Culture Magazine Monday  19/03/2007 G Issue 191
فضاءات
الأثنين 29 ,صفر 1428   العدد  191
 

ما لم أنشره حياً
عبدالسلام العجيلي

 

 

أيّها السادة الكرام:

لمّا تقدّم الحارث بن كلدة لمقابلة كسرى ملك الفرس، سأله هذا: من تكون؟ قال: أنا طبيب العرب. فقال كسرى: وما حاجة العرب إلى طبيب مع جفاء طباعهم، وغلظ أبدانهم؟ قال الحارث: إذا كانوا كما قال الملك، فإنّهم إلى الطبّ أحوج وأشدّ عوزاً. وفي العام التالي، أقبل الحارث بن كلدة مع الوفود العربيّة، التي هيّأها النعمان بن المنذر ليبيّنوا لكسرى ما يجهله عن حقيقة تلك الأمّة التي لم تكن في المنزلة التي توهّمها بها ملك فارس نتيجة جهله وعدم اطّلاعه.

ويظهر أيّها السادة، أنّنا أكثر جهلاً من كسرى في تلك الأيّام بحقيقة الشعب العربيّين أو على الأقلّ بحقيقته من الناحية العلميّة. بل إنّ كلّ عرب اليوم هم على جهل بالمبلغ الذي بلغه أسلافهم منذ قرون طويلة في ميادين الثقافة والتقدّم العلميّ. فلو أنّنا عرفنا تلك الحقيقة لأدركنا أنّ كثيراً ممّا نحسبه اليوم من مستنبطات العصور الحديثة، أو من بنات أفكار العلماء المعاصرين، هي أشياء عرفها العرب واستخدموها، وأوردوا ذكرها في أشعارهم. تلك الأشعار التي هي أوابد حفظت لنا كثيراً من تراث العرب العلميّ، وكانت السجلّ الذي لا ينتابه البلى لوقائع التاريخ. وإنّ ما أورده لكم اليوم في هذا المجال لا يخرج عن حقل الطب والعلوم المتصلة به. وأترك لزملائي الباحثين في فروع العلوم الأخرى مهمّة أن يكشفوا للملأ الدرجة التي وصل إليها العرب الأقدمون في سائر العلوم والمعارف الإنسانيّة.

أليس غريباً أيّها السادة أن نسمّي عصرنا هذا من الناحية الطبيّة عصر التخصّص، بمعنى أنّ العلوم الطبيّة فيه قد اتسعت وتعدّدت حتّى لم يعد بمقدور الواحد منّا بمفرده التضلّع بكافّة فروعها، فصرنا نرى الطبيب النسائيّ والجراثيميّ، وطبيب العيون والأخصّائيّ بجراحة الظافر من باريس!

أليس غريباً أن نسمّي عصرنا بهذا الاسم مع أنّ العرب في جاهليّتهم كانوا يعرفون التخصّص الطبيّ، وينوّهون به في أشعارهم؟! انظروا إلى قول علقمة بن عبدة مثلاً:

فإن تسألوني بالنساء فإنّني خبير بأدواء النساء طبيب...

هذا إذن واحد من المتخصّصين بالأمراض النسائيّة ولا شكّ. وإنّي لأرى بعين الخيال لافتة عيادته وقد كتب عليها بالخطّ العريض: (علقمة بن عبدة؟ أخصّائيّ بالأمراض النسائيّة من جامعة عكاظ، والطبيب الداخليّ بدارة جلجل سابقاً)! وإنّ التاريخ ليذكر حادثة تدلّ على مهارة هذا الطبيب في فنّه، وذلك حين شخّص داء السيّدة أم جندب، ووصف دواءه، وردّ على ما توهّمه امرؤ القيس في قوله:

خليليّ مرّا بي على أمّ جندب

لنقضي حاجات الفؤاد المعذّبِ

فأجابه الدكتور علقمة بقصيدته التي مطلعها:

ذهبت من الهجران في كلّ مذهب

ولم يك حقّاً كلّ هذا التجنّبِ

مفنّداً بها مزاعم امرئ القيس في تشخيصه، ومدلياً بحججه الدامغة في حالة تلك السيّدة، فأبان بذلك عن علم واسع، ورأي مصيب.

وليس علقمة بن عبدة، وكانوا يدعونه لتفوّقه علقمة الفحل، بالجاهليّ الوحيد الذي طبقت شهرته الطبيّة الآفاق. فالسيّد عنترة العبسي مثلاً كان يتعاطى الطبّ أحياناً، ويأتي فيه بأمور مبتكرة. يدلّ على ذلك قوله:

وسيفي كان في الهيجا طبيباً

يداوي رأس من يشكو الصداعا

وفي هذا البيت دلالة صريحة على طريقة في مداواة الصداع تحسب من مستنبطات العصر الحاضر، ألا وهي المداواة الدميّة الذاتيّة المستعملة في مداواة الشقيقة المستعصية وبقيّة أمراض الحرض.

إنّ من يرى مبلغ معرفة العرب منذ القديم بهذه الطريقة وأمثالها من طرق المعالجة لابدّ من أن يتساءل عن أساليب البحث التي مكّنتهم من الوصول بسهولة إلى معلومات نعدّها اليوم بالغة التعقيد، إذ ترتبط بتوازن غرويّات الدم وتأثيرات الغدد الصمّ والغدد خارجيّة الإفراغ.

وهناك من شعراء الجاهليّة من دلّ على معرفة واسعة في علم التشريح، ولاسيّما النسائيّ منه، ألا وهو النابغة الذبياني. ففي قصيدته الداليّة التي مطلعها:

أمن آل ميّة رائح أو مغتدي

عجلان ذا زاد وغير مزوّد

في هذه القصيدة تفصيل واف في التشريح الوصفيّ لجسم المتجرّدة زوجة النعمان بن المنذر. وقد أصغى النعمان إلى ذلك الوصف الدقيق دون غضب أو تذمّر على ما هو مشهور عند العرب من غيرة على النساء، ممّا يدلّ على المنزلة التي كان يتمتّع العلم الخالص والعلماء عند ملوك العرب في تلك الأزمان. وجاء الإسلام، فلم يكن شأن الأطبّاء من الشعراء أقلّ فيه منه في الجاهليّة. وإنّي لأذكر هنا اسم عمر بن أبي ربيعة، مقروناً بالإجلال، وذلك عند ذكر أسماء كبار الباحثين في علل الصدر. فبيته الخالد:

ثمّ قالوا تحبّها، قلت بهرا

عدد الرمل والحصى والتراب

يشرح السببين الرئيسين في إمراض داء البهر، وهو الذي تسمّيه العامّة الربو. السبب الأوّل هو تأثير العصب الودّي، وقد نصّ عليه حين قال: ثمّ قالوا تحبّها. والسبب الثاني هو تأثير العوامل المخرّشة، وقد بيّنه بتعداده للرمل والتراب. وإنّه لمن المؤسف أن تؤوّل أقوال هذا العلاّمة تأويلاً سيّئاً بغية الحطّ من مكانته التي هي أرفع من أن تتناولها الأقاويل، ذلك أنّ بعض النقّاد صرّفوا قوله في إحدى قصائدة:

وناهدة ....... قلت لها اتكي

على الرمل من جبانة لم توسّد

أقول إنّ أولئك النقّاد صرّفوا هذا القول إلى معنى السوء، في حين إنّي أعتقد جازماً بأنّه لم يرد من هذه الكلمة إلاّ إضجاع مريضته لفحص صدرها بالقرع والجسّ والإصغاء. وإنّ في طلبه منها الاتكاء على الرمل اللين لكثير من الرفق الذي يجب أن يتصف به الأطبّاء حيال مرضاهم. فالرفق هنا عاطفة مفقودة اليوم، ويا للأسف بين جمهور الأطبّاء، فأنت تراهم يلقون مرضاهم إلقاء على موائد خشبيّة أكل الدهر عليها وشرب، وعشّش البقّ والعنكبوت بين ثناياها. ومع كلّ هذه الحقائق فقد وجد بين الناس من يتّهم عمر بن أبي ربيعة باستحلال ما حرّم الله. وقديماً كان في الناس الحسد، كما قال عمر بن أبي ربيعة نفسه.

ويعتقد نفر من الناس، أيّها السادة، أنّ المصول واللقاحات هي اكتشافات جديدة، لم يعرفها أو يقول بنظريّتها أحد قبل باستور في مجالاتها. ولكنّ هناك بيتاً من الشعر العربيّ سائراً يفنّد هذا الاعتقاد، ألا وهو بيت أبي نواس المشهور:

دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

فنظريّة استحضار اللقاحات والمصول الواقية والشافية من مستنبتات الجراثيم الممرضة قد عرفها هذا الشاعر العباسيّ العهد قبل أكثر من عشرة قرون. ولكنّ المؤسف أنّ عبقريّة أبي نواس الشعريّة قد طغت على سمعته العلميّة وعلى اكتشافاته في علم المداواة. وإذا تيسّر لي فائض من الوقت فلسوف أنشر على الملأ ما توصّلت إلى معرفته عن كيفيّة اقتباس باستور لنظريّات شاعرنا وعالمنا العبقري ذاك أيّام تردّده على مدرسة اللغات الشرقيّة في باريس، ودراسته لكتاب ابن منظور في أخبار أبي نواس. إنّه الكتاب الذي حظرت الحكومات العربيّة طبعه وتداوله بين الناس بتأثير مؤسسة باستور الواسعة النفوذ. ولسوف أفضح كذلك سرّ الصداقة التي انعقدت بين بهرنغ مكتشف المصل المضاد للخنّاق وبين المستشرق الألماني نولدكة، تلك الصداقة التي كانت نتيجتها سرقة بهرنغ بنات أفكار أبي نواس نفسه فيما يتعلّق بتحضير المصول الشافية من الدفتيريا وبصنع اللقاحات الواقية منها ومن أمراض خطيرة أخرى.

والبحتريّ، ذلك البحّاثة العظيم في العلل القلبيّة، لا نرى أحداً يذكره اليوم، كأنّه لم يُنشئ الأبحاث الضافية في التغيّرات التي كثيراً ما طرأت على قلب مريضته المشهورة (علوة) الحلبيّة.

ويجدر بنا أن نذكّر أطبّاء الجيل الحاضر بأنّ سلفهم العبقريّ هذا هو أوّل من أبان العلاقة التي تربط العين بالقلب، وهي التي ندعوها اليوم بلساننا العصريّ المنعكس العيني القلبي، وذلك في قوله:

تزوّدت منها نظرة لم تجد بها

وقد يؤخذ العلق الممنّع بالغضب

وما كان حظّ العين في ذاك مذهبي

ولكن رأيت العين باباً إلى القلب

وجدير بنا أن نطلق على هذا المنعكس اسم منعكس البحتريّ. إذ ليس هذا الطبيب الشاعر أقلّ جدارة في هذا المجال من وستفال ورومبرغ وبابنسكي وسواهم ممّن نغدق أسماءهم على المنعكسات والعلامات والتناذرات في دراستنا للأمراض العصبيّة.

إنّ الشرح ليطول لو ذهبنا نعدّد مآثر الشعراء العرب في فنون الطبّ. فهل هناك عالم أو بحّاثة وصف الحمّى بأبدع ممّا وصفها المتنبّي؟ أو من درس تشوّهات العمود الفقريّ كدراسة ابن الرومي لها؟ ومع ذلك فإنّك لا تجد في كتبنا أو بين باحثينا من يذكر أسماء هؤلاء الفطاحل، بل تجدنا نستشهد بأقوال أناس غرباء لم يفعلوا شيئاً غير أنّهم نقلوا معلومات من اللغة العربيّة إلى لغاتهم الخاصّة، وادّعوا نسبتها إليهم. وهذا مع الأسف هو شأن الحقيقة في كلّ زمان ومكان، نراها عندنا مهملة ومستنكرة، فيما يفوز الأدعياء بالشهرة والمكاسب.

على أننّا في العصر الحاضر، على كثرة ما اقتبسه علماء هذا العصر من أولئك البحور الزاخرة، وعلى كثرة ما في أيدينا من الوسائط والآلات، ما نزال على جهل مطبق بالنسبة لازدهار العلم في أيّام العرب الأقدمين. ما تزال أمامنا مراحل لكي نوازيهم، فكيف بأن نسبقهم؟ نحن على جهل كبير بكثير من المعلومات المفيدة التي كانوا واقفين عليها، ومطبّقين لها في مختلف مجالات الحياة. انظر مثلاً إلى ما يقوله العبّاس بن الأحنف في صدد عمليّات تحلية المياه، أعني تحويل الماء الأجاج إلى ماء عذب بأسهل طريقة، وقل لي ما هو مبلغ علمنا الحالي عن الوسائل المستعملة في ذلك التحويل.

قال العبّاس بن الأحنف:

جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى

وفاض له من مقلتي غروب

وما ذاك إلاّ حين خُبّرتُ أنّه

يمرّ بواد أنت منه قريب

يكون أجاجاً ماؤه فإذا انتهى

إليكم، تلقّى طيبكم، فيطيب

فيا ساكني شرقيّ دجلة كلّكم

إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

وإنّ الروح العلميّة لتتجلّى واضحة في البيت الأوّل من هذه المقطوعة. فالعبّاس بن الأحنف، ويبدو أنّه كان مهندساً كيماويّاً، يبكي شوقاً لمعرفة طريقة تحلية المياه التي يتّبعها مخاطبه. فأيّ منّا اليوم يبلغ حبّه للمعرفة هذا المبلغ؟ الجواب: لا أحد!

ثمّ انظر إلى ما يقوله المتنبّي، واصفاً نوعاً من الآلات القاطعة، التي كانت على ما يبدو، مبذولة في أيّامه، ولكنّنا مع الأسف لا نعرف عنها شيئاً، مع حاجتنا الماسّة إلى أمثالها في عمليّاتنا الجراحيّة. يقول المتنبّي:

كم قتيل كما قتلت شهيد

ببياض الطلى وورد الخدود

وعيون المها ولا كعيون

فتكت بالمتيّم المعمود

راميات سهاماً ريشها الهدب

تشقّ القلوب قبل الجلود

فأين نجد اليوم هذه السهام التي تشقّ القلوب قبل الجلود؟

إنّ أستاذنا البروفيسور لوسركل ليبحث عنها بالسراج والفتيلة، فلا يعثر لها على أثر، ففي هذا العصر الذي وصل فيه فنّ الطهارة والتطهير، الآسبسيا والأنتيسيبسيا، إلى ذروته، ما نزال نتطلّع إلى أدوات تجنّبنا دخول الجراثيم الموجودة على سطح الجلد إلى داخل الجريحة، وهذا لا يتأمّن إلاّ إذا استطعنا الوصول إلى الأحشاء دون شقّ الجلد الساتر لها. وقد كان هذا الأمر باستطاعة أجدادنا، أمّا نحن ففي عجز تامّ عن القيام بذلك، أليس هذا من التقصير، بل من الخزي بمكان مريع؟

ولنستمع بعد ذلك إلى ما كانت ترتجز به أمّ حكيم الخارجيّة.

كانت -رحمها الله- تحمل على أعدائها وهي تقول:

أحمل رأساً قد مللت حمله

وقد مللت دهنه وغسله

ألا فتى يحمل عنّي ثقله

أحسبكم توافقونني على أنّ في هذا الكلام دليلاً قاطعاً على أنّ العرب الأقدمينيملكون وسائل تتيح لهم رفع الرأس من مكانه إذا تعب صاحبه من حمله، ثمّ إعادته إلى ذلك المكان بعد أن يستريح.

نحن اليوم لا نملك أيّ معرفة بتلك الوسائل، فكتبنا التي ننقلها عن الأجانب وعلومهم السطحيّة تؤكّد لنا أنّ الروح تفارق الجسد بمجرّد فصل الرأس عنه. فكيف يصحّ ذلك بصورة مطلقة، وأمّ حكيم تريد رفع رأسها عن جسدها لمجرّدأنّها تعبت قليلاً من حمله، لتعيده إلى مكانه بعد ذلك؟

هذا في الواقع يؤكّد على منزلة تلك المرأة في الطبّ والمداواة ممّا جعل مشاهير الأطبّاء والنوابغ والعلماء يشيدون بقدرتها في هذا المجال، ويردّدون اسمها بكلّ إجلال.

مثال ذلك ما قاله قطريّ بن الفجاءة منوّهاً بتفوّقها على فحول النطاسيين:

لعمرك إنّي في الحياة لزاهد

وفي العيش، ما لم ألق أمّ حكيم

من الخفرات البيض لم ير مثلها

شفاء لذي بثّ، ولا لسقيم

أيّها السادة، هذا قليل من كثير ممّا سجّله الشعر العربيّ عن مآثر العرب في العلم والطبّ والأدب، التي اشترك في صنعها نساؤهم ورجالهم، جاهليّوهم والمسلمون منهم. ولولا ضيق الوقت لأطنبت في الحديث إليكم عن تلك المآثر وفصّلت. ولكنّي أردت هذه الكلمة المقتضبة عبرة لمعتبر، وذكرى لمذكّر، والله من وراء القصد، والسلام عليكم.

1943

* (نصّ محاضرة ساخرة كتبها الطالب عبد السلام العجيلي، عام 1943، أثناء دراسته الطبّ في جامعة دمشق)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة