Culture Magazine Monday  12/05/2008 G Issue 247
فضاءات
الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1429   العدد  247
 

حاتم الطائي:
العودة إلى التاريخ.. قبل مغيب الشمس!«1»
د.عبدالله مناع

 

 

عندما دعيت إلى التحدث إلى ناديكم ب(نخبة) من الأفاضل والفضليات، و(أبنائه) من السادة والسيدات.. كنت رغم سعادتي ب(الدعوة) وحرصي على تلبيتها أقاوم رغبة مكبوتة في الاعتذار عنها.. سبق أن استسلمت لها لتعلن في النهاية عن نفسها عبر اعتذاراتي عن كثير من المناسبات المماثلة وغيرها. رغبة تهمس لي: بأن ما يليق بمن أتحدث إليهم، وبي.. لا أستطيعه، وأن ما يليق بي وبهم.. لا أقبله، ثم تتركني لاختار.. أو لأحتار بينهما.. ليكون الاعتذار في النهاية: صمتا.. لا يليق، أو تناسيا.. لا يغتفر..!!

لكنني أحسب أنني أفلحت هذه المرة في التغلب على تلك الرغبة المكبوتة التي تضع أمامي وعلى الدوام عراقيل الخشية فتكربني وتربكني بها، وكان الفضل في هذا بداية ل(رجلين) من هذه الأرض الأبية الشماء. أولهما: الحاضر الغائب.. عاشق حائل الأول، المشتعل حرقة على عروبته: الأستاذ فهد العريفي.. الذي شغل معظم سني حياته بغرس (الكلمات) في وجدان هذا الوطن على اتساعه، وثانيهما: عاشق حائل الأول مكرر. المزارع والبناء.. فيما يقول ويفعل، الذي كان وما يزال يغرس أشجارا في ترابه، هو الشيخ علي بن محمد بن جميعة، ثم لتلك الصفوة من أبناء وشباب حائل الذين التقيت بهم وعرفتهم وعرفوني.. وجها لوجه، وعقلا لعقل، وقلبا لقلب.. عبر زياراتي السابقة الثلاث إليها، لقد كانت وقفة الاعتذار لو أنني أقدمت عليها شيئاً فوق الاحتمال!! كانت وكأنها خيانة ل(مشاعر) راقية من الحب الخالص للوطن، لا يصح أن تمس إلا بالسقيا والرعاية ودفء العناية.. إلا أن (أزمتي) بين ما يليق بكم وما لا يليق، وما يصح لمثلي وما لا يصح.. بقيت عالقة، فلست من مدرسة الفن ل(الفن) في الأدب وفنونه.. كما أنني لست من دعاة الكلام للكلام في (الفكر) وفي (السياسة).. حتى أخرج ب(حديثي) هذا عن دائرة أزمات الأوطان العربية بمفرداتها واختلافاتها أو أزمة الأمة مجتمعة وهي تواجه مقدمات اضمحلالها وانهيارها فزوالها، لتصبح بعد حين على رأس قائمة الأمم التي سادت ثم بادت.. أو الحضارات التي سطعت ثم انطوت، وهما الأمران اللذان يحطان على عقلي وقلبي ويؤججان حرقتهما.. فكان أن آثرت العودة بحديثي هذا إلى تاريخ العرب قبل أن تغيب شمسه وشمسهم، لأطلق صرخة عربية جديدة لعلها تجد من يسمعها. من يعيها. من يفهمها، بعد أن أطلق شاعرنا الكبير نزار قباني قبل أربعة عشر عاماً سؤاله الدامع والرائع في قصيدته الشهيرة: (متى يعلنون.. وفاة العرب).. قائلاً:

(أنا منذ خمسين عاماً

أحاول رسم بلاد

تسمى - مجازاً - بلاد العرب

رسمت بلون الشرايين حيناً

وحيناً رسمت بلون الغضب

وحين انتهى الرسم، ساءلت نفسي:

إذا أعلنوا ذات يوم وفاة العرب..

ففي أي مقبرة يدفنون؟

ومن سوف يبكي عليهم؟

وليس لديهم بنات..

وليس لديهم بنون..

وليس هنالك حزن..

وليس هنالك من يحزنون!!)

..فتنادى المتحذلقون، المنافقون.. بالإطاحة برأسه، وبقر بطنه، وتمزيق جسده أشلاء، دون أن يفهموا.. ودون أن يعوا شيئاً مما قاله فيضعوه في إطاره الصحيح؟.

إخواني وأخواتي:

كان المكان بين هذين الجبلين العظيمين الذين سأقصدهما: (أجا) و(سلمى).. موحياً ب(الاختيار) بين صفحات ذلك التاريخ العربي المثقل بالفكر والرؤى والأحلام الإنسانية المحلقة التي تقارب الأقدمون على تسميتها بالعصر الجاهلي، ربما خوفاً من تهمة الشرك.. إن هم أنصفوها، وربما طمعاً في القربى من الإسلام والتوحيد.. إذا أدانوها، ولم يكن بين هذين الجبلين - اللذين يبلغ طول أولهما مئة وعشرين كيلا وعرضه خمسة وعشرين كيلا وارتفاعه عن سطح البحر ألفا وثلاثمئة وخمسين متراً، وطول ثانيهما ستين كيلا وعرضه ثلاثة عشر كيلا وارتفاعه عن سطح البحر ألفاً ومئتي متر- وتقوم على ذراهما حياة عريضة.. وافرة المياه، كثيرة الثمرات، عذبة المقام.. تغنت بها إحدى صباياها قائلة:

(لبرقٍ على سلمى وأعلامها العلى

أقر لعيني وأشفي لما بيا)

فلم يكن بين هذين الجبلين.. من يتقدم ذلك اليتيم النبيل: حاتم الطائي.. قيمة وخلقاً، شجاعة ومروءة، سمواً وفكراً إنسانياً جماعياً مبكراً.. سبق به أنبياء الاشتراكية ودعاة حقوق الإنسان قبل مئات السنين، لأعبر من خلال استرجاع حياته مفكراً وإنساناً لا شاعراً أو عاشقاً.. إلى ال(ذاكرة) العربية التي تلوثت وتوحلت فتبدلت.. ثم استسلمت ل(الوهن).. لحب الدنيا وذهب المعز قبل أن تغيب شمس العروبة تماماً، وينداح الشفق ويدلهم الليل.. فلا تدري في ظلمته.. لا أين هي..؟ بل.. من هي؟!

فلعل هنا أو هناك.. من يسمع؟ ولعل هنا أو هناك من يعي؟ ولعل هنا أو هناك من تصحو بقايا ذاكرته. ف(الفرد) وفي كل الأزمان وأحقاب التاريخ قد يقيل عثار أمة.. والأمة قد يدفعها إلى التردي تهالك جموعها..! ف(بسمارك) كان فرداً وغاندي كان فرداً و(ديجول) كان فرداً، و(عمر بن عبدالعزيز) كان فرداً، وطارق بن زياد كان فرداً وعبدالرحمن الفاتح.. كان فرداً .. الخ.

فمن هو (حاتم).. هذا اليتيم النبيل العربي الذي يمكن من خلال الإطلالة على حياته وفكره.. إيقاظ ذاكرة أمة تعيش مقدمات اضمحلالها ومواتها؟

إنه حاتم بن عبدالله بن سعد بن الحشرج.. من قبيلة طيء القحطانية التي نزحت إلى الجبلين بعد انهيار سد مأرب.. واستقرت في قرية (توران) الشهيرة بمنازلها الجملية، وقصورها التاريخية القديمة.. عندما كانت أرض العرب.. أرضاً واحدة لا حدود ولا حواجز بين أجزائها، فكانت تلك القرية مرتعاً لطفولة وصبا حاتم.. كما كانت بيته وموقده ومرقده - فيما بعد - على قول إلا أن المتواتر على ألسنة المؤرخين.. أن قبره يوجد في (القرية) في أسفل مدينة حائل، وقد كان والده عبدالله بن سعد بن الحشرج أحد سادات قبيلة طيء، وقد مات وترك حاتماً.. قبل أن يبلغ الحلم، فرعاه جده لأبيه إلا أنه كان أول من اختلف معه حول (المال)، أما أمه.. فهي عتبة بنت عفيف.. إحدى فضليات سيدات الجزيرة العربية المنسيات: التي أرضعت ابنها (حاتم).. ليس لبان الحياة.. ولكن لبان الشجاعة والشهامة والإنسانية المغدقة حتى قيل إنها أكرم من ابنها.. وحتى حجرت عليها شقيقاتها، وعندما رفعن الحجر عنها.. بعد زمن ظنن أنه كاف لأوبتها عن كرمها المتهور، ووهبنها قطعة من الأرض.. فإذا بامرأة من هوازن تأتيها وتسألها وقد كانت تتردد عليها من قبل فوهبتها تلك القطعة من الأرض وسط دهشة واستنكار شقيقاتها.. وتساؤلاتهن عن فعلتها هذه لتقول لهن:

لعمري، لقدماً.. عضني الجوع عضة

فآليت ألا أمنع الدهر جائعاً

فقولا لهذا اللائمي: أعفني فإن

أنت لم تفعل فعض الأصابعا

وإذا كان المؤرخون والنسابة قد فشلوا في حصر وتحديد تاريخ مولده، فإنهم استطاعوا أن يقدموا صورة متفردة الأبعاد ل(شخصه).. فهذا هو (ابن العربي) يقول عنه: كان حاتم من شعراء العرب.. وكان جواداً يشبه شعره جوده، وكان مظفرا إذا قاتل غلب وإذا غنم أنهب (اقتسم مع الآخرين)، وإذا سئل وهب وإذا ضرب بالقدح فاز، وإذا سابق سبق وإذا أسر أطلق وكان يقسم بالله أن لا يقتل وحيد أمه، فإذا أهل شهر (الأصم) الذي كانت مضر تعظمه في الجاهلية.. كان ينحر كل يوم عشراً من الإبل فأطعم الناس واجتمعوا إليه، ليضيف أحد معاصريه المسمى ب(أبي صالح) كما يقول الأصفهاني في كتابه (الأغاني): وكان حاتم رجلاًَ طويل الصمت وكان يقول: إذا كان الشيء يكفيكه الترك فاتركه، لكن هؤلاء المؤرخين والنسابة الذين لم يدركوا يوم مولده.. أجمعوا على عام وفاته ورحيله، بأنه كان في مطلع القرن السابع الميلادي.. وعلى وجه الدقة في عام 605 بعد الميلاد، وهو ما يعني أنه عاش في زمن موغل في قدمه بعض الشيء.. إلا إنه ذات الزمن الذي شهد ذروة ثقافة وفكر الأمة العربية قبل مجيء الإسلام فهذا أول شعراء ذلك الزمن (زهير بن أبي سلمى) يقول:

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

وإن يرق أسباب السماء بسلّم

ومن يجعل المعروف في غير أهله

يكن حمده ذماً عليه ويندم

ومن يغترب، يحسب عدواً صديقه

ومن لا يكرّم نفسه لا يُكرم

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس.. تُعلم

.. ثم يقول:

(ولو أن حمداً يخلد الناس.. أخلدوا

ولكن حمد الناس ليس بمخلد)

وذاك شاعرهم الآخر (طرفة بن العبد).. يقول:

فما لي أراني وابن عمي مالكا

متى أدن منه ينأ عني ويبعد

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهند

فلو شاء ربك كنت قيس بن خالد

ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وهذا أعظم وأنبل شعرائهم امرؤ القيس.. يقول:

أجارتنا أن المزار قريب

وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا أنا غريبان هاهنا

وكل غريب للغريب نسيب

.. وهذا شاعرهم.. (عمرو بن كلثوم) يقول:

إذا ما المُلكُ سام الناس خسفاً

أبين أن نقر الظلم فينا

*****

* محاضرة كان مقرراً إلقاؤها في نادي حائل الأدبي، ثم اعتذر المحاضر وتنشرها (الثقافية).

-جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة