Culture Magazine Thursday  21/05/2009 G Issue 284
أوراق
الخميس 26 ,جمادى الاولى 1430   العدد  284
جعبة (أبوعنتر)
طارق السياط

 

وهكذا قضى (أبوعنتر)، ناجي جبر، أحد أبرز معالم طفولتنا وذكرياتها السعيدة. يوم أن كنا نتحلق منبطحين بالأرجل التي لأعلى، نفركهما جذلا، متلذذين بالفرجة على (صح النوم)، و(حمام الهنا)، ومكائد الطاقم الظريف.

في صباحات الخميس، وعصاري أيام الدرس، وأمسيات نهاية الأسبوع، مابين شماغ "أبوعنتر"، وطربوش غوار، وصدرية ياسينو، ونظارات حسني، وقبقاب فطوم، ورمح عدنان، وظفائر لينا، وزواحف عبسي، أمضينا أروع لحظات طفولتنا الجميلة.

بميتة (أبوعنتر)، تذبل ورقة شديدة الخضرة من أوراق شجرة الماضي الأنيق. وهاهو جيلنا المسكين، يتبدى كأشدّ الأجيال تضحية بهذا الصدد. إذ على عاتقه، أكثر من سواه، تقع نوازل هذا الزمن الموجعة. فالموت الذي مابرح يفعل فعلته عبر قطف أزهار الذاكرة، بات يلتقط رموز ذاكرتنا نحن، بالأخص، أوفر من سوانا، نظرا لدواعي السن الذي يقدّم رموز طفولتنا كأكثر زبائن الموت جاهزية في الزمن الراهن.

وحينما تبعثرنا الحياة، وتشحذ وقائعها فينا شحذا، وتحكم قبضتها على خناقنا، فتتكلس أحاسيسنا مثل كتلة، حينها نهرع بذاكرتنا نحو تلك الأيام، نتفيأ ظلالها الوارفة من لفحة صقيع الحياة، ونستنشق عبيرها الفواح. ذاكرة الطفولة، هي ملاذ أرواحنا المتعبة، نركن إليها بين زمن وآخر، فنينع من جديد.

ما بال الموت؟ أي أمر يريده من ذاكرتنا وقت أن يفتك بالأرواح التي تنعشها؟ ولكن على كل حال، فحتى لو نال الموت من قبضايات ذاكرتنا، فلن يتسن له طمس التضاريس والأماكن خاصتها.

فجدران أبيات الجيرة هناك، أشد زخما، وبهجة، وإنسانية، من مساكن هذه الأيام التي ابتكرها كود البناء تحت تسمية (البنايات الخضراء) فائقة الخصوصية.

على صفحات تلك الجدران، كتبنا ذكرياتنا، ورسمنا طفولتنا بكل الألوان. إنها مضمخة برائحة تفاصيل أحداثنا التي لن تتكرر: مذاكرات الظهيرة، وألعاب الحارة، وأهازيج المطر، واستحمامات ليالي السبت. الجار العتيق، المنزل الأول ذو الطابق الوحيد، المدرسة الابتدائية، بزات الرياضة التالفة قبالة الركب، أفلام الكرتون، الحلقة الثالثة عشر والأخيرة، معطف أمي الفضفاض، عربة أبي التي تسع كل الناس، فراء جدي صباحات الشتاء القارص، وافتح يا سمسم أبوابك نحن الأطفال. كل هذه البصمات محفورة على تلك الجدران، مثل مومياء. فعلى أي حال ستكون ذاكرة جيل لم ينل تلك الذكريات؟.

إن جيلا بلا ذاكرة جيل ممسوخ. ويتحتم على الآباء الجدد، أن يتآمروا ضد ما تحيكه التقنية خفية لطمس ذاكرة أبناءهم جراء الترف. ومن الأعماق، أشفق على الناشئة الباذخين من ضحالة الذاكرة التي ستكون لديهم ذات كِبَر، ما لم يجري تدارك الوضع.

لقد مات (أبوعنتر)، فهل سيأخذ بجعبته كافة قيمنا التي أودعتها داخلنا تلك الحقبة؟

- الرياض ts1428@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة