Culture Magazine Monday  19/02/2007 G Issue 187
فضاءات
الأثنين 1 ,صفر 1428   العدد  187
 

المبدع المنسيّ.. جميل حتمل
نبيل سليمان

 

 

ما القصة؟ حادثة؟ تطور درامي؟ أم نمو شخصية أم رسالة يلصقها الكاتب السوري الراحل جميل حتمل - وليس سارداً ما في قصة - على الباب الخارجي راجياً ألاّ يزعجه أحد، ثم يتناول 42 حبة منوم أو مهدئ، ليكتشف مع زحمة الأطباء والممرضين أحداً يزعجه؟ هكذا يصوغ جميل حتمل سؤال القصة والحياة/ الموت، ولعله سؤال الكتابة والعيش/ الانتحار، كما رسمت قصة (بيرة سابعة) في الفقرة السابقة، ثم تابعت في أسئلة وافتراضات واحتمالات للرجل الذي يقصّ، أو يقصّ نيابة عنه سارد يتلطّى خلفه جميل حتمل، فإذا بأحد يقفز فوق حاجز بطاقات المترو، لأنه لا يملك بطاقة، ويرمي نفسه في اللحظة التي سيصل المترو بها إلى المحطة. يؤجل تردد هذا الرجل انتحاره إلى قصة تالية، لا فرق بين أن تكون مكتوبة أو معيوشة. فقصص جميل حتمل الذي رحل شاباً في منفاه الباريسي، هي حياته وحياته هي قصصه، بما يعني ذلك من ذوب المبدع في إبداعه، وليس بما قد يشتبه به من نرجسية أو سيرية أو قلة حيلة في الفن.

ألم تكن كذلك حياة وموت رياض الصالح الحسين ومحمد هيثم الخوجة وسواهما من أقران جميل حتمل؟ ألم تكن كذلك حياة وموت وإبداع فواز الساجر وسعيد حورانية وسواهما من غير أقران جميل حتمل؟ هل أتابع التعداد خارج سورية؟ وما الفرق أمام مثل هذا الموت وهذه الحياة وهذا الإبداع بين جيل وجيل أو بين مسرح وشعر وقصة أو بين سجن وسرطان وجلطة وصمم ودهس أو بين جميل حتمل في سورية وغالب هلسا في الأردن وأمل دنقل في مصر و و...؟

بعد رحيله، نشر أصدقاء جميل حتمل مجموعته القصصية الأخيرة (قصص المرض قصص الجنون).

وفي القسم الثاني الذي يحمل هذا العنوان، سنجد الكاتب بعد قصة (بيرة سابعة) يعود إلى حاجز المترو في قصة (كلاش) ويكتب: (سأقفز، وسأنتظر وصول المترو، وقبل وصوله بثوان سأعدّ للعشرة، وسينقطع نفسي، ووقتها لن أكون أعددت رسائل وداع لأحد أبداً، ثم سأرمي نفسي).

ومن جديد يعود ضمير المتكلم أو الغائب - لا فرق - إلى الموت المؤجل والمحتوم، فهو لم يُقْدم طوال ثمانية وثلاثين عاماً من العزم. وفي هذه القصة يرنو إلى عامه التالي وإلى قصة يتجدد فيها الإقدام والعزم والتردد بانتظار جلطة تأتي بالحل الأفضل. لكن كل شيء يصعق فجأة، ويدوي نداء جميل حتمل لغائب طعمة فرمان ولغالب هلسا ولإبراهيم الزاير - في قصة كلاش نفسها - كما تنفجر جرة الغاز، وتنجز انتحار الرجل في قصة (جثة خامسة)، أو كما يعطل حركة المترو انتحار الرجل نفسه في قصة (امرأة الصباح). ولا يكاد يبدأ العام الجديد التاسع والثلاثون حتى يستوي المستشفى بالسجن والجلطة والدهس والصحة بالعافية والعقل بالجنون والبلاد بالمنفى والحب بالخواء، فتصحّ - وتصحّ جداً - السطور النازفة التي ختم بها واسيني الأعرج عقب رحيل جميل حتمل، رسالة لي تبدل كل ما تقدم بالقتل، فمن القاتل؟ امرأة أم بلاد أم كتابة؟ الحساسية والشفافية والصدق أم الطب والذاكرة والعطب العربي والكوني؟ هل قتل الروحَ ذلك الجسد أم ضاق الجسد بتلك الروح فتفجر أو مات أو انتحر؟

***

كتب جميل حتمل هذا القسم من مجموعته الأخيرة أثناء نوبة مرضه بين 13 - 23 تشرين الثاني / نوفمبر 1993. وفي نهاية مجموعته التي صدرت عن دار الحوار باللاذقية مطلع العام نفسه (حين لا بلاد) نلتقي في (قصص كوشان) عدداً من القصص التي كتبتْ في مشفى كوشان في باريس (14 - 8 - 1991). وفي أولى هذه القصص (قصة: حيلة) نرى الناس يكتبون جميعاً عن عودة إلى البيوت تباغت بشخص آخر، وهذا ما ستنغزل عليه بصيغة أمرّ وأدق قصة (آخر الصبح) من القسم الأول من المجموعة نفسها، حيث يفتق السارد أو الكاتب - فها هنا لا فرق بالتأكيد، مهما يكن حق التخييل - ليكتشف أباه ميتاً. إنها المفارقة التي تستبطن الموت في عادة السارد/ الكاتب: ألاّ يبيت خارج بيته كيلا يستيقظ مضيف ويجد ضيفه جثة.

وفي (قصص كوشان) من قصص المرض أيضاً قصة (صمّام) حيث يخفي فيها المريض صمام قلبه ممازحاً الأطباء الذي يطيش بهم أن ليس من بديل في الدقائق التي ينبغي أن يوضع خلالها الصمام في القلب المعطوب. ولسوف تغدو مزحة الانتحار هذه أكبر جدية بعد سنتين وثلاثة أشهر، عندما تنكتب قصص المرض قصص الجنون. غير أن في قصص كوشان، كما في القصص الأخيرة، سوى المرض ما يجلو كيف كانت الحياة لدى جميل حتمل، وبخاصة في حضرة الموت/ الانتحار/ المرض وفي غمرته، وحيث بدأ الكاتب يكتب في فترة قصيرة أكبر وأفضل مما كتب من قبل، فلماذا؟ تلك هي ذكريات الطفولة العزيزة في قصة (غبار) وذكريات الحرب في قصة (حرب) من (قصص كوشان)، كما هي الذكريات والحب والراهن في قصص (وردة.. وردة حمراء - جثة خامسة - قصة عن فلاح.. أي فلاح - عادة سرية - سوتيان أحمر) من مجموعة (قصص المرض قصص الجنون)، ومن القسمين الأول والثالث أيضاً من هذه المجموعة، وفيما تقدم (قصص كوشان) من مجموعة (حين لا بلاد).

قد يكون من المحتوم لكاتب مثل جميل حتمل أن يصدر مجموعته الأخيرة بحكايات الأهل - عنوان القسم الأول - وأن يختمها بهذا العنوان للقسم الثالث: (آخر العام) حينما كتب مودعاً سنة 1993 وملاقياً الموت الذي لم يتأخر.

ففي المنفى الذي لم تلح له نهاية - كالسجن وكالمرض الذي أتى بالإفراج عن السجين - تشتعل الذكريات الدفينة، تتقد التفاصيل، وتنكتب من حكايات الأهل قصص: (الصحن سقط في البئر - لسان أم ثلجة - الخال ابن ستّي نصرة - عن ما بعد الخمس دقائق - آخر الصبح - كاسيت). ويتلوى الزمن وينشج في هذه القصص بين الأب والابن والجدين والخال وابنه والعمة والأخت، وتختفي الأم، وينضفر الفقر والريف والحرب بالسجن والمدينة والتجارة، وهذا كله هو ما يفتح عليه ما أثّث قصص مجموعة (حين لا بلاد). فالجدة التي قتلها سَجْن حفيدها هي أيضاً بطلة قصة (كيف قتلت جدتي)، والحنين الفاجع في قصة (ريحة الأهل) والسجن في (تربيع الدجاجة، اعتذار، اذهب وارتحْ) ووحشة المنفى والوحدة والغربة عن الآخر وعالمه في قصص (صباح المدينة - ستارة - عربة آخر الليل).

ويبدو الإهداء حيث جاء في أية قصة كلمتها الأولى، وليس الزائدة التي يمكن حذفها. فألفريد حتمل الفنان التشكيلي الذي سبق ابنه جميل إلى الموت بقليل، وأصدقاء السجن والمنفى: إميل منعم - إبراهيم صموئيل - علي الكردي - فواز طرابلسي - وائل السواح، وألفريد جميل حتمل (ألفريد الابن) أولاء بعضٌ ممن تشكلت بهم حياة وقصة جميل حتمل، شأن من في القصص من رجل يريد أن يصير كلباً، أو امرأة هجرت، أو طبيبة نفسية، أو ذلك الفلاح الذي صار شرطياً وقضى في التعذيب على سجين، فعوقب، وجعل جميل حتمل يكتب (قصة عن فلاح.. أي فلاح) ويقول: (أنا قاص وعليّ أن أكتب عن فلاحين، فليس من المعقول أن أكتب دائماً عني أو عن معتقلين أو مطاردين أو عن مثقفين بهموم خاصة، أو سكان مدن ما..). وأخيراً - وليس آخراً - ذلك الشاب الفلسطيني الذي اقترح في قصة (بيرة سابعة) استبدال الحبوب المنومة بالبيرة الساخنة فجعل السارد يعترض: (الآن يفكر: هل هناك شاب فلسطيني يمكن أن يقول فكرة مقنعة؟). ثم يتساءل عن اقتراح الصديق: (ترى أهو اكتشاف تمّ في غزة أو أريحا؟). ولسوف نرى الكاتب يعود إلى غزة وأريحا في قصة (عادة سرية) فيرسم سعادة تلك المرأة التي تكور الثلج بأصابعها، وسر سعادتها في أنها لم تفرح بغزة وأريحا.

والأمر برمته إذن يغدو كما في الفن البديع: شخصي جداً وعام جداً، ذكريات الأمس الغائر والقريب، وعناء الحاضر الفائر. والكاتب لا يفتأ يسوق في مطلع قصة بعد قصة الافتراضات التي يستعين بها بسين التسويف والاحتمال. وقد بنى القصة بعد القصة على هذا النحو، وقد يبني القصة من قصتين كما في (قصتان) و(قصة في البلاد.. قصة خارجها) من مجموعة (حين لا بلاد). والمخيلة دوماً تلعب بالتفاصيل، تدقق في الأشياء وهي تؤثث، واللغة تقتصد في الوصف وفي الحوار، فتطلع امرأة تخلت عمن أحبت سبع سنين بعد النظام العالمي الجديد، أو إذاعة عربية تحاذي إذاعة شالوم وتمقت بدعايتها لإسرائيل، أو قائد سيبدو مضحكاً لو نزع حطته الفلسطينية واستعاض عنها بالقرنين.

عبر هذا النسيج الذي لا تغيب عنه السخرية المريرة تفكر قصة جميل حتمل بنفسها، ويشرك قارئه في لوعة وسؤال الكتابة، فنقرأ في قصة (بيرة سابعة): (أرجوكم أنا لست ولا أريد أن أعترف أنني كاتب فاشل أو ربما إنسان فاشل)، أو نقرأ في قصة (كلاش): (أريد أن أكتب كيما أشعر أني ما زلت حياً). وهذا هو السؤال يقضّ في (قصة عن فلاح.. أي فلاح) فنقرأ: (ولا أعرف لماذا لا أكتب هذه الأيام إلا في الليل، ولماذا كل قصصي من هذا النوع، أي بلا أجوبة؟) ونقرأ في قصة (وردة.. وردة حمراء): (لماذا لا أكتب قصصاً تحدث في النهار؟).

إنها قصة جميل حتمل، صوته الخاص ونكهتها الخاصة، وإنه نسبها إلى الحداثة التي لم تؤخذ برائدٍ تتقفاه - عربي أو غربي - ولا بشعرية مدّعاة تلوك اللغة وتنتقل بالغموض أو المجانية.

***

هكذا يمضي جميل حتمل إلى النسيان في زمن النكران، لا، بل هكذا يظل حاضراً، يلوّن ثلج وحجر عمّان في آخر لقاء لنا قبل أكثر من خمس عشرة سنة، ويفغم في آخر رسالة تلقيتها منه، ويشخب كل شيء بعدما قيل إنه مات، وريثما تقرّى هو من مقامه في الوطن - كما تمنى رجل في قصة كلاش - وإذا بمساكن برزة في أطراف الشام تجمعنا اليوم، لا من سنين، وإذا بيروت وباريس، وبخاصة باريس، وهو في عنائه يحمل جرة الغاز إلى الطابق الثاني، ينتزعني من الفندق ويلاحقني في كل كلمة من (مدارات الشرق)، ثم لا يكتفي بحوار واحد قبل أن يمضي - بل يأتي - ويدع عينيّ معلقتين في فضائه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة