Culture Magazine Monday  19/02/2007 G Issue 187
سرد
الأثنين 1 ,صفر 1428   العدد  187
 
قصص قصيرة
فهد المصبح

 

 

(1)

عمود التراب

دار الهواء حول نفسه دورتين .. ثلاثاً .. أربعاً، فاستيقظ التراب الراكد منذ زمن. وبدأ يلاحق موجات الهواء الصغيرة التي تدور حول نفسها، اتسعت الدائرة، فارتفع التراب عموداً أحمر. أخذ مكاناً واسعاً في الفضاء الفسيح على حدود المدينة، مدفوعاً بريح أكثر يأساً .. صارمة .. بدأت تلوب كأنّها امرأة تبحث عن حبٍّ مفقود.

الهواء يصارع نفسه في أعماق المدينة .. يهب عليها من كلِّ الجهات كأنّه يريد ابتلاعها بصفير حاد .. غاضب وصارم، والتراب بغزارة يتساقط على الرؤوس المبهورة .. يغطي أسطح المنازل والمساجد .. يغمر فناء المدينة بالعتمة ويتحرّك إلى الضفاف الأخرى .. يعبر الشوارع والأرصفة، الحارات، ووجوه الناس يغمر الجدران .. الأشجار .. ومقابر الأجداد .. يغمر كلَّ شيء مدفوعاً برغبة ما غاضبة وكئيبة في جوٍّ رهيب.

الرجال والنساء والشيوخ يركضون إلى مساكنهم مثل فئران مذعورة، يغلقون الأبواب والنوافذ بأصوات تتوحّد في صندوق الذعر: غصب عارم حلَّ بالمدينة الطيبة.

من الداخل تأتي أصوات الشيوخ غامضة .. الأصوات الأكثر ارتفاعاً ويأساً. يصرخون في ضجيج الأشياء حولهم .. للسماء سطوتها وللريح جبروتها وللأرواح حبورها وخوفها .. يعبئون الكؤوس المكسورة بالتعاويذ والبكاء .. يضيفون خوفاً على خوف. الأطفال ينسلون من مساكن آبائهم خفية .. يركضون في الحارات .. كأنّهم يحتفلون بضيف المدينة. في مهرجان بهجة وشرود وخوف لذيذ .. يرقصون في الحارات للذي دخل مدينتهم ممتلئ الفم بالكلام، يركضون في الشوارع وتحت الجدران .. يزفون وقتهم إلى حرارة أخرى مكتنزة .. عذبة وجريئة في عرس كأنّه موصول منذ آلاف السنين.

يزفون الغبار العالق بثيابهم وشعر رؤوسهم إلى جدران أعمارهم المدهونة بفرح أصابعهم الصغيرة. يقرأون أسماءهم وتواريخ ميلادهم ساقطة تحت الجدران أكواماً سوداء.

الريح تتجه جنوباً تقود تراب المدينة .. وتزيح بعضاً منه عن قرص الشمس .. وتبدو في خروجها المهيب كما لو أنّها عروس من النار.

الأطفال ينفضون التراب عن شعر رؤوسهم وثيابهم وأصواتهم القديمة. يرشون الماء على التراب الذي بدأ في الركود .. يعجنون الطين من جديد. يتذكّرون أسماءهم القديمة وتواريخ ميلادهم .. يرسمونها على الجدران مرة أخرى .. الجدران التي صارت أكثر بريقاً تحت شمس ساطعة وجديدة .. يمرون بأصابعهم على الجدران المدهونة بأحلامهم الطفلة .. يغنّون بصوت واحد للمدينة .. للشمس .. للريح .. وقبل ذلك يقولون للناس:

اخرجوا من منازلكم لأنّ الريح لم تعُد ريحاً.

(2)

نوال لا تصعد

إلى السطوح

في منتصف عصرية باردة، أصعد درجات السلّم الطيني، حتى أصل إلى النقطة الأكثر ارتفاعاً في بيتي، أتأمّل بيوت الحارة واحداً فواحداً وعمارات المدينة واحدة فواحدة، وأختزل تاريخ المدينة في صورة واسعة، من هذه الجدران العالية، البيوت الطينية صفراء هادئة كلوحات تراثية موصولة، والمنائر تتسامق ساطعة، وكنت في ارتفاع بحيث أنّ نخبة من البيوت تبدو بارزة قليلاً، لأصطاد النظر إلى رأس بشري من البعد. كان ثابتاً بدون حركة، وكان يبدو لي من بعيد شكلاً جميلاً، نقطة صفراء لإنسان، وكما لو أنّه يراني مثلما أراه، نقطة بعيدة كنت أتأمّله. حتى رفعت يدي ملوِّحاً له ولكني لم أجد استجابة واضحة، فقط تحرّك الرأس حركة صغيرة، ثم عاد إلى سكونه، فرفعت يدي ملوّحاً مرة أخرى، ولم أجد رداً، وبدا لي الرأس أكثر جموداً كصنم، كأنّه يريد أن يتفرّج فقط، دون أن يكون بحاجة إلى مدِّ جسور علاقة مع أحد، حتى رأيته، بعد وقت، يتحرّك ويميل برأسه. فلوّحت له بيدي، ارتفع قليلاً، فلمحته لأول مرة واضحاً، بثوب أحمر زاهٍ، كأنّه الفرح نفسه، يرقص على جدران بيوتنا، ويطل علينا من علوٍّ يليق به.

عند الغروب كنت قد بدأت أنزل الدرج ساهماً، وكنت أفكر، هل هذه هي نوال؟

تعثّرت في الدرجة المكسورة

نهضت، ساهماً أيضاً

قلت في نفسي:

نوال لا تصعد إلى السطوح.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة