Culture Magazine Thursday  11/06/2009 G Issue 287
سرد
الخميس 18 ,جمادى الثانية 1430   العدد  287
قصة قصيرة
تاريخ من ركل الحصى
صالح الغازي

 

لم يقدر. أخذ نفسا عميقا ليملأ صدره بالأوكسجين، بالكاد يصطاد نفساً قصيراً مبتوراً، لينتقل بصدمة الصقيع من أنفه إلى رئتيه ثم يتجول بنصله الحاد في فم المعدة، شفتاه تقبضان على السيجارة، يسحب نفساً تلو الآخر، يخرجه من فتحتي أنفه المزنهرتين المنفوشتين كمدخنتين.

تحاول عيناه إخفاء ما يشعر فتبدوان كعيني قط شرس أمام سطوة المحلات المصفوفة على جانبي الشارع كارهاً تأنقها المتسترة خلفه كمظهر حضاري لابتزاز الزبائن وإغوائهم، يشعر أنه يريد شراء شيء مهم من أحد هذه المحلات، قد يكون هذا سبب خروجه.

يحترق الفلتر مصدرا رائحة شياط، لا يدرك ذلك إلا عندما تلسع شفتيه، يبصقها لكنها التصقت بهما، يطردها بلسانه كأنه يركل شخصاً من ظهره.. (كم حلمت لو لبست حذاء ضخماً وركلت به كثيرين وأخرجتهم من حياتي بهذه القسوة لكن... للأسف...).

يحاول تذكر سبب نزوله للشارع الآن، يؤلمه تنميل دماغه وخلوه من أية فكرة كأنه يلبس حذاء جديداً ورم قدميه، يتحسس بلسانه قشرة شفته التي سحقت مع الفلتر، ويستمر ماشياً بالقصور الذاتي راكلاً الحصى الملقى على الأرض بقدم خائرة فينكفئ وينقلب مرات قليلة ثم ينتظره مرة أخرى كذكرى أليمة تقول له: ها أنا أمامك أنتظرك مضافاً لي حاضرك القريب... هيا.. أركل، يصادفه في مستوى رؤيته ورقة يبدو أنها من جريدة لطفل على كتفه شال به خطوط ملتوية متقاطعة، يده في وضع التأهب للرمي، يتفاداها كسائق متمرس ويركل...

يحاول توجيه تفكيره إلى أي شيء، صعب أن تضغط على مشاعرك فتتبلد وتبرد أو تتقولب فتكون محض إسفنجة تمتص أي شيء تقابله.

تعرف البرودة طريقها للعظام، تفترش سطح جلد أصابع القدم، وتنفذ من المسام كوخز الإبر فتسري مع الدم لتخفض درجة حرارته بتلقائية ماهرة وتترسب على العظام، والأدهى منها أن يبتل الجورب...!.. من ركن قصي في مخزن ذكريات الطفولة يتذكر عادة ركله الحصوات واهتمامه ألا ينسى واحدة أما نصيبه فمعلوم، علقة محترمة من أبويه لأنه نحل بوز الحذاء، حاول كثيراً القضاء على هذه العادة السيئة لكنه فشل حتى إنه يستغرب قصر التحذيرات على التدخين لوجوب إضافة قذف الحصى له.

يسقط بقدميه في هوة عميقة معتمة كريشة تتطوح يميناً.. يساراً.. ثم لأسفل. دائماً خوف السقوط يلازمه، تصدم أذنيه مقولة أحدهم..: أنت بذلك لن تستطيع الحياة، عش بنصف أو ربع وعي، وعيك كاملاً مهلك.

تطفو على سطح هواء الظلمة أشكال الأحذية التي استعملها، أحجام مختلفة وألوان متباينة، ترص أمامه بترتيب الحجم، كأنها حيلة تمارسها عليه الذاكرة لإجباره على ملاحظة التشابه بينها: (تتشابه في تهالكها من المقدمة، غالباً لونها أسود كي تليق على كل الملابس، فدائماً ما يكون حذاء واحد ووحيد، أستطيع الآن التأريخ لكافة مشاويري وسيرتي).

كمن سها عن واجباته ففوجئ بإهماله حائطاً من الحصى المتراكم يعوقه عن كل شيء إلا الرجوع للخلف ولا يعني رفضه الرجوع سوى الخلود مكانه، وقف بلا حراك كأنه يمعن التفكير، ووصل إلى مراده بعد جهد كبير (أها...... علىّ شراء حذاء جديد).


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة