Culture Magazine Monday  05/05/2008 G Issue 246
فضاءات
الأثنين 29 ,ربيع الثاني 1429   العدد  246
 

مساقات
صولجان الصوت!
د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

 

-1-

كثيراً ما تعكس جدليَّاتنا الثقافيَّة أمراضنا الحضاريَّة. فمن الناس من يخيَّل إليه أنه يتبنَّى أفكاراً تنويريَّة، إلاّ أنه في الواقع يطرحها بالعقليَّة المتطرِّفة السائدة نفسها؛ العقليَّة الحدِّيَّة، التي لا تقبل الحوار مع المختلف، فليس رأي صاحبنا صواباً يحتمل الخطأ مطلقاً، بل الصواب لا يعدو ما يقول، أو قل: ليس هناك رأي غير رأيه يستأهل الإصغاء إليه أصلاً، فالرأي واحد، والصوت واحد، لا صوت يعلو عليه، سواء أشرَّق أم غرَّب، أكان محافظاً أم سمَّى نفسه تنويريّاً. ولو أمسك من يسمّي نفسه تنويريّاً من هؤلاء بصولجان السَّلطة، لما كان أقلَّ إقصاء للمختلف عنه في الرأي والفكر ممَّن يشكو إقصائيّتهم من المحافظين؛ لأن العقليَّة هي العقليَّة ذاتها لدى الاثنين. وستلحظ ذلك حتى في المستوى الفيسيلوجي، من رفع الصوت، والاعتماد على الصراخ، والمقاطعة لوجهات النظر المختلفة، وعدم إتاحة المجال للمتحدِّث الآخر ليعبِّر عن رأيه، ونحوها من المظاهر التي يتميَّز بها عموم خطابنا العربي والإسلامي بامتياز، على الرغم من منهاجنا القرآني، الذي لم نأخذ به قط منذ جاء: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (19) سورة لقمان. و(صوت الحمير) هاهنا ليس لأن صوت الحمير نهيق مزعج؛ ولكن لأنه (صوت حمير) في نهاية النهيق، لا جمال ولا معنى، وإن كان صوتاً يطغى على سائر الأصوات.

وفريق آخر لا يعتمد على جهارة الصوت، ولكنه يبدو متشنّجاً دائماً، متقبّضاً، متشكّياً، متبرّماً من كلّ شيء، لا يرى إلاّ نصف الكأس الفراغ، قد انحصر عقله في جزئيّات يراها كليّات، وبعضها لا تعدو هموماً شخصيّة، يُدلي بها إدلاءَ من ينافح عن قضايا الأُمّة الكبرى، وإنْ كان لا يدافع إلاّ عن قضايا أُمّه الصغرى. قد يفتعل ذلك ليَظهر بمظهر الثوريّ، المنتفض على كلّ شيء، ما يفتأ يفتّش عن فرقعات فقاعيّة، لكي يقال عنه، وإن لم يُقَل، في فردانيّة وعشقٍ للأضواء. ومثل هذا كذلك يمتح من عاطفته الشخصيّة، وحبّه الذاتيّ للظهور، لا يمثّل بحال عنصراً بانياً في بثّ خطاب سويّ معتدل، بل هو مثير غبار، مضرّ بالقضايا التي ينادي بها. وهو رافض لمبدأ الالتقاء والحوار والاختلاف والتنوّع، من حيث هو بدوره لا يرى في مخالف رأيه إلاّ عدوّاً لدوداً، وجاهلاً أعمى، وفاتكاً ظلوماً، لا سبيل إلى تحسين أوضاع المجتمع والثقافة إلاّ باجتثاث شأفته من جذورها، فإن كان نقيضه إسلاميّاً فهو: إرهابي طالباني، وإن كان غير ذلك فهو: علمانيّ مارق! وهكذا في دوّامة من التنابز بالألقاب، والتصنيفات، والنعوت، والعنف اللغوي. وكلٌّ ينتقد الألقاب والتصنيفات إنْ كانت تمسّه، حتى إذا خدمت مآربه أجازها لنفسه واستعملها في حقّ غيره، وبحرارة!

وجدلٌ كهذا لا يُنتج ثقافة ولا وعياً؛ لأنه أصلاً لا يَنشد الحقيقة، ولا التنوير، وإنما يَنشد الانتصار للذات، وما يخدم قضاياها الصغيرة. كِلا الطرفين يَمْتَحَان من بئر واحدة، هي بئر التعصب، والقبيلة، والتيّار، والإيديلوجيا، التي تعلو على صوت العقل، أيّ عقل. لا فرق هناك بينهما؛ فالهموم نفسها، والعقليّة ذاتها، ولكنْ كلٌّ من وجهته، وبحسب مصالحه، وأهدافه، وإستراتيجيّاته. فهل نرجو خيراً من هؤلاء أو هؤلاء نحو رؤية ناضجة، معتدلة، تؤمن بالتنوّع والاختلاف والتعايش؟ إنْ كِلاهما إلاّ تقليديّ حتى النخاع، يسير في قطيعه وقد باع له عقله وروحه.

ومن هنا لا تثمر حواراتنا على شتّى المستويات إلاّ مزيداً من الشقاق، والتباعد، والتراشق، وإيغار الصدور؛ لأن الحوار لا يمكن أن ينشأ إلاّ بين أصوات عقول، تبحث عن الحقّ حيث كان، لا عن الغَلَبة بالصوت؛ أصوات عقول تبحث عن معنى الخير والحقّ، لا عن سواه من الأغراض. وما لم يتحلّ المتحاورون بهذا الخُلق التربويّ، وعلى نحو حقيقيّ لا مصطنع، فلا مستقبل حضاريّاً منشوداً، ولا تلاقح أفكار صحيحاً، ولا التقاء على سواء. إن إشكاليّاتنا الثقافيّة والحضاريّة لا تكمن في الأفكار أو في طبيعتها، ولكن في منهاج التفكير فيها، ومعالجتها، والتفاعل معها.

- 2 -

وقد أشرنا في المساقات السابقة إلى بعض تلك الجدليّات حول بدهيّات اللغة، وإلى بعض الممارسات والقرارات المتّخذة بحقّها دون رويّة أو حوار. وطرحنا في المقابل نموذجاً على بعض الوجبات اللغويّة والأدبيّة الفاسدة التي تُقدّم إلى الطلبة في تعليمنا العامّ، ورأينا أنه يقع عليها الإثم الأكبر في ما تُنعت به العربيّة من صعوبة والتواء، وفي ما ينحطّ إليه الذوق الأدبيّ العامّ لدى الناشئة. فلا ملام بعد هذا إنْ اتجه بعضٌ إلى اللغات الأجنبيّة، وشُغف بها حبّاً، أو حتى إلى العاميّة العربيّة، يَنشد فيهما اللغة الحيّة، التي لم تعبث بها عصور الانحطاط اللغويّ والفكريّ والأدبيّ، التي رانت على ثقافتنا العربيّة.

ومهما وقع الجدل والخلاف، فإن سؤال اللغة يظلّ أثبت ثوابت الأسئلة في أيّ أمّة حيّة. فإذا كنّا نتغنّى بثوابتنا، ونزج بعاداتنا وتقاليدنا في جملة تلك الثوابت، فإن اللغة كان يجب أن تكون أُولى تلك الثوابت. وربما رأى بعضٌ أن ذلك في العربيّة مؤيّد بسلطان أرضي وآخر سماوي. الأرضي، يتمثّل في أن اللغة هي أول ثابت في أيّ أُمّة، مهما آمنت بالمتغيّرات. الخطأ في الإنجليزيّة، كما يعلم عشّاقها، بمثابة سبّة في أصالة المتحدّث بها: (في أصالته من حيث المحتد والانتماء إلى الأُمّة الإنجليزيّة)، وكذا الفرنسيّة، والألمانية، ومختلف اللغات الحيّة، إلاّ العربيّة، المغلوبة على أمرها! وهي أوّل الثوابت بسلطان سماويّ أيضاً، كما يرى هؤلاء، متمثّل في ارتباط اللغة العربيّة بكلام الله ووحيه، وبالإسلام جملة وتفصيلاً، ومن أَحْسَنُ من الله قيلاً؟! وهل أقدس من لغة شرّفها الله برسالته ووحيه، ولسان خاتم أنبيائه ورسله وكتبه، وجعلها رباطاً كونيّاً بين جميع المسلمين؟!

ومن هذه المنطلقات فإن قرار تعليم لغةٍ غير اللغة الأُمّ، وفي سنّ الطفولة المبكّرة، هو من أخطر القرارات التحوّليّة. وهو ذو آثار سلبيّة جذريّة، تضرب في صميم الهويّة، والسيادة الوطنيّة، والانتماء القوميّ، والاستقلال الثقافيّ، وربما دَشّن المرحلة الأولى للاغتراب والهجرة. ولقد أشرنا من قبل إلى أن اللغة هي أوّل مقوّمات الإنسان، وعليها يتشكل ذهن الطالب فكراً وانتماءً. وليس يُغني عن وضع القوانين والأنظمة الكفيلة بحماية اللغة الأُمّ تذرّعُنا بأن ذلك تحصيل حاصل- وما هو بحاصل!- وأنه موجود في دستور البلد أو نظامه العامّ. فالدساتير العربيّة تنصّ عادة على أن اللغة العربيّة هي اللغة الرسميّة، ولكن ما أكثر ما يقال ولا يفعل في دنيا العرب (الشاعرة)! والتعليم هو لُبّ البناء والهويّة والانتماء في أيّ دولة.

وفي ضوء التحدّيات الراهنة للعرب في لغتهم، وفي ظلّ عولمة (أمركة) مستكلبة، تسعَى إلى عولمة النفوس والعقول، كي تكون لغة الغالب هي لغة المغلوب- ممسكة بصولجان الصوت واللغة الواحدة، على حساب التنوّع اللغوي والثقافي في العالم- كان لا بدّ أن يكون التعليم هو خطّ الدفاع الأوّل عن هويّة الجيل المتعلّم.. فهل كان كذلك أم سيكون؟!

ثم ما لنا- في هذا السياق- نفرّق بين اللغة والشريعة؟ حتى لقد ترى من يدّعي الاختصاص في الشريعة هو من أردأ الناس لغة، وأقلّهم انشغالاً بشأنها، وغيرة عليها، وقدرة على الفَهم بها والإفهام! على الرغم من أنّ اللغةَ قَبْلَ الشريعةِ ضرورةً؛ إذ لا قيام للشريعة بلا تمكّن في اللغة، ومن فرّق بينهما فقد ارتكب حماقة معرفيّة لا يُحسد عليها. وفي هذا يقول (الجاحظ)(1): (للعرب أمثالٌ، واشتقاقات، وأبنية، وموضع كلام يدُلُّ عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع أُخَرُ، ولها حينئذٍ دلالات أخرى، فمن لم يعرفها جهل تأويلَ الكتابِ والسُّنَّة، والشاهد والمثل؛ فإذا نظَر في الكلام وفي ضروب العِلم، وليس هو من أهل هذا الشأن، هلَك وأهلَك). (وللكلام صلة).

(1) (د .ت.)، الحيوان، تح. عبد السلام محمد هارون (مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 1: 153- 154.

* (عضو مجلس الشورى) aalfaify@yahoo.com http://alfaify.cjb.net


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة