Culture Magazine Monday  13/10/2008 G Issue 256
فضاءات
الأثنين 14 ,شوال 1429   العدد  256
 
سجادة خضراء إلى أمي
غادة عبد الله الخضير

 

 

سجادة خضراء إلى أمي:

وكان الأخضر يا أمي , لون الدعاء ولون البركة , ولون تلك الكلمات التي كنتِ تقولينها لي دوماً (يا غادة ربي يجعل طريقك اخضر) وكنت ابتسم لبراءة الدعوة وبساطتها , حتى كان الأخضر يا أمي , لا حتى جاء الأخضر يا أمي منتقلاً من سجادة الصلاة التي كنتِ تضعين عليها جبينك الذي اشتاق , إلى هذا البراح الذي أعيش فيه , ويلفني كل صباح بدرجات الأخضر وإغراءات زهوه وحريته , إلى هذه السجادة الخضراء التي لها أن تكون كجبين لا يبارح الأرض ولا يتوقف عن الدعاء.

كنت وقتها في طريقي المعتاد إلى الجامعة , توقفت فجأة وأنا بين المارة وابتسمت , عندما وجدت الأخضر يعانق الأخضر , كان الشجر يا أمي يتباهى باللون , يتباهي بالورق الذي يحرضه الهواء على الابتسام , حقيقة ضحكت ودمعت عيني ووقفت كثيراً أتذكر ابتهالك , وأتذكر تاريخ الأخضر في تاريخك , وتاريخ الياسمين والكروم (وفخاريات) الجوري التي لها بعض نبض قلبك.

تعرفين يا أمي..

أفكر أحياناً أن كل أنثى لها تاريخ مع الأخضر , هي أنثى من صبر وحكمة , أنثى لها جذور ضاربة في الأرض أن فتحت كفيها للسماء نبتت دعوة واستجابة. إذن , كثير من دعاء يا أمي أن يصل الأخضر إلى قلبي , أن تنبت فيه زهور القناديل ودوار الشمس , أن يخترقه نهر من اليقين , وان يمتد فيه جسر من الإيمان إلى الطمأنينة , وان يغفو كل ليلة على نوايا الكرامة والضمير.

غصن أخضر إلى روحه:

بعدما انتهى تاريخ الكتابة لك , قررت جدياً أن لا اكتب عنك , أن أضع للأبجدية التي تخصك فصل نهاية , وأتوقف عن خلق مناجاة هي أشبه بالهلوسة لا اكثر. لكن الأخضر اليوم فتح شهيتي للكتابة , وربي فتح شهيتي للكتابة , (للحكي) عن الأخضر للبياض , وللمساحات الفارغة كـ ليال اجترار؛ ما دونته الذاكرة عن روح الذكريات.

أعدك: لن أدمع.

أعدك: لن أخذ نفساً عميقاً بين جملة وأخرى.

أعدك: لن يأخذني (السرحان) إلى نقاط نهايات القصص. لكنه الأخضر ودون دراية مني ,. نشر بساط ربيعه في الذاكرة , حتى قادني إلى وجهك الذي أحببت , وجهك الذي ما ان أخذه الموت حتى صارت أبجديتي (تحوقل) على مجدها , كأنما وجهك كان سند للحرف وحماية , كأنما كان محبرتي , كأنما كان (فانوساً) سحرياً ألمسه بأصابعي العشر فيهبها مارد المعنى.

حضور وهجك هذا الصباح جعلني على علم كيف أن الغياب يباس , والموت يباس , وان الوحدة ليست إلا مجاملة على عجل , أو نفور على مهل.

هل وعدتك: ألا أدمع؟

هل وعدتك: أني لن آخذ نفساً عميقاً بين جملة وأخرى؟

هل وعدتك: أن لن يأخذني (السرحان) إلى نقاط نهايات القصص؟

سامح الله الأخضر..!!

لكني: أشتاق..

ورب السماء..

ورب الأرض..

ورب الأخضر..

ورب الشجر والظلال..

ورب الأغصان التي تنتهي بالثمر..

ورب العصافير التي تنقر العنب..

ورب هذا الصوت الذي تتركه الريح على وجه الأوراق..

يا أيها الأخضر.. كفى..!!

شوق أخضر إلى نور وجهها:

لم تكن الرياض مغطاة بالأخضر..

بهذا التنوع من الزهور والأنهار التي تشق قلب الملل.. لكنها كانت بساط ممتد لتلك الأيام التي زرعنا فيها ما حصدناه حباً واقتراب.

كانت روحك خضراء.. يمتد إليها ومنها ألف غصن رطب , وعدد لانهائي من الأوراق المبتلة, كنتِ كالعصافير توقظين الصباح , وتسدلين ستار الليل على مساحات من هدوء.

الأخضر هنا.. جدد (حس) غيابكِ , جعلني أفتح أبواب الذاكرة الصوتية , لاسترجع نبرة أسمي في صوتك , وقائمة النصائح التي تهذبين من خلالها سيرة النسيان عندي.

الآن أنا هنا.. وأنت هناك.. والرياض بعيدة عن سعينا.. نستحضرها إلى الذاكرة كي نصنع حوارا طويلا جدا عن أيام مضت.. فنجعلها خضراء مورقة باردة.. نلبسها النهر كـ قلادة على صدرها , ونزين جبينها بالزهور.

يفتقدك قلبي.. وأحن إليك كحمائم الدار.. قولي لي إننا ذات عودة سنتحدث طويلاً عن الأخضر..

إننا سنقول كلاماً كثيراً وببطء شديد عن الغربة والحنين..

وسنضحك.. كثيرا سنضحك... حتى نعمر الذاكرة بالصوت والنبرة من جديد.

13


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة