Culture Magazine Monday  19/03/2007 G Issue 191
فضاءات
الأثنين 29 ,صفر 1428   العدد  191
 

الليل في شعر الجوهرجي!؟
عبدالله الجفري

 

 

* الليل... هذا الأسود الشجي، يخرج من عباءة الشاعر ليفتتح آفاقا واسعة من البهاء والصور والأخيلة.. فهو عالمه الخاص الذي يبذر فيه المحبة والشجن.. وهو رؤيته ورؤاه.

إنه هذا الشاعر الذي يمنح لكل صباح عربي: نزفه ودموعه، وآهة الصبر العربي الذي تدجن به.

يشعل كل صباح عربي: غضبه وعتمة طريق الغد العربي.

يصعد كل صباح عربي: إلى أعلى هامة (نخلة) في البصرة، ويشهد بلحها، وثمرها، وجذورها الراسخة... ينادي على شرفات: الحق، والضمير، والحرية التي استمرأ الكثير اغتصابها!

يلمع كل صباح عربي: سيفاً عربياً.. يخايل أمجاد تاريخه، ومواقف فرسانه الذين صنعوا التاريخ الذي نريد حمايته من الهوان... ليشمخ!!

يصور الشاعر (محمد إسماعيل جواهرجي): حرف الليل الغائب، وقد صار الفراغ محيطه، وبحره، ومسافاته... والصمت يلفه في هذه الاستراخاءة من العمر الحزين.

لا تغيب عنه لمعة الشمس الفضية تطل عليه من خوص النخيل!

فيهمس في سمع الليل:

- يا ليل الصمت.. ألا ترى وتر يشجيني الآذان

يشدو للحب بأغنية ملآى وجدان

أغنية تلأم آهات ملت حرمان

وتعيد البسمة في ثغر وله ظمآن

أخطأ حين اختصر الأيام مع السنين التي رحلت بحثاً عن تأكيد الحنين.

خانه شعوره حين كان يبتدئ به الفرح.

ظن أنه يعرف الحياة من سنين، وعرف الحب دون أن يظلم حنينه.

يسترجع لوحة (محمد الماغوط): (الحرب قد لا تبكيني.. أغنية صغيرة قد تبكيني).

هذا هو الفرح.. عندما القلب يتسع للعقل.

يجد العابد في رهافة هذه الموسيقى الكونية... وكما قال فيلسوف عربي: (حيث تزداد قوة الحلم، يكون هناك طوفان جديد).

ويصور (ليويولد سنغور) وحدته في الليل.. فيرسم أبعاد الصورة في عمق إحساسه:

- أنا وحيد في السهل، وفي الليل

بصحبة الأشجار المتقلصة من البرد

التي تشد كوعها إلى جسمها ملتفة بعض على بعض.

أنا وحيد في السهل

وفي الليل بصحبة حركات الأشجار، حركات يأسها المؤثر

والتي فارقتها أوراقها إلى جزر مختارة.

أنا وحيد في السهل وفي الليل!!

***

* ليل الشعراء:

* الليل للشعراء... لماذا؟!

هل هو النجوى؟!

الليل: وعاء التلقي للشاعر بمختلف اتجاهاته، من إحباطات وسأم، وشجن ووله، وحب وغرام وشكوى.

وعلى مدار الزمن: كان الليل هو الشاطئ الذي يستكين إليه الشاعر، ويستشف منه الدفء الحب بكل أحاسيسهما.

ومنذ العصر الجاهلي الأول: بدأ الشاعر العربي في صحرائه يتخذ من الليل سلوى يشكو من خلالها معاناته وبوحه وما يختلج في نفسه من أنات وكدمات، وربما ما يذوب فيه من أشواق وتأمل..

حيث نجد أن أول مدرسة (الرمز الشعري) كانت انطلاقة حميمة صادقة من ذلكم الشاعر البدوي، فكان ينفث لهيب قلبه وسعار وجدانه في الليل، ويعمد إلى أسلوب التشخيص المعروف لدى البلاغيين، فيشخص من الليل: إنساناً أو خيالاً يناشده ويخاطبه مجسماً بكل أبعاده، يصب فيه جام غضبه وسعار وجدانه.. فيكون الليل هو المناخ الطبيعي أو المتنفس الذي يجد فيه الشاعر البدوي العفوي كل أمانيه وآماله على اختلاف أبعادها.

إن ما وصلنا من الشعر الجاهلي: لا يزيد في عمره الزمني عن العصر الجاهلي الأخير.

وبوقفة عاجلة على هذا التراث، نتلمس أبعاد الصياغات الفنية التي تصدر وهجها الذي يصوغها الشاعر بعفوية مقبولة.. فهذا امرؤ القيس يصور الجيش بجنح الليل وهو يرخي سدوله فما أرق وأجمل واشف لفظة: (أرخى سدوله) على الشاعر ليبتليه بالهموم... ومن هذا المنطلق: يبدأ الشاعر في تجسيد الليل وتلوينه بألوان الطبيعة التي تدفق من الشاعر: وجداناً وحساً.

وهكذا.. ما مر شاعر إلا وكان الليل نجيه.. حتى شاعر الحكمة والحماسة يأوي إليه كرمز.

- أيها الليل... ترفق

لا تثر وخز الندوب

فأنا مازلت أعشق

نسمة الحب الطروب

أحمل الإحساس: نبضاً

من سعار لا يذوب

عصرنا... عصر التجافي

عصر آلات الحروب!!

* وانطلاقاً من هذه الصور الشعرية الرقيقة في وصف الليل، نجد عصر النهضة يتخذ فيه الشعراء من الليل مسرحاً يؤدون فيه وظائفهم الشعرية التي يأملون تحقيقها - رمزاً وهمساً، لا تصريح وإفصاح... فلا يستطيعون أن يترجموا أحاسيسهم وأمانيهم مباشرة.. أما تحت سطوة الاستعمار وقهره، وإما خيفة من جور الحكام آنذاك.. فولدت مدرسة الرمز في الفن.

وتحت عنوان: همسة في شغاف الليل، يكتب الشاعر من بحر البسيط مقطوع الضرب على (فعلن).. وكثيراً ما يخطئ الشعراء، وبعضهم من أصحاب الأسماء اللامعة الكبيرة في التحرر من العلة في العروضية أو الضرب، مع أن هذا قبح شائن يتأباه الذوق الراهف للإيقاع الصوتي السليم، ويرفضه العروضيون رفضاً تاماً إلا ما جاء في الحشو لا مانع من اجتيازه والعودة به إلى أصله من كتابه (مصادر النوتة الشعرية) صفحة 23 الطبعة الأولى عام 1412هـ.

***

* وها هو الشاعر محمد إسماعيل جواهرجي: يتكئ على منتصف الأمسيات، حيث يغني

- حبذا يا ليل لو فجرت نبضي مرهفاً.

وأثرت الشوق في قلبي، فقد عز الوفا

فأنا شاعرك المفتون صباً مدنفا

وكأنه يلكز حصانه المسرج لليل، ليجن ركضه، فانطلق يمنح الطريق نثيرة من أشعار تربادور مجنون.

بين الحرمان والقناعة: يتقافز.

كان يتقاسم الزمن والفرحة مع الظل... مع قوس قزح كفرحته بها.

ظهيرته مكسورة أحياناً بالأسئلة التي لا تتلقى إجابة منها... هو هذا (الغريب) الذي ستغفر له شيئاً واحداً: أن عشقه لها - فراشة ترقص أمام لهبها!!

* قال لها في ثمالة مساء:

- أنت تجعلين أحلامك.. عدواً لك

إنه من الصعب: أن ندع أحلامنا تكبر... فنخافها!

في عمق ذلك الليل: ناداها من شرودها.. فاكتشف أن أحلامها تحجب عنها نداءه عليها!

هو الذي كان يقبل على الحياة بضحكتها الممنوحة له وحده... سلاحه: ذلك الوفاء الذي لا يخونه... وكل الأشياء: تصبح ملكاً لها، ويجعلها: رياحه، وهي قوة تلك الرياح!

* هكذا... كان يملأ شفتيه بالرمل، ويمتص المسافة منه... وقد اختبأ في (عمق الليل) أكثر وأكثر!

عاش (الليل الأول) بعد طلوعها قمراً، في سمائه.

أحبته ليلتها الأولى بعد عطائها.

غسل وجهها أتربة نفسه.

أضاءت ضحكتها أعماقه المنكسرة بالحزن.

فاضت من حفافيه: التجربة، والوجوه، والمحطات.

اتسعت مساحاته بالمواقف، وبالحلم المستمر... حتى جاء شروقها: وعداً، لكنه... لم يكتمل!

* ناداها في الميلاد، وفي الأبعاد: يا حرف الليل الغائب.

كان يشتهي قرارة مدارها... يستكنه ضوعها... يقر في دفئها كلما حاصرته أكناف برد الصمت!

لكنها... وهو يتنفس نبضها - دفق حياة نضاح فيه، بادرت إليه و... قتلته:

- يا ليل لولا الهوى ما كان يصلانا

حر من الشوق يسري في حشايانا

ولولا لظى الهجر في قلب يمزقه

عصف النوائب أشلاء وأحزانا

ما كنت يا ليل للأحباب أمنية

تفيض بالبوح أشكالاً وألواناً

***

* وفي هجعة الليل: فكر في الألم وهو يعانيه مرتين:

- مرة: عندما كان يحس به يقضم أروع الأحاسيس النقية في وجدانه، وأنضر التطلعات الخيرة الإنسانية في ذاته، ويعتصر أمتع المشاعر التي يحياها بصدق.. كإنسان يستشرف عالماً رحباً من الحب، والأمل، والحلم!

- ومرة أخرى: عندما كان الألم يستهلك كل تفكيره، وهو حائر يتساءل:

- كيف يستطيع الألم أن يصهر في أتونه قدرات المرء، ويستنزف طاقاته الكامنة في طموحه وأمانيه.. ويحيلها جميعاً إلى (واقع) يشكل حياة الإنسان؟!

لقد دفعته هذه المعاناة إلى تساؤلات تتلاحق إثر بعضها، كتلاحق أنفاسه بعد سباق في الجري، أو بعد اضطلاع آماله بصور من حلم اليقظة الممتع!

تساؤلات... لم يؤهلها في أفكاره سوى الألم وحده.. ولم يتلففها منه سوى الليل وأصدائه.

كان يضع يده على صدره، كأنه بها قد لمس مواجعه ونقطة الألم في نفسه، وهو يقول:

- أين هي فلسفة (اللذة في الألم) التي كتب عنها المفكرون، وصورها الشعراء، وأفرد لها الفلاسفة صفحات متزاحمة السطور؟!

هل تتوفر الأدلة في تفكيره.. لتتأكد لديه معاني: اللذة في الألم؟!

لم يرد أن يرجع إلى قراءاته عن الألم وفلسفته، فإن الحيرة التي انزعجت نفسه لا تتطلب إثباتاً علمياً وأكاديمياً يعود إليه ليلقيه بعد ذلك درساً على طلاب أو متسائلين باحثين!!

كان يتطلع نحو منطق يلامس وجدانه ويقنع نفسه المشحونة بالألم.. بأنه نفس ستشعر اللذة - قمة اللذة - وهي تتألم!

فلابد له - إذن - أن يتجه إلى نفسه ليسألها:

- لماذا تتألمين يا نفسي؟!

وها هو الآن يجلس فوق (هو)... رجل وحيد تسكن عصفورة في قلبه العش.. وتدري هي لكنها تحتفل بالواقع الماثل في فارق السن، وفارق الزمن، وفارق المسافة.

يريد أن يطرد الرطوبة من غرفته بهدير التكييف.

و..... كأنه يتقهقر إلى خلفية العمر، والزمن، والمسافة... حين كادت الريح أن تحطمه وهو يسير في درب المواويل، لكن (قصيدة) استحوذت على كل المواويل، لتصبح - وحدها- موالاً يواجه الريح، أو يواجه الريح بها!

ولم تعد (الروح) تعاني من الحيرة والوحدة، ولكن.......

الواقع الماثل بكل الفوارق... هو الذي اصطدمت به (الروح) وهي تقرأ ميلاد حلم جديد تمثل في طلوع القصيدة - هي:

- وقال: ستبقى الأماكن ذاكرتنا، والأيام ركضنا، والقلب هو: الاشتياق!

- لا أرق الله جفنا بات يشغلني

ولا جفا اليوم ظبياً ساجي الطرف

أصفيته الود والإحساس مختفياً

فيما أواريه من كدم ومن جحف

* يكتب إليها في ليل هده التعب ينتصف برطوبته وتردد أمواج بحره، في خلفية غير بعيدة:

نعم.... يشتاقها في غربة الحرب اليوم.

يشتاقها في رطوبة نفوس الناس التي توحدت مع الطقس.

يشتاقها بكل دفء القلب في صقيع المشاعر الإنسانية (المعاصرة!).

يشتاقها غداً، وبعد غد.

ويدعوها أن تحاصره أكثر.. وهو يغفو في مهد ابتسامتها.

وتبقى هي: غناءه.. ويبقى هو دوماً: يشتاقها!

* لقد تلألأت (نجمة) توسطة كبد السماء.

حين نظر إليها: جذبته من بساطة الأرض إلى أعالي السماء.

أعلنت عن ضيائها في وجدانه كله، لتهرب إلى أرجاء أطرافه!

أحبها...... لكنها بقيت في حدود هالتها، تستريح على كتف الليل

وهو يحمل ميراثه العاطفي ويمشي إليها.

نبتت له أجنحة من سمائها... فحلق حولها.

صارت في ضلوعه: قرارة الحياة.. لا استقرارها!

غرسته: ميلاداً، أملا.. فصولاً متعاقبة تواصل الغناء والثمر.

قلعته: موتاً.. وشطرته نصفين، تملك نصفه الأول، وتذيب نصفه الآخر!

* وبقي هذا الليل الصخاب بوحشيته:

(لوحة) لا أثمن منها في أعماقه.

لا أحد يدعي أنه قادر على طعن ما ازدهر في العمر... حتى لو نفى الخفقة إلى وهاد الجحود والنسيان.

لم يكن (الحب): عقاباً أبداً... بل هو هذا الكوخ الذي يقف على ساقي بجعة!

في لحظة معها.. احس أنه يطفو فوق بحار ليله.

وفي لحظة صادرتها منه.. كان الصمت، والصبر، و.... صمت الخفقة!

* ويصور الشاعر في لوحته: (الظلام العشق) ركب فيها بساط الأحلام، ورأى الليل قد أرخى ستار الظلام، والوحشة القاتلة تعم الكون:

- كأنها شهرزاد تحكي لليل قصة الابتداء

قصة الإنسان منذ كان يسير مهنديا

كانت النجوم بوصلته التي تهديه

* هكذا... غادره الفرح.

بدت في أمواج الليل: سارقة.. هي: الضوء المنكسر في الظلال، وتيبس الزمن من توقفه!

سرقت منه فرحته بعد أن مكنها من سرقة قلبه... فصار حبر كلماته: نزيف دمه.

سرقت منه حلمه الجميل.. فسكب مواله الحزين في أذن الأمسيات التي كبرت كأسوار بابل.

وملأ صدره بحكاية الليل - الطفل!

لم يجد صديقاً يبكي أمامه.. سوى البحر، وهذا الليل الذي يكرس وحدته

كان البحر يمتد من البحر إلى.... وطنه، وكان بيته يوازي البحر.

وهناك أمواج البحر البيضاء العنيفة.. وهنا - في صدره - أمواج نفسها كفصول السنة!

* هكذا حيده الليل وهو يحدد.. حبه للكون من حوله في حشاشته.

بعد أن صاغ من الليل قصيدة.. حتى تحول إلى هلام كالطحالب يطفو على وجه بحيرتها.

بعد أن أضاء بضحكتها لياليه.

بعد ان أشرع أمامها أبواب الأمل.. أوصدت في وجهه بوابة الحياة - الفرح.

تلك التي يرى امتدادها في عمق عينيها ونشوة صوتها!

ما تبقى منه.... هذا الإنسان الواقف في زورق الحلم:

يصطاد الماء والموج، واللامدى!!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة