Culture Magazine Monday  16/07/2007 G Issue 207
فضاءات
الأثنين 2 ,رجب 1428   العدد  207
 
(النقد الذاتي بعد الهزيمة)
قراءة معاصرة ..... «1»
غازي أبو عقل

 

 

تمهيد:

يوم صدر كتابُ الدكتور صادق جلال العظم (النقد الذاتي بعد الهزيمة) في 1969، كنتُ مديراً لإدارة (التوجيه المعنوي) في الجيش السوري، هذه الإدارة المعروفة الآن بالإدارة السياسية.

كان لا بُدّ لي من قراءة الكتاب لأسباب (مهنية) على الأقل، ولئن كانت ذاكرتي صادقة، تركتْ قراءته انطباعات مُلتَبَسة في نفسي.

ثم غرق الكتاب في الزحام، رغم ما أثاره من جدل.

مرَّتْ الأعوام بسرعة، إلى أن جاء يوم من عام 1996، كنتُ أتفقّد فيه مكتبتي، فطالعني الكتاب وقررت العودة إلى قراءته (قراءة معاصرة) متأثراً بعنوان شهير اختاره الدكتور محمد شحرور وأثار ضجة.

قرأتُ (النقد الذاتي) بتؤدة، ودوَّنتُ عدداً من الملاحظات جمعتُها في (دراسة) مطولة، لم أحاول نشرها، مكتفياً بعرضها على قلّة من الأصدقاء، مستمزجاً آراءهم، مدوّناً ما أبدوه من ملاحظات، أجريتُ على ضوئها بعض التعديل على النص، وكان في مقدمة أولئك الأصدقاء اللواء أديب الأمير والأستاذ نصر شمالي، ولا بد لي من شكرهما، متأخراً جداً.

احتفظتُ بنقدي للنقد الذاتي طوال السنوات الماضية، إلى أن قرأت في الصحف بالأمس، أن دار ممدوح عدوان للنشر أعادت إصدار الكتاب، بمناسبة مرور أربعة عقود على الهزيمة المنقودة.

شجعني الأمر على العودة إلى ما كتبتُ، وأقنعتُ نفسي بمحاولة نشر ذلك (البحث) (تعميماً للفائدة).. دون أن أُدخل عليه إلاَّ ملاحظات غير جوهرية؛ لتلافي بعض آثار (مرور الزمن).

معاهداً نفسي، بعد أن اشتريت الطبعة الأخيرة ذات المقدمة الوثيرة، ألا أقرأها إلا بعد (تعتيقها) لتُمسي: (لها نكهة.. طالَ اختزانها) كما قال أستاذنا الراحل صدقي إسماعيل.

في الصفحات القادمة (قراءة معاصرة) مَرَّ عليها الزمن لهذا الكتاب الذي عاد إلى الواجهة، آملاً أن يتلقاها الدكتور العظم برحابة صدر؛ لأنني أعرف اهتمامه بالآخر وبرأيه، ولو لم يكن هذا الآخر من المثقفين، ولا يملك الأدوات المنهجية الضرورية للنقد، فكيف إذا كان الأمر يتصل بنقد النقد؟.. ولما كنتُ الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، فليس للأستاذ العظم إلاَّ الصبر والثبات عملاً بنصيحة الجنرال طارق بن زياد إلى جنوده بعد عبورهم إلى الضفة الأخرى من المضيق..

انصرمت عقود ثلاثة أو أكثر على صدور كتاب الدكتور صادق جلال العظم الذي أثار جدلاً يومئذٍ (النقد الذاتي بعد الهزيمة).

ولقد جرت منذ العام 1969 مياه كثيرة تحت جسور الأنهار العربية التي لما تسرق مياهها بعد، وما زالت المنطقة العربية تعاني آثار تلك الهزيمة حتى وصلت إلى مرحلة دفع استحقاقاتها. والعودة إلى قراءة ما صدر عن حزيران 67، ومنها النقد الذاتي، لا تخلو من فائدة، بخاصة إذا كانت (قراءة معاصرة) على طريقة بعض مثقفينا في قراءة كتب التراث. وهكذا عدت إلى الكتاب وقضيت معه من جديد وقتاً ممتعاً.

أحسن الدكتور العظم صنعاً بكتابة هذه الكلمات في بداية النقد الذاتي: (أرجو أن يكون التفكير العربي الواعي قد وصل إلى مرحلة تجاوز فيها اعتبار النقد مجرد عملية تجريح، أو تعداد لعيوب ومثالب ونقائص لا تنتهي. أي أن يكون قد حقق مستوى يعتبر على أساسه النقد أنه التحليل الدقيق بغية تحديد مَواطن الضعف وأسباب العجز والمؤثرات المؤدية إلى وجود العيوب والنقائص) - الصفحة السابعة. رغم كوني غير متأكد من استجابة (التفكير العربي الواعي) لرجاء أستاذنا الكريم، قررتُ المغامرة بنقد النقد الذاتي، (بغية تحديد مَواطن).. إلى آخره.

لنبدأ...

من الحرب الروسية اليابانية:

يذكرنا النقد الذاتي بالحرب الروسية اليابانية في العام 1904، وكيف هزمت اليابان الصغيرة الإمبراطورية القيصرية الفسيحة.

ويرى: (أوجه التشابه واضحة ومتعددة بين ما حدث في شهر كانون الثاني 1904 بين اليابان وروسيا من جهة، وبين ما حدث صباح الخامس من حزيران سنة 1967 بين العرب وإسرائيل من جهة ثانية) - ص7. ويتابع: (كانت اليابان رغم صغر حجمها بالقياس إلى روسيا، قد تمكنت من امتصاص مقومات الحضارة الحديثة.. بينما ظلت روسيا في جوهرها دولة متخلفة مطمئنة إلى ماضيها وتراثها) - ص16. ومع عدم وجود أي وجه شبه بين الحربين إلاَّ معيار (الحجم)، يُجمع من تعمقوا في دراسة اليابان على أنها: حدَّثت نفسها دون أن تتخلى عن روحها.

وأنها بقيت مطمئنة إلى ماضيها وتراثها.

ويقول الأستاذ مسعود ضاهر المؤرخ اللبناني في دراسة مقارنة عن تجربتي مصر واليابان في القرن التاسع عشر: (عملت أسرة توكوغاوا التي حكمت اليابان قرابة ثلاثة قرون على إنقاذ اليابان من النفوذ الخارجي عن طريق عزلها شبه الكامل داخل أراضيها. وعلى رغم المساوئ الكثيرة التي رافقت تلك العزلة فإنها حمت الاقتصاد المحلي والثقافة الوطنية، وحافظت على التراكم المالي الذي استخدم بنجاح في فترة التحديث الأولى.. ونتيجة لواقع اليابان التاريخي والجغرافي المعقد كان على قادتها اختيار المجابهة الثقافية الهادئة وليس العسكرية المباشرة وذلك بهدف حماية اليابان من الاحتلال).

ونقرأ في كتاب (الشخصية اليابانية) بقلم الأستاذ وفيق خنسة: (عندما جاء عصر النهضة اليابانية عام 1868 اتجه بنهم نحو الغرب. ولكنه أعاد السلطة الكاملة رمزياً إلى الامبراطور، وقرر الديانة التقليدية القومية شينتو، ديانة رسمية للبلاد، أي انخرط في التحديث وحافظ بقوة على التقاليد اليابانية، وترجم ذلك العصر معظم ما أنتجه الغرب في مجالات العلوم، ولكنه لم يلتفت لترجمة الفلسفة ولم يهتم بها، ولقد تأجل عمل الترجمة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي أن اليابان نهضت دون أن تكون الفلسفة الأوروبية قدوة لها أو دليلاً) الشخصية اليابانية ص100.

وعندما أفردت جريدة لوموند الفرنسية المعروفة لليابان حيّزاً فسيحاً في ملحق الكتب الذي يصدر عنها أسبوعيا، جعلت عنوان الملف (اليابان معاصرة بلا الغرب) (الجمعة 24 أيار 1996). أما الشهرية المعروفة GO - الطبعة الفرنسية العدد 195 - أيار مايو 1995 - فقد أفردت ملفاً ضخماً ليابان التراث والتقاليد، يبدأ بهذه الكلمات: في يابان اليوم، حيث تنتصر التقانة في كل خطوة، نصطدم بآثار الماضي الذي ما زال حياً. هنا لا تَستبعد الحداثة التراث، بل على النقيض، إنها تغتذي به. وفي بلاد الشمس المشرقة لا تتصارع المتناقضات ولكنها تتعايش في تناغم وانسجام.

وفي صورة شغلت صفحتين نشاهد كاهناً (شينتو) يبارك سيارة جديدة، رمز مجتمع الاستهلاك، وفي هذا المجتمع المظفر، احتفظ هذا الكاهن بالمكانة نفسها التي كانت له في الماضي. أتت بعد ذلك دراسة عنوانها (فن مصالحة الحداثة المعاصرة والتعلق بالتراث والتقاليد).. حاول الدكتور العظم أن يخرج من مضاهاة حرب اليابان وروسيا في مطلع القرن العشرين بمؤشرات وبراهين متسرعة دون تعمق في واقع كل من القوتين المتجابهتين. وكل ما سعى إليه إقناع قارئه بأن سبب هزيمة روسيا هو اطمئنانها إلى ماضيها وتراثها. وبالتالي ينسحب الاطمئنان نفسه على هزيمة العرب في حزيران 67 والواقع بعيد جداً عن هذا التبسيط.

كلنا نعرف أن روسيا القيصرية بدأت تصنيع نفسها قبل القرن التاسع عشر، وأنها بدأت تمتص مقومات الحضارة هي أيضاً.

كما أنه يجب البحث عن أسباب انتصار اليابان لا في امتصاص مقومات الحضارة الحديثة - الأوروبية - فقط؛ لأنها في الحرب العالمية الثانية كانت قد ازدادت امتصاصاً لتلك المقومات بما لا يقارن مع مطلع القرن، ومع ذلك فإنها هُزمت قبل إلقاء القنبلتين الذريتين عليها.

فهل يكفي امتصاص مقومات الحضارة الحديثة لتجنب الهزيمة؟ ثم إن بريطانيا وألمانيا وفرنسا كانت كلها على سوية متقاربة من امتصاص مقومات الحضارة الحديثة قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك هُزمت فرنسا ثم أوشكت بريطانيا على الهزيمة لولا تدخل الولايات المتحدة، وبعدئذٍ هُزمت ألمانيا وكانت أكثر الدول امتصاصاً للمقومات، فما هي الأسباب وكيف حدث ما حدث لممتصي المقوّمات؟ إذن لا بد من وجود أسباب أخرى يجب على البحث العميق كشفها.

- حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة