Culture Magazine Monday  13/10/2008 G Issue 256
ذاكرة
الأثنين 14 ,شوال 1429   العدد  256
 

لأن محمود درويش كان استثناءً
عبدالرحمن مجيد الربيعي

 

 

جاءني خبر وفاة الكبير محمود درويش من قطر، كنت أمشي على قدميّ في طريق مشجر لأسرح عروقي كما يقول أهلي التونسيون، فما بعد الستين كل الاحتمالات واردة وما علينا إلا أن نمتثل لما يقوله الأطباء لتتوازن المعادلات في الدم خشية الضغط والسكر والكوليسترول، هي مرحلة العدّ العكسي كما يسميها الصديق الروائي ياسين رفاعية.

رنّ الهاتف الجوال وجاء صوت وحيد الطويلة من هناك ليقول لي: أسمعت؟ ماذا؟ مات محمود درويش منذ ساعة.

كان الخبر مفزعاً بالنسبة لي، كأن محمود درويش ورغم أن الأعمار بيد الله لم يندرج ضمن المرشحين لموت. كيف وهو من عشاق الحياة الذين لا يرتوي ظمأهم (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) ثم يعدد الأسباب.

أعرف أن شرايينه قد أرهقته، وأن العناية الإلهية التي منحته الإلهام والإدارة ليكون واحداً من أكبر شعراء الأرض هي التي منحته في الوقت نفسه نوعاً قاتلاً من الكوليسترول الذي يوصف بـ(البلوري) الذي لا يفيد معه دواء ولن يذيبه (كريستور) وكل مشتقاته.

ألم يقل لأحد أصدقائه: كأنني أنتج الشعر بعقلي أما جسمي فينتج الكوليسترول البلوري! هكذا أو بهذا المعنى، ولذا كان محمود دائما في الخطر، أي (صفيحة) من هذا الكوليسترول من الممكن أن تقتله، وهذا ما حصل فقد تسبب الكوليسترول بجلطات دماغية قضت عليه ومازالت شرايينه بين يدي الطبيب يحاول إصلاحها.

نعم كأنّ محمود درويش خارج الموت أو أن ساعته لم تحن حتى العملية الجراحية التي قرأنا أنه سيجريها في هيوستن اعتبرناها تحصيل حاصل ومجرد استكمال لعمليته الباريسية التي خرج منها بعد احتضار وعاد إلى الحياة، عاد إلى الشعر وإذا كانت تلك العملية قد وضعته في متاهة موته فإنه عندما خرج منها خرج وهو لا يأبه بالموت ويراه عالماً ناعماً من قطن مندوف ناصع البياض.

لقد عرف الموت لذا لم يعد يأبه له، ويبدو أنه ذهب إليه في عملية (هيوستن) وهو لا يخشاه كأنه ذهب ليواجهه ليبارزه ليلعب معه (لعبة النرد) ولا يهمه إن هو خسر اللعبة إذ إن المهم بالنسبة له أنه تمتع بها.

لقد فزعت من النبأ الذي نقله لي صديقي الروائي الجميل الذي وصلتني روايته الجديدة (أحمر خفيف) التي قرأت بعض فصولها مخطوطة في مقاهي تونس الأثيرة له في المنار والنصر والمنزه.

ولم نتحدث عن الرواية بل تحدثنا عن محمود، أغلقت الهاتف واستدرت عائداً لأستزيد، لأعرف تفاصيل أخرى، اتصلت بعمان لأعرف شيئاً من أخي رشاد أبوشاور ولم أستطع الحصول عليه، واتصلت هنا بجمعة ناجي أخي وصديقي الذي يعرف محمود جيداً وكان هاتفه لا يرد، فلم يبق إلا التلفزيون.

وعندما تأكد الخبر بدأ الألم، ألم الفقدان. صحيح أن علاقتي بمحمود الإنسان لا يمكن وصفها بعلاقة صداقة كما هو الحال مع أحباء وأصدقاء كبار رحلوا أمثال البياتي وسهيل إدريس، ولكنني كنت على يقين تام بأن شعر محمود درويش يخصنا كلنا، هو شاعرنا وضمير المتكلمين هنا يحيل على كل العرب وليس على فلسطين فقط رغم أن قصائده قد حملت همها وأوصلته وأرغمت حتى المجرم العريق شارون على قراءتها لتتحول إلى رصاص ينهال على جسده المنفوخ البشع، فهم (عابرون في كلام عابر) وفلسطين هي وشعبها أبقى وأهمّ.

اختليت بنفسي لأفكر قليلاً. ولكن رحيل محمود درويش يلحّ عليّ، ولا أدري لماذا تملكني شعور أنه قد اختطف، أُخذ منّا عنوة وهو سيناريو لم نتوقعه. ظننا أنه سيعود من العملية، لا بل إننا لم نعرف موعد إجرائها، كل الذي نعرفه أن أمريكا لم تمنحه تأشيرتها بسهولة وماطلته في هذا عدة شهور فقلعة الديموقراطية تخشى الشاعر تخشى حضوره حتى وهو مريض ليجري عملية جراحية لقلبه.

لقد كان محمود درويش صوتاً شعرياً مختلفاً، ولد من رحم المحنة الفلسطينية ليكون شاعراً لكل العرب، ليكون واحداً من أكبر الشعراء الإنسانيين الذين عرفناهم من بابلو نيرودا إلى أراغون، إلى البرتي، إلى عبدالوهاب البياتي، إلى لوركا إلى محمد مهدي الجواهري، إلى ناظم حكمت وغيرهم من الأفذاذ.

نعم، محمود درويش اختطف منّا، لكن قصائده بقيت لنا، قصائده التي تمثل نقلة كبيرة في القصيدة العربية الملحمية المتفتقة عن لغة ثرية والمتعمدة بإيقاع أنيق، يجعل من يسمعه مشدوداً إليه بصمت وخشوع وأحياناً بتصفيق ترغم الأيدي عليه.

ومحمود درويش الذي شكّل استثناءً بين جمهور الشعر كان الشاعر العربي الوحيد القادر على جعل كل قاعة تكتظ مهما كان حجمها، وأذكر أمسيته في مدينة مكناس المغربية مثلاً وكان هذا قبل 26 عاماً تقريباً إذ دعي لإقامة هذه الأمسية على هامش ندوة القصة القصيرة التي نظمها اتحاد كتاب المغرب أيام رئاسة الناقد والروائي د. محمد برادة له. وقد أغرانا مناخ مكناس بالتوجه على أقدامنا إلى القاعة المخصصة للأمسية، وكنت رفقة الروائي الكبير غائب طعمة فرمان المدعو للندوة، وكان في حالة صحية سيئة ورفقة صديق العمر الروائي برهان الخطيب وقد كانا قادمين من موسكو حيث يقيمان فيها وقتذاك.

ولما وصلنا وجدنا محبي محمود درويش وقد تجمهروا خارج القاعة ليسمعوا صوته من مكبّر الصوت إذ إن القاعة الكبيرة امتلأت عن آخرها. وقد وقفنا احتراماً لقصيدة محمود درويش وأنصتنا له، وكان فرمان سعيداً وهو ينصت لصوت محمود درويش. فهو ملك من ملوك إلقاء الشعر ولا أظن أن شاعراً عربياً آخر يمتلك مقدرة محمود درويش على التشبع بقصيدته وامتلاكها كتابة وإلقاء.

محمود درويش سنتذكره كثيراً، لأنه معنا في كل ما أعطى وفي كل ما قدّم والفجيعة التي أحسها الجميع بفقدانه لم يحسوا بها من قبل، هي الاستثناء لأن درويش نفسه كان استثناءً.

تونس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة