كتبهم.

فاعلم أيها الأستاذ الجليل أن (أنَّ) المفتوحة تفيد معنى التوكيد تماماً ك(إنَّ) المكسورة، إلا إن المكسورة الجملة معها على استقلالها بفائدتها، يحسن السكوت عليها، وليست المفتوحة كذلك، بل تقلب معنى الجملة إلى الإفراد، وتصير في مذهب المصدر المؤكد، ولولا إرادة التوكيد لكان المصدر أحق بالموضع، وكنت تقول مكان: بلغني أنَّ زيداً قادم، بلغني قدوم زيد.

وقد أثار بعض المحدثين أن (أنَّ) ليست للتوكيد. فقالوا: لو كانت (أنَّ) للتوكيد لوقعت في جواب القسم مثل (إنَّ) وهذه شبهة مردود عليها , من أن (أنَّ) تحول الجملة إلى مفرد في المعنى هو المصدر، والقسم يجاب بجملة لا بمفرد، ولذلك لا يجاب بها القسم.

ثم هناك قرائن ودلائل لغوية على إفادة (أنَّ) معنى التوكيد، ألا ترى أن قولك: (علمت أنَّ زيداً قادم) أكد من قولك: علمت زيداً قادماً). فإذا كان لا سبيل إلى اليقين القاطع فلا مجال للتوكيد بها، وذلك كما ورد في قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (10) سورة الممتحنة، لم يقل عزّ من قائل: فإن علمتم أنهن مؤمنات، لأن الإيمان أمر قلبي لا يعلمه ولا يطلع على حقيقته إلا الله، ولذا قال {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} فاكتفى بالأمارات والدلالات الظاهرة الدالة على الإيمان، ولم يؤكده.

وقال تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} (66) سورة الأنفال. فجاء ب(أنَّ)، لأنه علم مؤكد

وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (22-23) سورة الأنفال. فقال: (ولو علم الله فيهم خيراً)، أي لو علم فيهم جانباً ضعيفاً من الخير غير محقق ولا متيقن لأسمعهم، أي أن هؤلاء ليس فيهم شيء من الخير المحتمل، ولذا لم يأت بأن. والله أعلم.

وقال على لسان يوسف لأخوته: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} (59) سورة يوسف، فقال أولاً: {أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} على التوكيد بأن، ثم قال و(أنا خير المنزلين) على غير سبيل للتوكيد وذلك -والله أعلم- أنه في الحكم الأول متأكد من أنه يوفي الكيل، تأكداً لا شك فيه، لأن هذا أمر يستطيع الجزم به بخلاف ما بعده (وأنا خير المنزلين) فإن هذا الحكم ليس بمنزلة الحكم الأول في التحقيق واليقين فجاء به غير مؤكد، فخالف بين التعبيرين لاختلاف الحكمين.

ومما يدل على أنها للتوكيد، أن القرآن الكريم إذا قرن الظن بها أفاد اليقين -كما يقول النحاة - فحيث اقترنت به في القرآن الكريم أفاد الظن معنى العلم واليقين. وقد جاء ذلك في كثير من الآيات.

قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (45-46) سورة البقرة،

وقال: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} (20-22) سورة الحاقة، فإن الظن يلحق بالعلم واليقين.

وعندما يكون الظن للرجحان فقط لا تأتي أنَّ وذلك في قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ} (230) سورة البقرة.

وهذا كله يؤيد وجهة النظر القائلة: بأن (أنَّ) تفيد التوكيد على خلاف ما ذهب إليه الدكتور إبراهيم الشمسان في قوله: أن (أنَّ) المفتوحة ليس فيها عندي توكيد بل هي رابطة لجملتها بما قبلها.

والدكتور إبراهيم يقول: لو أنها للتوكيد لجاز حذفها، واستشهد بعدم حذفها في مثل: أنكر زيد أنه كاذب، وأظن والله أعلم على حسب المعنى، أنكر زيد لأنه كاذب، فحذفت اللام هنا كما تحذف من المصدر، فهي في المثال الذي ذكره الدكتور للتعليل، وذلك لجواز دخول لام العلة، وحرف الجر إذا دخل على أنَّ لفظاً أو تقديراً فتح همزتها وهو تعليل إفرادي.

أما قول الدكتور إبراهيم: قد ترد إنَّ المكسورة والمفتوحة مع فعل واحد فكما يقول النحاة: الموضع التي تقع فيه (أنَّ) المفتوحة، لا تقع فيه (إنَّ) المكسورة، فمتى وجدتهما يقعان في موقع واحد فاعلم أن المعنى والتأويل مختلف.

والله من وراء القصد

عبدالبر علواني سليمان * مدارس الرحمانية الأهلية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة