Culture Magazine Monday  13/10/2008 G Issue 256
فضاءات
الأثنين 14 ,شوال 1429   العدد  256
 

المكان والخطاب
سحمي الهاجري

 

 

تكتسب الرواية قدراً من دلالتها بوصفها سرداً معارضاً لخطاب خاص, ينشط في مكان موصوف؛ من هنا, أولت الرواية المحلية المكان عناية كبيرة. في رواية (الإرهابي 20) - مثلاً - يبدأ النص بكلمة (المكان) مفردة لوحدها في سطر كامل, ثم يشرع الراوي في توجيه وصف المكان: (لا يليق بأبها إلا أن تكون قرية, مهما ملؤوها بأعمدة الضوء, والبنايات والشوارع الإسفلتية والمتاجر والأسواق. إنها قرية على طريقة المدن, مثل تلك الفتاة الريفية التي ألبسوها ثياب المدينة إلا أنهم لن يستطيعوا تغيير جسدها الريفي ). والمكان بهذه الصفة الهجينة, يمهد للأحداث التالية, ويؤكد مقدماً ترابط طبيعة المكان وطبيعة الخطاب الذي يشتغل فيه.

وإذا أردنا أن نبدأ من النقطة الأكثر وضوحاً - كما هي طبيعة البدايات - نجد أن الروايات - من الناحية الإحصائية - ركزت أولاً على المكان العام, ربما لارتباطه بالخطاب العام؛ ولهذا نجدها تضع مدينة الرياض في المقدمة, بوصفها مكاناً رئيساً, وتخصها بنصيب وافر من الروايات, مثل: الشميسي, وجراح الذاكرة, والقارورة, وسقف الكفاية, ورعشة الظل, وقلب من بنقلان, وبنات الرياض, وبنات من الرياض, وشباب الرياض, والانتحار المأجور, وكائن مؤجل, ومفارق العتمة, وعرق بلدي, وعودة إلى الأيام الأولى, والبحريات, والمطاوعة, وهند والعسكر, وحب في السعودية, والأوبة.

وجاءت مدينة جدة في المرتبة الثانية, بروايات منها: اللعنة, ومدن تأكل العشب, والكراديب, والأيام لا تخبئ أحداً, والفردوس اليباب, والطين, وستر, وميمونة, ومزامير من ورق, ونباح, ولم أعد أبكي, وفسوق, وملامح, وغير.. وغير.

كما أن هاتين المدينتين, جاءتا مكاناً فرعياً في عشرات من الروايات الأخرى, لكثافتهما السكانية, ولما لهما من دور كبير التأثير؛ فالرياض عاصمة البلاد وعاصمة القرار, ورمز المرحلة, إضافة إلى أنها المدينة التي تجمع بين صرامة الظاهر المحافظ, وعمق التفاعلات الثقافية والاجتماعية الضخمة. وجدة بوصفها المدينة الثانية, والعاصمة الاقتصادية, المنفتحة ثقافيا واجتماعيا على العالم, كما هي طبيعة مدن الثغور.

وشكلت مدن المنطقة الشرقية؛ الدمام والخبر والقطيف والأحساء, كتلة متراصة, مثلت البيئة المكانية لعدد من الروايات المشهورة, مثل: العدامة, والغيمة الرصاصية, وغابت شمس الحب, والقران المقدس, والآخرون, وسعوديات, وسوق الحميدية. تأتي بعدها مكة المكرمة, ومنها أغلب روايات رجاء عالم, وميمونة, والحفائر تتنفس, وليلة هروب الزعيم.

وجاءت بعض المدن الأخرى مكاناً عاماً لعدد محدود من الروايات - على سبيل المثال لا الحصر - مثل: المدينة المنورة (وداعاً أيها الحزن, وجاهلية). والطائف (أكثر من صورة وعود كبريت). وبريدة (نقطة تفتيش, وعمر الشيطان). وأبها (الإرهابي 20)؛ بما يتناسب مع مقدار دور هذه المدن في إنتاج الخطاب الثقافي المحلي العام واستهلاكه.

وهناك عدد من الروايات التي اعتمدت أمكنة متعددة على مستوى العالم, فتجولت شخصياتها بين السعودية وبقية البلدان العربية وأمريكا وأوروبا وآسيا, بما يتوافق مع الأحداث المعروفة التي شارك فيها السعوديون في العقدين الأخيرين, وارتبطت في مستوى من المستويات, بطبيعة خطابهم الداخلي, الذي نقلوه معهم إليها. مثل: شرق الوادي, والعصفورية, وأبو شلاخ البرمائي, والقفص, وريح الجنة, ووضاء.

وعلى مستوى المدن العربية, يوجد عدد من الأمثلة الأخرى؛ بحيث تقدمت القاهرة (شقة الحرية, في عشق حتى, ونزهة الدلفين) على بيروت (صوفيا), والدار البيضاء (الجنية), وتونس (بين مطارين), والكويت (عيون على السماء). وكل المدن السابقة, إضافة إلى مدن أخرى على النطاق المحلي, أو العربي أو العالمي, حضرت بدرجة أو بأخرى, بوصفها مكاناً فرعياً أو مكاناً عابراً في عدد من الروايات الأخرى.

وشكلت القرى والأرياف البيئة المكانية الثانية بعد المدن, وأكثرها ترددا في الروايات قرى جبال السروات (أغلب روايات عبدالعزيز مشري, وصراع الليل والنهار, والحزام, ووجهة البوصلة, والمنبوذ), وقرى نجد (بعض روايات إبراهيم الناصر, وشرق الوادي, وأثل الدوادمي ولا نخيل العراق, وسيَّاحة الشقاء), وقرى جنوب تهامة (الموت يمر من هنا, وأنثى تشطر القبيلة, والسقوط), وقرى الشمال (فيضة الرعد, وجرف الخفايا), وقرى المنطقة الشرقية (نبع الرمان, والغربة الأولى).

وفي حين تحضر المدن بأسمائها الحقيقية لشهرتها وتفردها, ترد القرى بأسماء غير حقيقية, وإن كانت مناسبة لبيئة المنطقة التي تتبعها القرية. ويعزو الدكتور حسن حجاب الحازمي ذلك إلى سببين: (أحدهما: اجتماعي, فتسمية القرية باسمها الحقيقي سيجعل سكان القرية الحقيقية يبحثون عن صورتهم فيها, وهذا قد يفتح على الكُتَّاب أبوابا هم في غنى عنها. أما السبب الآخر فسبب فني يعود إلى حرص الروائيين على أن تكون القرية في العمل الروائي رمزاً لكل قرى المنطقة التي تنتمي إليها, والتي تتشابه في عاداتها وتقاليدها وهمومها ومشكلاتها وطريقة حياتها).

وشكَّل تضخم المدن الكبيرة (الرياض وجدة), أبرز مثال يُجسد ضخامة وتعقيد المتغيرات بصورة محسوسة؛ وبالتالي فمن أي زاوية يُنظر إلى المدينة, فثم دلالة صادقة على درجة التحولات, ودرجة تأثيرها, وغاية ما تستطيعه كل رواية, على حِدة, التركيز على جزئية مما تكتنزه المدينة؛ فروايات إبراهيم الناصر - مثلا - اعتبرتها مكانا للظلم وعدم المساواة, ورواية (بنات الرياض) نظرت إليها بوصفها مكاناً طبيعياً لخليط من البشر, وأنه لا بد من الاعتراف بمقتضيات التنوع, الأمر الذي يواجه بالإنكار اجتماعياً؛ لأنه يتعارض مع الرغبة العارمة في الانسجام والتماثل, ورواية (سعوديات) قدَّمت المدينة بوصفها بيئة للتفكك الأسري.. وهكذا.

ولكن مجمل الروايات بتراكمها, صارت تحاول أن تُقارب المدينة من زوايا مختلفة, وكأنها تريد أن تفرض سلطتها الخاصة, وتستولي على هذا الكائن الجديد بصورة تخييلية؛ لتتحكم في توجيه خياراته وقراراته, في مقابل تحكُّم الخطاب الاجتماعي فيه من الناحية الفعلية.

والمدينة بهذه الصفات, تعدى تأثيرها إلى الأمكنة الأخرى, في رواية (أو.. على مرمى صحراء.. في الخلف), كان للصحراء طبيعتها الخاصة, ومنظوماتها الحياتية والقيمية, ولكن المدينة تدخلت في هذه البيئة وشوهتها, وأرسلت إليها شركات الأعمال التي عبثت بها, وغيرت طبيعتها؛ بدءاً من تفجير الصخور والآبار بالديناميت, والعمالة الوافدة (الذين يلتقي بهم (السمسار) سراً في المدينة ثم يُهربهم إلى الصحراء.. لقاء عمل شاق وأجر زهيد). وتلوثت طبيعة الصحراء تبعاً لتلوث بيئتها الفطرية: (شركات من جنسيات متعددة فتحت ختم الأرض, فتدفقت الحفر من كل حدب وصوب. حفر للنفايات والفضلات, حفر لجلب الرمال إلى مصانع ضخمة مسيجة ومحروسة, حفر لدراسة طبقات التربة, جروف مستطيلة تطوق المعسكرات لمنع الإبل والفضوليين من أهل الديار من الدخول إلى مساكن العمال والتسلل إلى أماكن العمل, حفر للترويح عن هواة التزلج على الرمال, حفر لإنزال المعدات الثقيلة من على ظهور الناقلات, حفر للإيقاع بالذئاب والثعالب, حفر لأعمال لم تتم, حفر لأعمال تمت ولم تنجح, حفر للزيوت المحروقة والمواد الكيماوية المستنفدة).

واستخدمت الرواية تكرار كلمة (الحفر) للإشارة إلى التدمير المستمر والمنتظم لبيئة الصحراء؛ فالحفرة كلما أُخذ منها ازدادت ضخامة. وتحاول الرواية تلخيص حالة سكان البادية, في إطار هذا الوضع الجديد عليهم, حين تُطبق السيارة على (ضاوي) في الصحراء, فيظل محشوراً, مدة طويلة, بين الآلة الوافدة, وبين صحرائه, التي لم تعد ذلك المكان الذي تعود أن يعيش فيه على فطرته, في الزمن السابق, بعد أن غزاها خطاب المدينة أولاً, ثم فعلها ثانياً.

جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة