Culture Magazine Monday  16/07/2007 G Issue 207
نصوص
الأثنين 2 ,رجب 1428   العدد  207
 
قصة قصيرة
من يجلب النور إلى الداخل؟
يوسف بن غيث

 

 

لم أنظر إليه أبداً، ولم أعرف كيف كان يبدو، ولكني كنت أعرف كيف كان يبدو الخارجُ منه، كان من حوله جدرٌ تكدست بشكل عشوائي على حواف الطريق التي بدت مع الوقت وكأنها ترفع أطرافها حتى لا يجرفها سيل السيارات التي تعبر هذا الطريق، أشجارٌ اقتلعت من مزارعها وغرست هنا وشُذبت على شكل رؤوس المراهقين فبدت كعروسٍ قبيحة تعيش غربة مؤلمة، كان منظراً لا يغري بالصراخ وطلب النجدة، وكان لا يغري بالهروب أيضاً، بل كان يحذر منه، لا أدري لماذا اعتقدت بأني إن أنا هربت فسوف يقوم الطريق ومن يمشون فيه ومن يسكنون بجواره بإعادتي إلى هنا؟!

منذ ليلٍ بعيد تخليت عن أحلام الخروج من هذا المكان، ولكنها ما تلبث أن تعود حاملة معها شعلة من الحنين وكأنها ذكريات قديمة عاشت يوماً من الأيام في مكانٍ ما.

تواريت للوراء قليلاً عن هذا الجحر الذي كان يوماً برتبة نافذة، تضيق وتضيق كلما أحس هذا المسخ بوجود هواء في رئتيَ لا ينتمي لهذا المكان المشبع برائحة الشمع، المليء بالأرواح التي تتشبث في عنقي ترجوني الخروج يوماً علّها تحقق ما عجزت عنه أجساد أصحابها بالخروج ولو بعد الموت.

وقفت أتأمل الجدار الحجري وأمسحه بيدي من الغبار والشمع الذي استوطن فوقه، لوهلة ظننت بأنه قد انحنى على يدي وأخذ يبكي، يرجو مني أن أغفر له صلابته وشدة متانته واستعصاءه على الحفر بالأظافر، و قتامته وبرودته ووقوفه ساكناً عندما يضرب رأسي به.

أغمضت عينيَ وأسندت ظهري إلى الجدار، ما فائدة أن تفتح عينيك في الظلام، الأفضل أن تغمضها حتى لا تصاب بالجنون، الظلام يفتقد إلى التفاصيل التي تشترط وجود عين، هو فقط يتعامل مع حاسة اللمس، وهي ليست مهمة دائماً.

هذه المرة ما نبأني لوجوده هي حاسة الشم، كان قريباً، مباشرة في وجهي، عرفته.. هي ذاتها أنفاسه القذرة التي تغريني بالانتحار، فتحت عيني بقوة ورأيت في عينيه، صورة بؤبؤي وهو ينكمش، صفعني بظاهر يده بقوة، توقعت أني سوف أدور بالكامل وأعود مكاني من قوة صفعته، ولكني ارتطمت بالأرض، وأرجله تتسابق على معدتي، والجدار يعتذر مسبقاً لأنه سوف يكون شريكاً في الضربة القاضية.

شدني من شعري ساحباً إياي على وجهي إلى الغرفة الوحيدة في هذا الكهف، كان يصرخ ويشتم النور ألف مرة، شدني بحبلٍ من يدي اليمنى، ثم فعل ذلك مع اليسرى، وشد الحبل حتى استويت واقفاً، والمسخ يشتم، ويمزق ملابسي، كنت سعيداً، سوف يشعل النور هذا المسخ.

من شمعدان قديم، ثبت إلى الطاولة الخشبية ببعض خيوط العنكبوت، ومن بقايا شمعة أطلت على استحياء من إحدى فوهات الشمعدان الثلاث، بدأت دوائر النور تنشر أقواسها في المكان، أشعله هذا المسخ، تمدّدت ابتسامتي حتى أطراف الأذن، آه كم أعاني كي أراك أيها النور، أعرف بأنك تسكن في أوجه الجميلين وقلوب المخلصين، ولكن لا وجود لهم هنا، لذلك أنا أتعب في سبيل الحصول عليك مجرداً من كل وجه ومن كل قلب، حتى أحتويك وأحشرك في داخلي، ولكني كلما رأيتك وأخذت منك، لا ألبث إلا أن أعود وأستزيد، فأنا أريد أن أمتلئ منك حتى أنفجر كنجمة ضاقت ذرعاً بالفراغ فانفجرت تنشر النور على أطرافٍ لم تكن لتعرف أبجدية النور إلا بفضلها، كم أتمنى لو جمعت منها عدداً كبيراً في جيبي، أفجرها كلما حاول الظلام أن يتمدد.

هوى السوط على ظهري مستنهضاً كل الخلايا العصبية النائمة في جسدي، هوى مرة أخرى وأخرى، ثم توقفت عن الحساب أنظر إلى النور، وابتسامتي تتسع في كل لحظة، كان يضربني بقوة انتظرتُ معها أن تنفصل يده عن جسده فيزيد قبحاً عمّا هو عليه، يضرب ويشتم النور ويصرخ: (أرأيت مع النور يأتي الألم، مع النور يأتي الألم)، توقف لحظة ليجاري ركض رئتيه السريع، تقدم مني ونظر في وجهي ولمّا رأى ابتسامتي شدَّ يده على السوط:

- هل هناك شيء يجلب الفرح أيها التعس؟

- النور جميلٌ جداً هذه المرة هوى السوط على عيني.

استيقظت، والألم كمئات السكاكين تغرس في ظهري، وقد تحررت يداي، نظرت فوجدته متمدداً والسوط في يده، لا يمكن لهذا أن يستمر، سأرحل لأجد منبع النور أو أموت، تحاملت على نفسي ووقفت، مددت يدي بهدوء وأخذت الشمعدان، قبلته لا بد من أن يكون هو منقذي، هويت به على رأس هذا الخسيس فأطلق آهة لم تتناسب مع فتحة فمه التي تأخذ شكل تثاؤب، ركضت في الظلام إلى أن وصلت إلى ما قد كان نافذة من قبل، أخذت أضرب ما استحدثه هذا الوغد من كتل إسمنتية على هذه النافذة، بدأت الكتل تنهار أمام ضربات الشمعدان، وبدأ النور يتسلل أكثر فأكثر من تلك الثقوب التي راحت تتسع، لفحني هواء ساخن على جانب رقبتي الأيمن، التفت لأتلقى صفعة قوية طرحتني أرضاً، لا يمكن للحلم أن ينتهي هكذا، ألقت الشمس عليه نورها، فبدا أكثر بشاعة مما هو عليه في ضوء الشمعة الصغيرة، ركلني برجله، التي كان ظفر إبهامها حاداً طويلاً قد نما تحته الزرع، فانفجر الدم من جبهتي، ولكني تذكرت الشمعدان الذي كان في يدي فهويت به على قدمه، سقط أرضاً فبادرته بضربة على رأسه فخر كثور لم يكتب له النجاح في هذه المعركة.

ست سنوات مرت على هروبي من ذلك الكهف المظلم، كنت أتجنب المرور عبر تلك المنطقة بأكملها، وإن اضطررت إلى المرور من هناك فإني أتجنب النظر إلى تلك الجهة وأضع عيني في الأسفل، أو ألقيها على الجُدُر والطريق والأشجار، عاتباً عليها من تواطئها، عندما كنت أنظر إليها مستأذناً في الهروب، وكانت تُحذر.

اليوم هطلت الأمطار بشكلٍ جميل ورائع على هذه المدينة المقدسة، وجدتها فرصة للتجول مع صديق عزيز، أخرجنا ما في أنفسنا من لهفة لمطرٍ لا يأتي كثيراً، انتصب قوس قزح محيياً، بدا ممتلئاً ذلك اليوم وكأنه قد روي من المطر، وصديقي يوثق ذلك اليوم بآلة التصوير.

قادتني الدروب مع صديقي إلى السور الذي يحيط بذلك الكهف، كان وجيب قلبي يكاد يسمعه صديقي، وأنا أتصور في كل لحظة خروج ذلك المسخ لضربي وإعادتي إلى هناك.

فجأة توقف، بمحاذاة النافذة تماماً، جفاف فمي يمنعني من الكلام معه وسؤاله عن سبب وقوفه أو حتى النظر إليه لأن النظر في وجهه كان يعني النظر في تلك النافذة من خلفه، أخرج آلة التصوير، وأخذ يضبط إعدادها نظرت إليه فوجدته شاحباً، ممسكاً بالكاميرا، تحامل على نفسه والتفت مواجهاً النافذة، ووجه الكاميرا وصورها.

الآن عندما أتذكر وجهه ورعشة يديه أعرف تماماً بأن صديقي قد كان هناك في يومٍ من الأيام خلف النافذة وكان ينظر للخارج.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة