Culture Magazine Monday  19/02/2007 G Issue 187
سرد
الأثنين 1 ,صفر 1428   العدد  187
 
إليدوس
حصة العتيبي

 

 

عندما أعود لبلدي. سيجعل الشوق من عيني مسرحاً للحزن المؤلم والقاتل لنفسي، لن أرتاح كثيراً لأنني سأفقد رونق روحي التي تركتها هنا.. بين يديك أمانة!

قال عبارته وهو يحضن بين جفنيه أمواجاً من الشوق المغادر لعينيها المتعبة فلا يسمع بعدها سوى حواراً وحديثاً رقيقاً مع خيال حبيبته، لقد كان وداعاً قاسياً جداً عليها، كانت الدموع لغة الموقف، لم تستثن تلك الرجفة وهي تمسك بعنان الهوى حين حضنها مغادراً بها حدود الأرض التي كانت تظنها واقعاً.. لم تستثني فزعها من رحلة قد لا يكون فيها خط رجعه.

كان يرفض أن تناديه باسمه الحقيقي لأن اسمه الجديد (إليدوس) الذي أطلقته عليه كان أكثر جمالاً وأسرع لقلبها حين تلفظه.

جاءت الكلمات كصوت الأنين الموجع في ذاكرتها، عندما كان جالساً بهدوء يحتضن يدها الصغيرة فيحدثها عن هموم قديمه، باشرت رحلتها إلى عالمه، عندما جاءت قراراته بضرورة الهجرة لبلد لا يعرف عنه سوى اسمه (لم أتخيل أن أتعرف على امرأة من جنسي، لم أكن أعير هذا الأمر اهتماماً، كنت أعتقد أن دور الإنسان في هذه الحياة كآلة تنتج فقط، لا مكان لشيء أشعر بفقدانه وهو مشاعري الحبيسة في داخل تجاويف عمري المهدر منذ أن انتقلت لهذا المكان البعيد، برودة المكان جعلت المشاعر مثلجة، زرقة عيونهم جعلت كلماتهم قاسية، وعباراتهم أشبه ما تكون بتجاويف كهف قديم يغالب الصدى حين يعزف على هجر الحياة له، أما الطرقات فلا تسأليني عنها لأن ذلك الممر الطويل يشهد على نحت آثار أقدامي المهدرة بحثا عن شيء أفتقده).

في صبيحة ذلك اليوم عاشت ذاكرة الأيام ملحمة وهو يودعها (في يدي بعض آثار من عطرك، لا أستطيع أن أمحي هذه الآثار، إنها تراث لاحتضار قلبي محفوراً في ذاكرتي المترعة بك). همس بتلك العبارة.. ثم راح في نوبة سرحان طويلة.

(أبقيني بعيداً عن الضوء.. هكذا كان يردد لنفسه وهو يتخيل أنها بجانبه، لا أريد أن أستفيق من هول مأساة فراقي سوى في رحلة العودة إليها، هدير محركات الطائرة كان مغاضباً، يستنكر تلك النظرة في عينيه، منظر السحب كان جميلاً عندما تتمرد فتعترض طريق الطائرة فتارة تجعلها تميل فتعيد الرياح رقصتها مع اتزان الطائرة وأحياناً مع اختلالها فيتحول الفضاء إلى ساحة رقص بين خياله ومنظر الكون من حوله.

قبل الرحيل بليلة باشرت الآلام لحظة الفرح بالرغم من جمال المنظر الذي يحتويهما، الخضرة حول المسبح وجمال تصميم الحديقة لم يعبأ به القلق الذي كان مسيطراً عليهما.. (من هنا ستبدأ غربتي، دفء مشاعري سيتجمد وأنا بعيد عنك، أخاف من العودة للشرود، أخاف أن أفقدك).. هكذا كانت عبارات الحديث بينهما، جملاً قليلة، كاملة التعبير، غزيرة المعنى، واضحة لكليهما، لكنها تئن بحمل كبير أثقلهما معاً.. الغربة!

في زاوية صغيرة.. في أحد المنازل المتواضعة..كانت الإضاءة خافتة، خيال يتحرك من أمام النافذة.. يومض كما تومض الأحلام في عيني العاشق، يقترب من الستارة المغلقة ثم يبتعد، صوت الورق في مجلد مذكراتها أتعبه الترحال بين يديها، القلم لازال يبكي حبراً ويشتكي للسطور، أتعبه القلق من نشيجها المستمر، كتبت سطراً ثم توقفت، كتبت ترحالاً لعينيها على صهوة الخيال.. ثم بكت... كانت تنظر بعيداً عبر خيوط الليل.. هناك تشاهد طيفاً حزيناً يتكئ بصعوبة على عبارات الصبر التي كان يحفظها.. ويكتب بصمت على صفحة الريح المغادرة لبلادها... متى أعود إليك؟


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة