Culture Magazine Monday  16/07/2007 G Issue 207
فضاءات
الأثنين 2 ,رجب 1428   العدد  207
 

الحرية.. والمجتمع الطبيعي
فاضل الربيعي *

 

 

عندما كان البشر في المجتمع البدائي (1) يعيشون في (حرية تامة) على الدوام، وكانوا ينظمون أنفسهم في إطارٍ من المساواة التامة فيما بينهم؛ فإن الحرية الطبيعية كانت آنئذٍ، تتبدى كتجسيد فعليّ للمساواة الطبيعية (إذ ليس ثمة ما هو أوضح من أن الكائنات من نفس النوع والرتبة، تولد مستمتعة بكل مميزّات الطبيعة وبكل قواها). لقد كانت الحرية هي الميّزة الأعظم والأكثر قوة وجاذبية من بين سائر مزايا الطبيعة الأخرى. بيد أن حاجة المجتمع الطبيعيَّ، المتزايدة بفعل تنامي وتطور أشكال المعرفة والنشاط الإنساني، إلى أدوات اجتماعية جديدة لأجل تنظيم نفسه بشكل أفضل وأرقى، هي التي فرضت على أفراده التنازل عن جزء من حريتهم، لقاء تأسيس جهاز يقوم بتلبية هذه الاحتياجات، والدولة في صورها الجنينية الأولى هي هذا الجهاز الذي كانت كل وظيفته، خدمة الجماعة الطبيعية وتلبية احتياجاتها. ومن غير شك؛ فإن الحاجة إلى مثل هذه الأداة أمْلتها بصورة ُمطْرِّدة، لا الرغبة ولا الحاجة الإنسانية المحض؛ وإنما فرضتها بالقوة قوانين التطور والانتقال من طورٍ اجتماعي إلى آخرٍ، كما أمْلتها حاجات الاتصال بين الأفراد كذلك.

بهذا المعنى تكون الدولة في الأصل مجرد أداة جهاز (Instrument) في خدمة المجتمع، وذلك ما جعل من تنازل كل فرد طوعاً عن جزء، من حريته الشخصية لصالح حرية الجماعة، أمراً يندرج في سياق فهم عميق لمعنى الحرية وضماناً لحرية الجميع. وفي النهاية لأجل إعادة توزيع الحرية والسلطة والمعرفة بصورة عادلة. لقد انبثق العقد الاجتماعي الأول بين البشر من رحم هذا الشكل البدائي لتنازل الأفراد، طوعاً عن جزء من حرياتهم الشخصية ومن دون إكراه. ومقابل ذلك حصلت الجماعة على قاعدة جديدة وعريضة ناظمة لحريات الأفراد العامة. وهكذا أصبح كل فرد، فرداً حرا بالفعل في إطار اجتماعي من المساواة التامة. ومن رحم هذا الدستور الأول في مجتمع البدائيين، انبثقت فكرة الدولة كتعبير حقوقي وأداتي في الآن ذاته، لتحقيق الرغبة والإرادة الجماعية في الحفاظ على المساواة الطبيعية بين الأفراد. وهذه بالضبط كانت هي الوظيفة التاريخية التي تكفلت بها بالدولة في أدنى شكلٍ لها (قبيلة، مشيخة، إمارة، مملكة، مدينة - دولة). وفي إطار هذه الوظيفة جرى تحديد التلازم بين مفهومي الحرية والمساواة، والذي سوف تعيد التأكيد عليه سائر العقائد والأديان. وحسب تعبير كانط، فقد كانت الحرية جزءا من ماهية الإنسان الطبيعي، لا يمكنه ولا يستطيع أن يتنازل عنه؛ إذا ما تنازل الفرد عن حريته دون مقابل فإنه سوف يفقد ماهيته أي جوهره الإنساني. ومع ذلك، بدا التنازل عن جزء من ماهية الفرد وفي خاتمة المطاف عن جزء من فرديته، ضرورياً في وقتٍ ما من التاريخ، ولكن فقط لصالح إنشاء وتأسيس رابطة أكثر فاعلية في تنظيم حرية الجميع وتكون في خدمة مجتمعهم (الطبيعي)، من أجل ضبط العلاقات الداخلية داخله، حيث يمكن للأفراد المتساوين أن يشعروا بالطمأنينة بأنهم لن يفقدوا بعد الآن، ولا في ظروف استثنائية قاهرة، حرياتهم أو إمكانيتهم على التعايش مع الآخرين. ولأن المواطن البدائي (الأول) في مجتمع مواطنين بدائيين متساوين، هو مبتكر حرية الجماعة وهو الذي تخيّل ضرورتها الملّحة وساهم بنشاط في تأسيس إطارها التاريخي؛ فقد ألزم نفسه بأحكامها وضروراتها ومصالحها.

وفي وقتٍ تالٍ تطلَّب تشكيل إطار حقوقي من مجموع الحريات الفردية المجتزأة، أي التي تنازل عنها الأفراد طوعا، مقاربة أخرى تجعل من هذا التوافق مدخلاً لإبرام عقد اجتماعي، أكثر وضوحاً وتحديداً لحقوق الأفراد بوصفهم أفراداً متساوين وأحراراً.

وبفضل هذه المقاربة أصبحت فكرة المساواة مقدسة بقوة العقد الاجتماعي المبرم (أي الدستور) وربما غير قابلة للمسّ أو التعدي عليها. كما أصبحت وظيفة الإطار الحقوقي الناظم للعلاقات، تتحدد كذلك، في إعادة توزيع مخزون الجماعة من الحرية على الجميع وعلى قدم المساواة. لم يكن هذا الإطار - في أدنى شكلٍ له وكما ظهر فوق المسرح التاريخي - سوى مجموع الأعراف والقوانين والتقاليد، وحتى الطقوس الدينية التي تحتكمُ إليها الجماعة في كل وقت، وهي شكلت فيما بعد، ذاكرتها الثقافية البدائية التي تزخر حتى اليوم بالأمثلة المُلْهمة. ولذلك؛ لم يشعر الفرد الذي تنازل عن جزء من حريته قط، أنه فقد شيئاً من حريته (الطبيعية) الكاملة، حتى وهو يحتكم إلى المواد الدستورية الأولى. إن صيحة عمر بن الخطاب (رض) والتي لا تزال تزمجر في تاريخ العرب والبشرية منذ نحو1400عام متواصلة: (متى استعبْدتم الناسَ وقد وَلدْتهُم أمهاتهم أحراراً؟) تلخص ببلاغة نادرة الفكرة ذاتها التي سوف يرددّها جون لوك وروسو (1712- 1778م) عن مجتمع المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق.

لقد ولد الناس أحراراً في المجتمع الطبيعي بالفعل، وهم يواصلون - حتى هذه اللحظة من التاريخ - نضالهم من أجل الحفاظ على هذا الحق. ولعل فهماً مُتطلباً وعميقاً لفكرة (المواطنة) قد يصبح ممكناً في سياق فهم الترابط بين التعدّدية والتنوع وحق المشاركة. لكن، وكما أن المواطنة ليست في النهاية سوى التجسيد الفعلي لحاجة الفرد إلى النظام، أي أداة منيعة تضبط علاقاته مع أفراد آخرين، مثلما توفر أمامه ولكل فرد آخر، الظروف والوسائل التي تساعده على أن يصبح ذاتا حرة، أو تسمح لهم جميعاً وبشكل متكافئ، بالوصول وعلى قدم المساواة إلى أفضل صيغة ممكنة لتحقيق ذواتهم الحرّة، وفي الآن ذاته تحافظ على فرصهم المتساوية داخل مجتمع أحرار متعاقدين على العيش المشترك؛ فإن التعددّية ليست في خاتمة المطاف أيضاً، سوى التجسيد الموازي والمماثل لحاجة هؤلاء الأفراد جميعاً إلى نظام علاقات حقوقية، يوفر لهم في كل وقت، الفرصة والحق في التواصل من دون أن تكون للفروق الدينية أو المذهبية أو العرقية فيما بينهم، أي قيمة أو أهمية أو دور أو قدرة على مصادرة الحرية.

إن تلازم فكرة المواطنة والتعددية هو الذي يمكّن المجتمع الحرّ، وفي كل وقت ومع اختلاف الظروف، من حجب الفروق بين أفراده في اللون والجنس والعقيدة والدين والعرق، أو يمنع استخدامها كذخيرة في الصراع والتنافس، وربما يجعل منها أمراً لا أهمية وقيمة له إلا بالمعنى الشخصي والخاص.

هذا التلازم هو الذي يجعل من المواطنة شرطاً للتعددية، ومن التعددية شرطاً للمواطنة، فلا مواطنة حقيقية من دون وجود تعددية حقيقية، ولا تعددية من دون مواطنة يُرى فيها التنوع الثقافي الذي سوف يغتني، ويتعمق بصورة خلاّقة ومُبدعة بفضل الفروق الخاصة للأديان والمذاهب والعقائد والأيديولوجيات السياسية؛ بل إن المواطنة يمكن أن تزدهر فقط، في ظل التعددية وحين تصبح الفروق بين البشر، وإلى أبعد حدّ ممكن مسألة شخصية بالفعل، ُيحرّم الخوض فيها من جانب أفراد آخرين.

وذلك هو المعنى العميق لحديثي الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). وأن (العرب جميعاً شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار). خارج هذا الترابط بين المفاهيم، ستكون هناك على العكس إمكانيات أكبر ممّا نتوقع، لرؤية التناقض الصارخ عندما يجري مثلاً، تفكيك العلاقة الجدلية بين المواطنة والتعددّية. ولكن؛ متى تصبح المواطنة متلازمة مع التعددّية بشكل وثيق، وبحيث يصبح ازدهار الأولى رهناً بازدهار الثانية ودالاً عليه؟ ومتى تصبح التعددية بلا مواطنة، نوعاً من انتماء متعارض مع جوهر وروح المواطنة نفسها؟ هذه الأسئلة وسواها تطرحها سلسلة من التجارب التي بيّنت أن التعددية والمواطنة، ليستا هدفاً بذاتهما ولذاتهما، وأنهما على الضد من هذا، تتلازمان بشكل وثيق، كل من جانبها وأحدها مع الأخرى بوجود الدولة، وأن شرط وجود الدولة والحفاظ عليها هو شرط حاسم للحفاظ على المواطنة. كما أن التعددية تصبح عديمة القيمة، بل قد تصبح خطراً مخيفاً إذا اقترنت بتلاشي ومحو الدولة. وأخيراً وكما بينت تجربة احتلال العراق، فقد أضحت التعددية وبالاً على هذا البلد التعيس الحظ، لأنها دمرّت فيه روح وجوهر المواطنة من أساسها، وأحلّت محلها مبدأ المحاصصة الطائفية بين الجماعات السياسية المتناحرة.

(1) هو المجتمع الطبيعي من وجهة نظر هوبز وجون لوك وجان جاك روسو، ومن وجهة نظر علماء الأنثروبولوجيا هو مجتمع متوحشين: انظر: الديمقراطية والدولة وحقوق الإنسان، انظر مثلاً: دراسة د.مصطفى أمين، الطريق اللبنانية - بيروت، العدد الثاني، السنة السابعة والخمسين 1998 .

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7641» ثم أرسلها إلى الكود 82244

Fadhilarubaiee@Hotmail.com - دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة