Culture Magazine Monday  16/07/2007 G Issue 207
فضاءات
الأثنين 2 ,رجب 1428   العدد  207
 

ذات العواد الفكرية وإبدالاتها 4-5
د. صالح زيّاد

 

 

الرجل: الرجولة، عند العواد، قيمة فعل وفكر، ومدار امتياز أخلاقي وعملي، إنها النقيض للابتسار والنقص والضآلة، والنقيض للجبن والمهانة، والنقيض للنفاق والكذب وللأنانية والجشع المادي، والنقيض للخرافة والدروشة، ومن ثم شاعت مكرورة المدح بها في مؤلفات العواد، من خلال إثباتها لعدد من الأفعال والصفات الشخصية، ونفيها عن أخرى.

ومؤدى ذلك يعني أن لدى العواد الرغبة في صفات محددة في الفاعل النقدي والفكري والاجتماعي، قوامها الشعور بالواجب وتحمل المسؤولية والتحلي بالضمير والمنطق وقوة النفس والجسد والاستعداد للتضحية.. وهي صفات يمثلها الرجل ويرمز إليها، فيغدو وجهاً آخر لذات العواد، يجد في ذكورية المجتمع وفروسية الثقافة ما يعزز قبوله والانصياع لإيحاءاته الإيجابية التي تنسِل من نموذج أعلى للأب ما يزال يبث في مدلول الرجل الحكمة والحماية، ويطالب الصغير والأحمق والجبان والنذل وصاحب التخاريف أو غير المنطقي، بالعبارة الدارجة محلياً وعربياً (خليك رجّال) أو (راجل).

ويمكن أن نطل على ذات الرجل التي تؤول إلى العواد أو يؤول إليها بلا فرق، من خلال أبرز صفات الرجولة عند العواد، فيما يلي: 2-3-1 الشجاعة - القوة: سيرة العواد تحكي شجاعته بقدر ما تحكي صراحته، وتحكي قوته بقدر ما تحكي اعتقاله، وفصله من عمله في مدرسة الفلاح، ومنع كتابه (خواطر مصرحة)...إلخ.

لكن المهم، هنا، هو أن العواد يدعو إلى الاتصاف بالشجاعة والقوة ويقرنهما بصفة الرجولة، مثلما يقرن نفيها بنفي الاتصاف بهما. يقول: (ليس برجل من لا يحمل في دماغه فكرة الجبروت، وفي لسانه صاعقة الصراحة).

العالم..لا يكون رجلاً كاملاً أو قريباً من الكمال إذا فقد ميزة الشجاعة. إن الرجل لا يكون رجلاً بغير شجاعة وقوة.

هكذا يرى العواد، ولهذا يغدو والمديح للمعرفة والتعبير والرأي مقترناً - لديه - بالرجولة، التي تحقق المعرفة بالشجاعة، والتعبير والرأي بجسارة القلب والصراحة. كأن الرجولة، بهاتين الصفتين، امتياز يعلو بالكائن عن الصمت والخوف، ويتمرد به على المسايرة والتبعية!.

2-3-2 التفوق والغلبة: وهما الامتياز الذي يستلزم الرجولة، مثلما يغدو لازماً لها. فالرجولة التي تتصل في وجهها الأول بالشجاعة والقوة، تفضي إلى شهية الحضور الذي يناقض الغياب ويضاد النسيان، وعندئذ يتصل بمعنى الوجود الذاتي حيث تلمُّس الفردية والاختلاف والمجاوزة، وهي أضداد للتشارك والاستواء والتوافق، ما يجعل من الصراع والتغالب فرضاً لتحقيق الرجولة وجودها واستشعار ذاتها.

إن العواد يجرِّم التواضع الذي يمنع من إعلان الحقائق، قائلاً: ليس مما يستسيغه المنطق في مذهبي أن أطأ الحقيقة بقدم الإجرام الاجتماعي الذي يطلقون عليه خطأ في معظم الأوقات اسم التواضع. وينكر أن يتنازل الإنسان عن إعلان رأيه، لأن ذلك - يقول - (صورة مجسمة للعبث بكرامة النفس وإضاعة احترامها المحتم).

ويرى أن على المرء أن يقدر موهبته، نافياً أن يستطيع أحد الاهتداء في طريق المعرفة حين يمضي بنفس مهينة مستضعفة، ويتساءل متعجباً: (كيف يستطاع الإحساس بالحياة لمن يدين بإنكار الذات والتهاون بالنفس، ولا سيما في مواقف أشد ما يحتاج فيها المرء لتقدير مواهبه أمام نفسه). وتجتمع هذه الصفات التي يفرض المرء بها ذاته، ويحقق حضوره ووجوده، في المرتبة العظيمة من الرجولة، فهي - لدى العواد - (مبادئ عظماء الرجال).

ومعنى ذلك أننا أمام ذات اجتماعية هي (الرجل) تستمد نوعيتها من سيكولوجية القوة التي تستحيل إلى سبق في الموقف وغلبة في الرأي، ومن ثم بروز حس المسؤولية، وهو بالضرورة حس فردي، الأمر الذي قاد العواد إلى (الحرية) ومشتقاتها، فظلت أثيرة لديه، تدور في مكرورة للمديح لا تنتهي بوصف (الرجال الأحرار) و (الأديب الحر) و (المجتمع الحر) و (موقف النبل والحرية)، ولا تبدأ من كتابه المخصص للمباهاة بقيمتها في شخص (محرر الرقيق).

وذلك في مقابل الهجاء القاسي للعبودية التي تتراءى له في التقليد الأدبي، وفي الأعراف البالية، وفي النفس الضعيفة، بقدر ما تتراءى في الفقر والتسلط والنفاق والطمع... إلخ.

2-3-3 العقل: لكن طاقة التفرد ومحاذير الانفلات التي تثيرها الرجولة من خلال لزومها المطلق - عند العواد - للشجاعة والغلبة، ينتهي بالعواد إلى حد ثالث لازم للرجولة وملزوم لها في الوقت نفسه، وهو (العقل)، فالعقل - لديه - صفة للرجولة تشمل الخلق الفاضل من جهة، والفكر الذي يضيء الحياة ويطورها من جهة ثانية، وبذلك ينعطف على الرجولة من حيث هي قوة إيجابية وشجاعة مطلوبة ومن حيث هي غلبة وتفوق بالمعنى المحمود.

2-3-3-1 الخلق الفاضل: لم يكن عنوان المحاضرة الشهيرة (الرجولة) عماد الخلق الفاضل لزميل العواد (اللدود) حمزة شحاتة، بطلب من جمعية الإسعاف بمكة المكرمة عام (1359هـ -1940م) غير ذي دلالة على المعنى الاجتماعي الثقافي الذي يربط الرجولة بالخلق الفاضل، وهو المعنى الذي استمد منه العواد - مثلما استمد شحاتة - الوجه الأخلاقي البنّاء بالمعنى الاجتماعي الثقافي للرجولة. فالرجولة، هنا، هي قيم أخلاقية ذات طابع إنساني اجتماعي مضاد للأنانية والعدوان والقِحَّة. وبذلك تلتقي القوة والشجاعة التي تصف الرجولة في علاقتها بالخارج مع وصفها في علاقتها بالذات، وتغدو الأمانة والقناعة والصدق والحياء... إلخ رجولة، لأنها شجاعة في مواجهة تغوُّل الذات وطغيانها.

يقول عن الخليفة سليمان بن عبدالملك: (أراد أن يحجز على أخيه يزيد لأنه تزوج سعدى بنت عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان بصداق مقداره عشرون ألف دينار واشترى حبابة المغنية بأربعة آلاف دينار، وقد استهجن سليمان هذا التصرف ووبخ أخاه عليه وأوضح له نتائجه التي تغمز الرجولة).

كأن الرجولة مجابهة للغريزة، واستعصاء على اللهو والإسراف والخيلاء. إنها الاتزان والاعتدال الذي يحدّ من تضخم الذات، ولهذا رأى أن تفلّت يزيد من الرزانة، وانقياده للهوى، ضعف في الرجولة. ويبدو العواد عظيم الحذر والاحتراس من أن تفهم الرجولة من زاوية الجسد؛ إذ تنقلب قوتها - عندئذ - إلى إمبراطورية الغريزة، وسلوك الحيوان، فيقول: (العسكري لا يكون رجلاً إذا تخلف في موهبة العقل).

ورغم أن موقف العواد الداعي إلى تعليم المرأة وعملها وحريتها الاجتماعية دال بوضوح على وعيه النيّر، فإن الرجولة - لديه - بوصفها قيمة عقل وخلق قويم، تستمد أخلاقيتها من الضدية للمرأة التي تبدو رمزاً للخيانة والإغراء وسبباً للجريمة ومضموناً للأحداث، ولعل في رؤيته الدفاعية عن نسبة قتل عبدالعزيز بن موسى بن نصير إلى الخليفة سليمان بن عبدالملك، ما يشهد بذلك، إذ يقول: (فالمحلل المتعمق في البحث يجد أن إصبع المرأة هي التي يجب أن ينسب إليها هذا الحادث، وتأثير المرأة في السياسة وفي غيرها من شئون الحياة الاجتماعية غير منكور في قضايا التاريخ الشهيرة، وقد قال نابليون بونابرت في التعليل والتعقيب على الحوادث البارزة: (فتش عن المرأة)، وهذا القول إن لم يصدق على كل حادث بصورة مطردة، فإنه يصدق تماماً في شتى الحوادث).

وليس هذا التعليل الذي يتهم المرأة بأدل على جنوسة العقل والخلق الفاضل عند العواد من حديثه عن الغيرة بأنها تدل على (نشاط الحيوية وقوة الرجولة في الرجل) وإيراده - بهذا الصدد - قصة أمر سليمان بن عبدالملك بخصاء المغنين؛ لأن لب جاريته، وهي تصب على يده ماء الوضوء، شرد إلى صوت أحدهم!.

2-3-3-2 الفهم والفكر: وكما يدل العقل، بمعنى الخلق الفاضل، على الرجولة - عند العواد - فإن القدرة على الفهم وإنتاج الفكر تقتسم، مع الخلق الفاضل، العقل في الدلالة على الرجولة.

ومن هذه الزاوية يحيل العواد الرجولة إلى فعل يدفع الواقع إلى التصحيح والتطور والبناء، فيرى أن (تقدم الحجاز بالرجال المفكرين).

والتقدم، هنا، هو مدلول النور والضياء ومفهوم النهضة والتجديد والعصرية التي ألح عليها في مؤلفاته، وهي المفاهيم التي تغدو نتائج بقدر ما تغدو أسباباً، وتدخل مع عقل الرجولة في جدل، بحيث تغدو دلالة الرجولة - عند العواد - إحالة مستمرة على السببية، والنقد، والتجديد بوصفها دوال العقل المفكر والبصير، مثلما تغدو الرجولة، في الوقت ذاته، إحالة على الخلق والقوة والغلبة التي تتبادل مع الفكر، في إنتاج دلالتها موقع السبب والنتيجة.

لقد شن العواد حملة لنقد وتجريم الشعوذة والخرافة والدردشة، فالحر العصري - يقول - لا (تروج عنده السخافات ولا يجنح للخزعبلات)، ودعا إلى أن (نتعلم الميكانيكا في عقولنا قبل أن نتعلمها في الآلات)، ورأى أن الفكر البشري كله محل نقد وتصحيح ومراجعة، وأن (أحسن وسيلة لتربية العقل هي التفكير بحرية).

2-3-4 هجاء الطفولة: هذا النضج والاكتمال، الذي تجتمع عليه دلالة الرجل، يغدو من تمام الدلالة عليه - عند العواد - المقابلة بالطفل في الدلالة على ضآلة القدرة ونقص الاستعداد وقلة الخبرة والمعرفة.

فبالرغم من حفاوة العواد بالطفولة وإشفاقه عليها، وبالرغم مما في الشعر وخصوصاً لدى الرومانسيين الذين يتماس العواد مع نسختهم العربية من شيوع مكرورة الطفل المثال والأنموذج، رمز البراءة والطهر، و(أب الرجل) كما قال وردزورث ، فإن صورة أخرى للطفل - في مقالات العواد - تشيعه استعارة أو صورة تشبيهية، للدلالة على ما ينافي النضج والاكتمال، وما يقابل الدلالة التي تصنع اقتدار الرجل الجسدي والعقلي، وتجاوز بمعناه إلى دلالة الأب، حيث الحماية والحكمة والقدرة الحيوية على الإخصاب والتناسل.

إن الطفل الذي يسمّي به العواد أو يصف شعباً أو أمة أو أديباً...إلخ، هو معنى هجائي يحيل على تضخم دلالة الرجل لديه ويمنحها الرتبة التي تعلو بالقدر الذي يدنو الصغير ويضعف ويتضاءل.

ويستوي في استنتاج هذه الدلالة أن نقرأ - مثلاً - نقده للشعب الذي لا يهتم بالقضايا العامة لحياته الاجتماعية، فيقول: (شعب كهذا كيف تعيش فيه المبادئ الحية، وكيف تنمو فيه المثل العقلية والحضارية المحترمة؟ إنه شعب طفل). أو أن نقرأ وصفه لعبد القدوس الأنصاري ب(الطفل) لأنه خالف الحقائق النفسية في قصته (مرهم التناسي). أو المقارنة التفضيلية بين الشعراء التي يتصف الأدنى فيها بالطفل، كما في قوله: (فهذا العقاد، أو حافظ، وحسبك بهما أو بأحدهما شاعراً، يبدو شوقي طفلاً بالنسبة إليه).

بالإضافة إلى مواضع أخرى تشيع فيها المقارنة بالرجال العاملين ليغدو القصور والإهمال واللعب امتيازاً للأطفال الذين تدل عليهم أسماء أخرى كالصبيان أو الصغار.

هكذا - إذن - لا يعني (الرجل) الذي صنع العواد - كما رأينا - تجريده، مجرد الوصف المحايد له، لأنه يغدو ذاتاً ترغب في الاضطلاع بالمسؤولية والواجب، وتجابه عوائق وخصوماً وأضداداً من النوع الذي واجهه العواد.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة