Culture Magazine Monday  19/02/2007 G Issue 187
فضاءات
الأثنين 1 ,صفر 1428   العدد  187
 

بين عصر البلاغة الإلكترونية ومجرة غوتنبرغ:
ما مستقبل المكتوب؟
تركي علي الربيعو* 1952-2006م

 

 

في إطار مقارنة شيقة بين النص المكتوب والنص الإلكتروني، ينعى ريجيس دوبريه هذا المتعدد البراعات والمبدع بحسب التقريض الذي كتبه عنه إدوارد سعيد في (صور المثقف،1996) أقول ينعى تراجع المكتوب في عصر الصورة والكتابة الإلكترونية، فمن وجهة نظره أن المكتوب ينتمي إلى عصر مضى وانقضى، إلى عصر في طريقه إلى الزوال، وأن عصر البلاغة الإلكترونية من شأنه أن يسهر على جثة المكتوب ليسارع في دفنها؟

يكتب دوبريه، كما أسلفت في نص شيق يغوي بالقراءة ويقول قولاً سحرياً في الكلمات والأشياء وما بعدهما، خاصة في إطار مقارنته بين النص المكتوب بطابعه القدسي، حيث ذلك الترابط القوي بين القدسي بكل تجلياته بالمكتوب على مسار تاريخ طويل من تاريخ الحضارة البشرية، وبين النص الإلكتروني، يقول في إطار مقارنته بين الكتاب ونظام الكتابة الرقمي: إن الكتاب، هذا الجسم المستطيل المتوازي الغريب، المؤلف من غلاف وثنايا وأول وآخر، كان الحاكم أو الآمر والناهي في نظام فكر وسلطة وثقافة، وأحسب أن الكتابة الرقمية قد تطوي هذا النظام، إن الركن الأول في نظام الكتاب، هو فكرة الكل الجامع، فالكتاب هو جملة مجتمعة وقائمة، ومجموع مغلق على نفسه، فهو على هذا، على الضد من انفتاح النص الإلكتروني، وثمة في ثبات الكتابة ما يخالف ميوعة النص الإلكتروني وسيولته، فالكتاب زمنه زمن السرد والخبر والقصة، وله ابتداء ويجري إلى خاتمة، وهذه الصور الثلاث - السرد، الكل، الثبات، تبدو لي إلى انصرام، وهذا على العكس من الرقمي، الذي بقدر ما يشيع ويعمم، يعصى على الجميع في كل واحد، إنه يقدم التجاور على التماسك كما في حالة الكتاب، ومضماره (انسخ - الصق) بامتياز، فلا مركز ولا مرجع جامع.

وما يريد أن يصل إليه دوبريه إن عصر الإنترنت يقطع مع عصر المكتوب، ففي حالة المكتوب يكون الكتاب حصر بين المؤلف والقارئ، أما في عصر الإنترنت فكل الناس يحتفظون بحقهم في المشاركة في النص والدخول إليه، من فوق إلى تحت وبالعكس، فلا مركز ولا مرجع جامع.

في كتابه الصادر مع أواسط عقد التسعينات من القرن المنصرم (الميديولوجيا أو علم الاعلام العام،1996) راح دوبريه ينشئ لنا خطاطة تطورية تطال تاريخ البشرية، على غرار تلك الخطاطات التي روّجت لها الماركسية في عز مجدها ومدها، كذلك ما كانت تسميهم مرغريت ميد ب(انتربولوجيو المقاعد الوثيرة)، الخطاطة ترى أن تاريخ البشرية مرّ بثلاث مراحل، أو ثلاث مجالات :

المجال الأول : هو المجال الشفوي ويمتد على تاريخ طويل من تاريخ البشرية، من أول رقيم طيني دشن فيه عصر المكتوب حتى اختراع غوتنبرغ للمطبعة في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وفيه كان الله يملي والإنسان يكتب، وفي هذا الإطار جاءت الكتب المقدسة الكبرى التي لا نزال ندين بمرجعيتنا لها، في الكبيرة والصغيرة.

المجال الثاني: ويدعوه دوبريه بالمجال الخطي، أي عصر الكتابة الذي افتتحه غوتنبرغ، فمن الرحم التكنولوجي لمطبعة غوتنبرغ، ولد الكتاب والصحيفة والمثقف ويذهب دوبريه إلى أبعد من ذلك، إلى قوله ولدت الاشتراكية أيضاً من حيث هي دعوة للعدل ومن حيث هي نشاط للمثقف ليدلي بدلوه في الشأن العام في إطار مساعيه لتغيير العالم.

المجال الثالث: يدعوه دوبريه بعصر المجال التلفازي، عصر الصورة والكتابة الرقمية، لا بل إن الفيلسوف والمهندس الفرنسي بول فيريليو يدعوه بعصر البلاغة الإلكترونية وعصر المراقبة الإلكترونية الشاملة.

في هذا العصر تطفو الصورة على ماعداها، يصبح الجميع أسرى الصورة، التي تسهم كما يكتب دوبريه في تحديد إقامة بورجوازي الطابع، ففي القديم كان الناس يخرجون من بيوتهم لسماع الأخبار وتلقيها، أما في عصر المجال التلفازي الذي يفرض على المرء نوعاً من العبودية، ونوعاً من الصلاة له، فيستطيع المرء أن يعرف كل أخبار العالم وهو يجلس إلى جانب تلفزيونه الدقيق الاستقبال الذي أصبح بعداً حميمياً في المجتمع الاستهلاكي كما يتهكم هربرت ماركيوز في كتابه الشهير (الإنسان ذو البعد الواحد)، بصورة أدق، أصبح الإنسان يستهلك الأخبار كما يستهلك الهامبرغر، إنه المركز الجديد لثقافة عالم ماك، أي عالم الثقافة الأمريكية المعولمة كما يكتب بنجامين باربر في كتابه (الجهاد ضد عالم ماك) وهو عصفورنا الذي يزقزق كما يكتب باربر، الذي ينتقل فجأة من مكان إلى آخر دون تحديد هدف.

إن عصر الصورة كما يرى كل من دوبريه وباربر، يروج لثقافة جديدة لا يمكن وسمها بغير الاستهلاك، وهي ثقافة متعية، ثقافة بطن وجنس وعنف، بحيث تصبح جميلات الشاشة من المغنيات وشاربات البيبسي كولا الجميلات وأبطال الرياضة وطياري الخطوط الجوية ومخترعي الحاسوب هم أبطال هذا العصر بلا منازع، الذي تتصدره أيضاً ديناصورات الحديقة الجوراسية فكل دقيقة عنف تنحت كما يقول دوبريه في حواره مع ماريو فارغاس آلاف المستهلكين.

إن عصر الصورة يتأسس حقاً على حساب المثقف الذي جاء من الرحم التكنولوجي للمطبعة متأبطاً لصحيفة باليسار ولكتابه إلى اليمين، وسعيد هو كما يقول الخطاب الديني من جاء كتابه بيمينه؟.

من وجهة نظر دوبريه، أن عصر المجال التلفازي يدشن حقيقة لهزيمة المثقف، من هنا نفهم تساؤل دوبريه في كتابه (كي لانستسلم، 1995) الذي ترجمه بسام حجار إلى العربية، ماجدوى أن يكون المرء مثقفاً؟ داعياً المثقف إلى العودة إلى حجره أو جحره، وعدم الادلاء بدلوه في الشأن العام، فالأفكار ماعادت تقود العالم؟ والكتب ماعادت تصنع التغيرات؟ ومجرة غوتنبرغ إلى تقهقر وموت والعاقل من يدفن موتاه.

الاتجاه الثاني: يرى أن مجرة غوتنبرغ إلى توسع كما يكتب إمبرتو إيكو في إطار دفاعه عن الكتاب، فصقيع البلاغة الإلكترونية، لم يحل دون وصول الدفء وأشعة الشمس إلى المجرة، وما المراهنة على موت الكتاب وتراجعه في عصور البلاغة الإلكترونية إلا ضرب من فنتازيا فكرية، فالنص المكتوب لا يزال يحتفظ بقدسيته طالما أن المقدس يشكل بعداً أساسياً في حياة الإنسان، ألم يعنون ريجيس دوبريه آخر كتابه ب(النار المقدسة) ذلك القبس الآتي من البعيد والغامض والمجهول، صحيح أن دور الكتاب في النهي والحكم إلى تراجع لكنه ما زال يحتفظ بسطوته على قرائه ومعجبيه المفتونين بهذا الكل الجامع الحاوي على أسرار، فالكتاب وعلى مسار تاريخي طويل دائماً ما ينطوي على سحر وسر معا، ألم يكتب إمبرتو إيكو روايته الجميلة (اسم الوردة) التي تدور أحداثها كلها حول كتاب ينطوي على سر. فميوعة النص الإلكتروني أصبحت مشاعة لاتغري كثيراً بالبحث عن سرها، أضف إلى ذلك قابليته للاختراق وبالتالي انتهاك قدسيته حيث يستعصي ذلك على الكتاب، الذي تنوس سردياته عادة بين بداية ونهاية، وهنا تكمن متعة السرد ومتعة النص المقروء معاً كما كان يسميها رولان بارت، وحيث تتلاشى هذه المتعة مع ميوعة النص الإلكتروني وكثرة التواءاته.

الشاهد على أن مجرة غوتنبرغ إلى توسع، هو كثرة النجوم الزاهرة التي ما زالت تحتفظ بكل وهجها في عصر الاستهلاك، وكأنها كوكب الزهرة الذي يتحدى النهار فيبقى لامعاً حتى نهاية الفجر، ومن هذه النجوم كتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد الذي قدر له أن ينقل إلى تسع لغات في السنة الأولى من صدوره، وأن يكون شاهداً على عولمة ثقافية جديدة عابرة للحدود والقارات ورافضة لكل ميوعة نصية من شأنها أن تحد من سطوة مجرة غوتنبرغ.

قد يحتج البعض على كتاب إدوارد سعيد الذي صدر في نهاية عقد السبعينات من القرن المنصرم، إلا أن كتاباً مثل كتاب (الامبراطورية) لمؤلفيه أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، يصلح بدوره شاهداً على توسع مجرة غوتنبرغ. فقد ترجم الكتاب إلى (12) لغة عالمية، منها اللغة العربية، والكتاب كما وصفته نيويورك ريفيو أوف بوكس (New York review of books) في 7 تشرين ثاني - نوفمبر2002، هو شاهد على الكيفية التي تصنع فيها الكتب التغيرات، فقد تم وصف الكتاب بأنه إنجاز عبقري يفوق الدهشة وأنه يقدم (تحليلاً جارفاً لايقاوم لأصنام العالم المعولم) وقد اعتبر الكتاب في حينه دليل عمل، وأنه يمثل اعتداء تحريضياً على العولمة وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه أنموذج للكتابة الشريرة التي من شأنها أن تسمم جيلاً كاملاً، دافعة بعشرات الآلاف من الشباب إلى المتاريس لتدمير أنفسهم من أجل (ثورة شيوعية) كما كتبت المجلة الأمريكية. كثيرة هي الكتب التي تتلألأ في فضاء مجرة غوتنبرغ التي يمكن اعتبارها دليل عمل في زمن ظنّ البعض، أن القطيع الإلكتروني كما يبشرنا توماس فريدمان في كتابه (ليكساس وشجرة الزيتون، 1999) من شأنه أن يدهس في طريقه بشعوب وقارات وتراث مكتوب، وكتب تحذر من هجمة ديناصورات الحديقة الجوراسية، ولكن واقع الحال العالمي الذي يستيقظ على وقع خطى القطيع الإلكتروني وقرونه الحادة، يشدد على أن الأفكار كما تعبر عنها الحركات الاجتماعية الجديدة المناهضة للعولمة، ما زالت قادرة على تغيير العالم، وأن الكتب مازالت تصنع الثورات وأن مجرة غوتنبرغ إلى توسع كما بشرنا إمبرتو إيكو، وأنها ما زالت تغوي بالهجرة إليها، والوقوع في سحرها، وما زالت تملك إغواءً بالتحريض على الثورة، وهذا ما يجعلها تتلألأ أكثر في فضاء يراد له أنه يخنق سكانه من خلال الترويج لبضاعة استهلاكية يرى كثيرون أنها لا تزيد على كونها بضاعة فاسدة ولكنها تنتمي إلى عصرها؟.

* مقال سبق أن بعث به المفكر العربي الراحل الأستاذ تركي الربيعو، ووافاه الأجل قبل أن يراه منشوراً رحمه الله .


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة