Culture Magazine Monday  12/11/2007 G Issue 222
مراجعات
الأثنين 2 ,ذو القعدة 1428   العدد  222
 

استراحة داخل صومعة الفكر
البدء ومرافئ العودة عبد الرحمن بن سليمان المروبع
سعد البواردي

 

 

بدء في رحلة سفر جادتها شعر .. ومطيتها مشاعر .. وفارسها شاعر .. إلى أين أخذه المسرى وهو يدلج السير بحثاً عن أشياء تعتمل في رأسه .. تؤرقه حيناً وتثيره حيناً وتزجره ثالثة .. وربما أيضاً تخادعه أو تخاتله ..

هكذا حلبة الشعر صراع بين قلم يبحث له عن كلمة يتنفس من خلالها .. وبين ألم يبحث عن شكوى يتنفس من خلالها ناشراً همومه .. وناثراً أحزانه عبر مساحة حياته المليئة بالحب وبالرعب ..

لا أدري إلى أين أخذه التطواف .. وفي أي شط أرسى قارب إبحاره وقد عاد من رحلة سفر في بحر حياته المليئة بالحصاد الشعري .. بداية مع مقطوعته (إليك) .. التي حاول من خلالها أن يُعرِّف نفسه .. أن يكشف جانبا من صورته ومسيرته ..

انا يا صديقي في الجراح قديم

انا بعض وهم خامد .. وهموم

أنا شاعر يرثي الأسى أشواقَه

والجرح فيه خنجر مسموم

ودفاتري مهجورة .. وسطورها

موؤوده. وعلى الغلاف سديم

موؤدة يلزم لها واو ثالثة .. (موؤودة)

استشعرت الفأل لشكواها .. الشاعر الذي لا يصرخ للألم لا يصرخ للحياة .. عضة الشكوى تملي الكلمات لا معبرة على قدر الأنات .. يسترسل في ضراعته .. جراحه مظلمة فؤاده حرقة وجحيم .. بقايا جمجمة كانت انيس سمره .. أشياء كثيرة قالها .. ترى عن أية شكاية يتألم ويتكلم؟!

طعن الخيانة انفجار مشاعري

ان الخيانة جرحها ملغوم

للشعر كانت حية مشؤومة

تأتي لكي يبكي الزمان حكيم

أنا يا صديقي لم أحرك ساكنا

خانت فخان جلالها التعظيم

واليوم جاءت والندامة طبعها

وعلى سماها ذلة ووجوم

حتى مع العودة .. وغصن أنامل الندم تمرد على عاطفته رافضاً الأوبة والتوبة

لا لن أكون على جراحك بلسما

وليندبن على الدواء سقيم

أيكون في عرف القصيدة خائن؟!

أعلى أديمي يعبر المجذوم؟!

من قال يا صديقي إن القصيدة لا تخدع القصد ولا تلوي بمشاعره ..؟ إنها أحياناً تبحر في الاتجاه المعاكس.

(من محسد إلى أبي الطيب) عنوان مليء بالغموض .. هذا ما سأحاول الكشف عن سره من واقع شعره:

مساء الشعر سيدنا وشادينا

أبا الشعراء والحكماء

والصحراء - إذا وُلدت -

والخيل التي ذهبت وما عادت لأيدينا

يبدو أنه يتحسر على ماض جميل طواه الزمن .. ويسترجعه على واقع يسكنه الوهن:

فلا ستر يوارينا

فلا بطل نمجده

ولا شعر ننمقه

فلا عرب ولا عجم

بلا معنى ولا مبنى

يموسقنا فيسلينا

ابتدأت ملامح الصورة في الظهور .. لعله يعني الشعر بأصالته وجزالته وقد تحول الى ما يشبه الثرثرة الجوفاء في أفق التوسل والتسول. ومع هذا مازال الحلم يسكن دواخله ويبشره بميلاد بطل ..

غروب الليل آيته

وصوت الفجر صهوته

صلاح الدين رايته

وسيف الله ساعده

حلم يتسع لأكثر من شعر .. حلم بتاريخ له عذوبة الكلمات .. وإشراقة الأمل

(للنور مدينة لا تنطفئ) عنوان جديد تغنى تحت مظلته بأحب مدينة إلى قلبه .. وإلى قلوب غيره .. أليست الطيبة في ثراها .. الطيبة في مسماها؟!

بدأ الزفاف حبيبتي فانسابي

بين الزهور برقة وشباب

أنتِ المدينة فاملئيني بغبطة

يا مأزر الإيمان والأطياب

أنتِ الحبيبة فامنحيني موعدا

وسكينة تنساب في أعصابي

أعطى لها من الحب ما تستحق. أليست السنى؟ ومأوى التقى؟ ومنارة الأواب؟ ومدينة الأحباب؟ وخميلة النخل والنعناع. والمحراب؟ أليست الروضة ومأوى قبر رسول الإنسانية صلاة الله وسلامه عليه؟ أليست مثوى الأنصار؟ .. بلى .. وأكثر من كل هذا أنها تستحق الحب كله.

أخذنا إلى أحب مدينة .. ويأخذ إلى أحب وليد صغير إلى قلبه .. إلى يزيد حيث يبثه شوقه وذكريات طفولته.

خذني صغيري كي أعود قصيدة

مائية زهرية الألوان

خذني وسافر في عيوني وارْوني

(أنشودة أقوى) من الأشجان

خذني وسافر في شئوني واسقني

نبعاً عزيزاً من ربيع زماني

ويستطرد شاعرنا في مخاطبة فلذة كبده (وليد):

خذني يزيد ففي عيونك موعد

وقواقل وبشائر تلقاني

خذني إلى لُعبي أحادث طيفها

وحمامة تهفو إلى أحضاني

ومجالس ضوئية سافرتها

صبحا على أنفاسه قرآني

أبا يزيد لم يكن الوحيد الذي تنشده وتناشده أن يأخذك معه .. لقد أخذتنا أنت بجميل شعرك ورقة مشاعرك فلتأخذنا معك إلى أحلامك ومرابع صباك، حتى وأنت تستشعر الغربة .. الاغتراب أن لا تقترب من الأحباب وأنت بينهم

خذني يزيد ففي فؤادي غربة

وطفولة، وبراءة، وأماني

خذني على عينيك أغفو ساعة

أنسى على أحلامها أحزاني

أحسنتَ فقد أجدت الخطاب.

ماذا عن (بكائية العشرين؟!) التي أهداها إلى الطيب المتنبي ..

من أنتَ قل لي؟ تثور النفس تسألني

من أنتَ قل لي؟ فتعميني إجاباتي

من أنتَ قل لي؟ سؤال ظل ينبش في

صمتي، وهمسي، وفي ماض، وفي آتي

ويشعل النار من حولي ويحرقني

رغم الصقيع الذي يحتل ساحاتي!

نار الدياجي .. أنا مازلت أمنية

عشرون عمري! فمالي اقتفي ذاتي؟

عشرون عاماً .. أما للزهر أغنية؟!

نشوى يهدهدها حلم البدايات؟!

تساؤل يطرحه على نفسه .. ويجيب عليه هو نفسه دون حاجة إلى أحد ..

ما ابتغيه أنا .. يا ويح أنملة

جاءت تطاول هامات السماوات

أتلك أضغاث ما صاحبته زمنا؟!

جرحي وفكري، وشوقي، وانطواءاتي

مرة أخرى يتوجع على حال القصيد وقد تعفر وجهه بتراب المستلقين على حائطه

وأنت يا من على همي تباركني

شعري فديتك يا سيماء مرآتي

هل جئت تبعث في عيني أسئلة

هامت على جدبها أولى بداياتي؟

أم جئت تحلم؟ قد مات الخليل عنا

(عروضه) صُلبت يا هول مأساتي

مات الخليل!! يقول الزيف ناعبه

ما مات والله يا زيف الشعارات

ما زال للشعر ينبوع يفجره

على التناغم والتقطيع أبياتي

حبذا لو صحح كلمة يفجره ب تفجره نسبة إلى أبياتي المؤنثة ..

(البحر .. ومرافئ العودة) حيث العنوان الذي اصطفاه لهذا الديوان:

الآن تبدأ. والطريق متاهة

ونهاية وخطاك سرب مرهق

خمدت شموعك واشتعالك نشوة

مأفونة، وهواك درب مغلق

من يعني بهذا الخطاب المرعب؟!

من سياق ما مضى أشعر أنه ما زال في ذود دفاعه عن لغة الضاد الشاعرة .. من الدخلاء على مملكتها التي تأبى النيل من مكانتها وحصافتها وحصانتها .. لنستمع إليه وهو يكشف الغطاء عما يعني:

لا تكترث .. والصاخبون ملامح

مشبوهة وهواك لحن شائق

(شيق) جملة جمالية أكثر من شائق ..

لا تكترث تلك القصائد ظلمة

(نبطية) وهواك حرف مشرق

فدع الليالي .. غربة لا تنتهي

أدغالها الحمراء وجه مُهرق

واحضن هواك حمامة يسمو بها

قلب على إيمانه يتحلق

وانظم رؤاك جداولاً رقراقة

فهواك دوح وارف يتأنق

بهذا الوضوح كشف لنا شاعرنا المجيد عبد الرحمن الروبع عن قصده .. انه يغار على لغته الفصحى فما يطيق لها أن تمس بسوء .. يأبى تقطيع أوصال القصيدة تحت مسمى الشعر الحديث، أو الشعر الحر .. أو حداثة شعر مرسل لا يخضع لموسيقى ولا إيقاع .. بنفس القدر الذي لا يستسيغ فيه هذه الهوجة من الشعر النبطي التي طغت على الساحة بشكل صارخ ومحموم ومبتذل ..

أتجاوز معكم بعض مقاطعه الجميلة في (وداع صاخية) (و (إلى نائبة) وقد ملأنا حماساً وإحساساًً بأن للغة الضاد أنصاراً .. واعصاراً يقف في وجه الذين يحاولون التجهيل والتدجيل والنيل من لغة القرآن ومقدرتها ومكانتها ..

نقف معاً على صوت يشق طريقه في قوة وعلى فمه عبارة واحدة تختصر الوطن والمواطنة اسمها (الانتماء).

يا بلادي وانتمائي عزة

واختيال واحتفال في دمي

يا بلادي والرمال السمر في

خاطري مهدُ طُهر المحرم

من هنا نادى الهدى أعلامه

تتهادى فوق هام الأنجم

(نادى الهدى اعلامه) لا تعطي الحالة صفتها بشكل مباشر .. لعل الأقرب (مدّ الهدى اعلامه) وتنتهي قصيدته بهذه الأبيات

يا بلاد النور سيري وأْمني

يا ذرى المجد .. ومجد المنتمي

دون أبوابك رايات الهدى

منبر الهادي وشوق المحرم

(دون عليائك في الخطب المدى)

ثورة النور وشهب الأنجم

رثائية مؤثرة صاغها شعراً مليئاً بالبر أهداها لروح أمه

كانت هنا أمي على صلواتها

يأتي الصباح ويحتفي التهليل

كانت هنا أمي وكان حنانها

غيثاً إذا أدمى الفؤاد غليل

كان الصباح يمر من أبوابها

وعلى يديها تستفيق حقول

لبست جلال الصمت حتى فارقت

آثام دنيا بالكلام تصول

شاعرنا وطيد العلاقة بفرسان الشعر وفرسان الحب له معهم أكثر من خطاب .. وأكثر من استشهاد .. هذه المرة مع (قيس) في مقطوعته (ما لم يقله قيس) ماذا قال شاعرنا الروبع؟!

عرفت قبلكِ من كانت تسابقني

إلى النجوم التي أشعلتها أملا

عرفت قبلكِ حتى صرت أغنية

للحب صادقة لا تعرف الدجلا

واليوم أنتِ على أبواب أمنيتي

قلب صغير أعاد الشعر والغزلا

ويستطرد في مقطوعته الجميلة إلى أن يقول:

أمنتكِ القلب يا عشقا يباركني

(يطارد الهم في عينيَّ والمللا)

ان لا تكون هوى من عاد يأخذني

من رحلتي في رؤى دربي اذا خضلا

ويأخذه شعره كل مأخذة .. حلمه تحول إلى ما يشبه الأضغاث .. عاد من الدرب بخفي حنين كما هي عادة الشعراء .. ويكتفى منها بشيء من المناجات الحزينة:

أمنتكِ الطهر، والآمال ملهمتي

لا ترجعي بالذي من أضلعي أكلا

هل السراب رجائي؟ أدمعي شهدت

أني على الدرب يا من يبعث الأملا

شاعرنا نكث العهد والوعد ان لا يقبل من الشعر إلا ما كانت له ثوابت القصيدة المقفاة الموزونة والمموسقة ذات الإيقاع .. وها هو يخرج من إطار حماسه في مركبته الفضائية حيث تفتقد الجاذبية .. وتتأرجح الأشياء خارج الطوع والرغبة والانضباط لنستمع إلى مقاطع من فضائيته:

عيناكِ أم تلك السواقي

وعواصم التفاح تجتاح غابات الجوى

من أين ظاهرة المواسم والمراسم والحضور

من أين يسألكِ المسافر والرمل الذي أيقظتِه

ابدا يثور على المنابر والجوامع والطبول

قطار المرحلة يدنو رويداً رويداً من محطاته .. وأمامه أكثر من طبق شهي يلزم التهام أجوده قبل أن نترجل .. طعمنا شيئاً من الحب .. وشيئاً من العتب. وبعضا من الغضب لا تتسع مساحة الرحلة لالتهام المزيد منه ..

نتجاوز (إلى مسافرة) و(ظنون) و(أمل) ونمد فم شهينا إلى قاتلته التي استقدمها باعترافه .. ولكن..! القليل لا يقدر الإفصاح عن من قتله لأن صوته مغلف بصمت الموت .. إذاً فهو من الموت اللذيذ الذي يشتهيه الشعراء في غزلهم بعد أن تفرغ أيديهم وألسنتهم من كل سلاح أمام العيون الحوراء الساحرة، والرموش الجارحة. شاعرنا أصابته الرجفة والحيرة وراح يتساءل من أين يبدأ؟!

من أين أبدأ. والحكاية أدمعي

ومدامع الأحباب حين تثور

من أين أبدأ. والجريمة قصة

الحقد فيها شاهد ونذير

تلك التي جاءت وفي أغوارها

قلب حقود أسود. وفجور

تلك التي قتلت سعادة أسرة

الحب فيها عالم منظور؟

كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ أسئلة تتطلب الإجابة.

غدرت بها، ثم انثنت طعناتها

في الصدر في الوجه الكريم تفور

يا طفلها المسكين كيف ستنمحي

صور الأسى بين الدماء تسير

ويخلص المشهد على مأساة امرأة غدرت بها خادمتها .. لا تعليق أكثر من أن نقول لعمته الرحمة ولشاعرنا وأسرتها العزاء .. مرددين مقولة الشاعر:

ومن لم يمت بالغدر مات بغيره

تنوعت الأسباب والموت واحد

وأعتذر للشاعر وقد استعضت السيف بالغدر للمناسبة.

وأخيراً ونحن على مشارف محطتنا الأخيرة أمامنا جميعاً كمرافقين طبق واحد لا بد من تذوقه قبل أن نفرنقع ويتجه كل واحد منا إلى حال سبيله.

هذا الطبق عنوانه (نداء من الصف الأخير):

هل كنتَ يوماً في الحياة أجيرا؟

ومناضلا في ظلها مقهورا؟

أو كنت يوماً للنشاط سفيرا

بين المدارس مشرفاً مغموراً؟

تجري وتصرخ في الدروب عقيمة

هيهات تقنع رائدا، ومديرا

ومعلما صبَّ العلوم قوالبا

ويصد عن دور النشاط غزيرا

ومنظرا كل الكلام فعاله

يمضي ويرسل خطة قشورا

وصف لحالة مَرَضية غير مرْضية تقف عائقاً أمام رحلة التعليم .. لا بد من علاجها لخطورتها على تربية النشء وتثقيفهم وتعليمهم .. لا تحتاج إلى تعليق .. وإنما تحتاج إلى تطوير إداري وتعليمي ومنهجي يأخذ بأسباب النظريات التربوية الحديثة.

يا واهب الأجيال نبض فؤاده

احذر فؤادك أن يكون كسيرا

تسخو بروحك في دروب نشاطهم

وتظل خلف صفوفهم مبتورا

أتراهمو حسبوا فؤادك جامدا

يمشي الطريق مبرمجاً وضريرا؟

ويخلص في قصيدته إلى إبراء ذمته .. وإلى نزاهة قصده وقد وضع نقاطه على الحروف.

لا تغضبوا أنا لست أول شاعر

رجم الظلام لكي يكون منيرا

لا تغضبوا ليس النفاق سجيتي

إن كان غيري في النفاق خبيرا

لا أحد يغضب يا شاعرنا من كلمة حق أريد بها حق .. صديقك من دلك على خطأ فيك حجبه عنك من لا يرجون لك خيراً ..

وأنت كمواطن تتحمل جزءاً من واجبات ومسؤوليات وطنك .. من أجل الارتقاء بمستوى التعليم ومستوى المعلم الذي عناه شوقي في قوله:

قم للمعلم وفِّه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا

أعلمتَ أشرف أو أجلّ من الذي

يبني وينشئ أنفساً وعقولا

انتهت الرحلة .. وإلى لقاء متجدّد بإذن الله مع شاعر جديد.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة