Culture Magazine Monday  26/01/2009 G Issue 268
قراءات
الأثنين 29 ,محرم 1430   العدد  268
قراءة في أخطاء النقد العربي الحديث (3)
محمد العامر الفتحي

 

حضارة.. ولا دليل..!

يظنّ الدكتور الفيفي أنّ العرب في القرنين الخامس والسادس الميلاديين قد عاشوا تطورا فكرياً وفنياً واجتماعياً يفوق التطور الذي حققه آخرون تمكنوا من حفظ حقوقهم الحضارية من خلال الآثار والنقوش.

فأما التطور والحضارة عند عرب القرنين المذكورين فثابتة أركانه عند الدكتور، وأما دلائلها الملموسة فلا شيء البتة.

ومن هنا كان طرح الدكتور للسؤال التالي: (أين الحلقة المفقودة من آثار القرن الخامس والسادس الميلاديين ؟ أي تلك الفترة التي ينتمي إليها تراث الجاهلية الأدبي. بما يعكسه من حياة تبدو في مستواها الاجتماعي والفكري والفني - من خلال الشعر والأخبار - أكثر تطورا من حياة أولئك أصحاب الآثار المكتشفة في قرية الفاو أو سواها) ص 18

ويتساءل - كذلك - عن الأسباب التي جعلت صخور الجزيرة العربية تخلو من أية نقوش أو إشارات ولو عابرة إلى ذلك الرقي الكبير المزعوم (كيف خلت صخور الجزيرة من إشارة - وإن عابرة - إلى حياة هؤلاء العرب قبيل الإسلام، الذين يحدثنا عنهم التراث الأدبي العريض) ص 18

ولكنني أرى أن الباحث يقلب بطريقته هذه المسألة رأسا على عقب. فقد جرت العادة على أن الآثار الظاهرة هي التي تدل الباحثين على المستوى الحضاري للأمة صاحبة الآثار.

وهي بما سجله أهلها عليها تعدُّ سجلاً صادق الدلالة على ما وصلوا إليه.

فإن خلت منازل ما من الآثار والنقوش فإن ذلك يقوم دليلا - لدى الدارسين - على ضعف تأثير ساكني تلك المنازل عليها.

بينما يفترض الدكتور وجود حضارة لا دليل عليها، ثم يتساءل عن أسباب عدم وجود ما يدعم ذلك الافتراض - من أثر أو نقش -.

إن المنطق العلمي الذي هو أليق بالنظرات النقدية يساعدني على القول بإن عدم وجود الدليل على ظهور حضارة ما هو دليل على عدم ظهورها.

بينما يعلل الدكتور الفيفي لذلك الفقر المشاهد بالعين المجرة في النقوش الصخرية التي كانت دائماً من علامات الحضارات، بافتراضات لا تخدم النظرية النقدية في قليل ولا في كثير.

فهو يفترض أن سبب خلو صخور الجزيرة من النقوش الدالة على حضارة العرب في القرنين اللذين سبقا الإسلام يعود لسبب من الأسباب التالية:

- أن يكون ذلك لعدم استقرار ذلك الجيل من العرب.. ثم يتساءل عن المناذرة والغساسنة ألم يكونوا مستقرين درجة من الاستقرار.

- أو أن يكون السبب مرتبطاً بتطور الكتابة لديهم.. ثم يتساءل عن تأثير الخط على النقوش، ويرى أن الخط لم يمنع النقوش في الأمم الأخرى.

ثم يقرر أنه سيبقي على تلك الأسئلة لأنه لا يملك الإجابة عنها.

ونحن نظن أن افتراضه القائم على غير أساس منهجي علمي، أدى به في النهاية إلى تلك النتائج المخيبة التي لا يرتضيها الباحث ولا القراء.

أقرب إلى العلمية أن نعترف بأن خلو صخور الجزيرة من الآثار والنقوش إنما يقوم دليلاً على أن العرب في القرنين الخامس والسادس الميلاديين لم يتمكنوا من الأدوات الحضارية التي تجعلهم في ذلك المستوى الفكري الذي يفترضه الباحث، وبالتالي فهم لم يتمكنوا من تخليد شيء من ذكريات حضاراتهم كما فعلت كل شعوب الأرض التي عرفت قدراً معقولاً من الحضارة.

وأن نوقن بالتالي أن تلك النصوص الشعرية الجاهلية كانت غافلةً تماماً عما يريد أن يلصقه بها الباحث من معانٍ فلسفية عميقة، أو إيحائية بعيدة.

وأن الحضارة الجاهلية اقتصرت على الجانب القولي شعراً ونثراً.

كان الشعر الجاهلي حضارة قولية فذة، لكنها حضارة محكومة بحياة فكرية واجتماعية تتناسب تماماً مع تلك القولية التي اعتمدت عليها الحركة العربية في وسط الجزيرة وأطرافها، وأبسط في الوقت ذاته مما يحاول الباحث أن يثبته لها من الرقي المادي والفكري الذي لا يتناسب مع كل ما بلغنا عن ذلك العصر.

ولا يتناسب كذلك مع الواقع الفقير في المكتشفات، وهو واقع يبرهن على ضعف التأثير، وبالتالي على خطأ ما يحاول الباحث أن نفترضه فيه.

وسنتحدث لاحقاً عن الفرق بين احتفاظ الجزيرة العربية بآثار سبق أهلُها عربَ الجاهلية بقرون عدة (كالحجر والأخدود) وعدم حملها لأية آثار لعرب الجاهلية القريبين من عصور الاكتشاف والتدوين.

اللغة الخاصة.. وتفسير ابن عباس

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

لما نسجتها من جنوب وشمأل

يرى الدكتور الفيفي أن الأسماء الخمسة الواردة في هذين البيتين ليست - شعرياً - أسماء لأماكن معروفة في المنطقة الجغرافية التي نشأ فيها الشاعر كما ظن النقاد والجغرافيون واللغويون: (فلن يعني شيئاً - شعرياً - ما يقوله الجغرافيون عن تحديد هذه المواطن.. ذلك لأن كل المادة اللغوية التي يستعملها الشاعر من أسماء أماكن أو أشخاص تستحيل لديه إلى مادة فنية إيحائية لها لغتها الخاصة) ص 40

لأن (الشعر يقول ما لا واقع فعلياً له بالضرورة) ص 41

و(لأجل هذا فإن من حق القارئ أن يجد في هذه الأسماء الخمسة محمولات آخر عن مادتها اللغوية) ص 41

والملاحظة الأولى التي نأخذها على قراءة الدكتور هذه هي : أن الأفعال والحروف تبقى عنده مادة معجمية ثابتة الدلالة، فلا تستحيل إلى مادة إيحائية، ولا تقول شيئاً لا واقع له، بعكس الأسماء التي تستحيل عنده إلى مادة إيحائية وتقول ما لا واقع له.. مع أنه يتحدث عن تغير اللغة عند الشعراء.

فما الذي فرق الأسماء عن الأفعال في الاستعمال الإيحائي وقد اجتمعا في الأصل في تكوين الدلالات.

وأما الثانية: فإن الدكتور حين يقرر أن الشعراء يقولون ما لا واقع له لا يتنبه إلى أننا قد نتساءل عن الواقع الذي اقترحه هو في قراءته لتلك النصوص ؟!

أليس قد جعل لها واقعاً من عند نفسه ؟!

واقعاً يفرضه هو على ما ادعى أنه لا واقع له.. ودون أن تكون هناك إشارات من النصوص تساعد على اقتراح ذلك الواقع بعينه.

والأولى أن نفترض أن من حق النص أن يحمل واقعه الخاص الذي قامت الأدلة على تأكيده أو تزكيته، دون أن نحمّله واقعاً متخيلاً لا دليل عليه منه، ولا دليل من خارجه عليه.. خاصة والدكتور سيتحدث فيما بعد عن السياق !

إننا نرتكب خطأ كبيراً حين ننفي عن النص الجاهلي واقعه الخاص الذي يحمله مثله مثل كل الثقافات الإنسانية.. ثم نأتي نحن بواقع خارجي عنه، واقع يفصله عن زمنه قرون تبدلت فيها الحياة، واقع لا دليل بين أيدينا على إمكانية صدقه، لنركّبه على ذلك النص البريء منه.

على أنه يبقى علينا في معرض الحديث عن دلالات الألفاظ أن نتساءل عن تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - للقرآن الكريم على ضوء دلالات الأبيات الشعرية الجاهلية، وهو منهج مشهور اعتمد فيه حبر الأمة على الدلالات المتداولة للألفاظ بحسب معجميتها لا بحسب ما ظنه الباحث من خروج عن كل معنى معجمي معروف.

بينما يرى الباحث أن قراءتنا لتلك النصوص يجب أن تأخذ الطابع التالي :(من حق القارئ أن يجد في هذه الأسماء الخمسة محمولات اخرى عن مادتها اللغوية: (سقط - لوى - دخل - حمل - وضح - قرا). فما الذي يكمن وراء هذه المفردات اللغوية حتى يعبر من خلالها الشاعر عن تجربة (الفقد) الحزينة التي يقف عليها ؟!.

(سقط) : مشتقة من السقوط وقيل في معناها الحرفي منقطع الرمل. لكن ما يهم هنا هو جذر المعنى الدائرة دلالاته على سقوط مادي أو معنوي.

لوى : تحمل اللوى معنى منعرج الرمل غير أن الكلمة على افتراض القصر (اللوا) موحية بلواء لواء الأمير وعلمه ورايته وعندها تحمل عبارة (سقط اللوا) سقوط راية لا سقوط رملة) ص 41

وهكذا تستحيل عنده (سقط اللوى) إلى سقوط اللواء، ولا يهم عندها لو (افترض) كلمة مكان أخرى (كأن يجعل اللوا بدلاً من اللوى) لأنها أكثر مناسبة للفظة (اللواء) ولما يريد هو أن يصل إليه من معاني ينسبها مباشرة إلى الشاعر الذي يريد له الباحث أن يبدو موحياً في وقوفه على الطلل بحسرة الفقد السياسي الذي لا علاقة له بظاهر النص (الغزل)، دون أن يجد دليلا آخر يناسب هذه الفرضية.. فالأمر لا يقتصر على تأويل - قريب أو بعيد - للفظة قالها الشاعر.. بل إنه يجوز لنا - على مذهب الدكتور - أن نأتي بألفاظ من عندنا لم يقلها الشاعر، ولم يقصدها ،ولم يفكر فيها، فقط لأننا لن نتمكن من تفسير النص كما نريد إلا إذا تدخلنا في عمل الشاعر، وغيّرنا في نصّه !

وسأريك أن الدكتور سيحاول التغيير في النص في مواضع أخرى سترد !

ويقول : (دخل : لها علاقة في معانيها بدخيل المرء الذي يداخله في أموره كلها، فهو دخيل ودخلل، أي بطانة قال امرؤ القيس نفسه عن اغتيال أبيه : ضيّعه الدخللون إذ غدروا ) ص 42

دون أن يتنبه إلى أن امرأ القيس قد استخدم لفظة (دخلل) هنا بوضوح تام حين أرادها، وحين قصد التعبير عن الجانب السياسي من قضيته، أو حتى عن جانب الفقد الذي يبحث عنه الباحث.

وهذا يعني أنه قد عبر باللفظة المعجمية الحاملة للمعنى الذي أراد إيصاله هناك.

فلم نصرُّ على جعله هنا لا يفعل ؟!

لم لا نفترض أنه يعبّر عن قصده هنا كما عبر عن قصده هناك ؟!

إن الشعراء يوحون، لا شك في ذلك، لكنّ إيحاءهم في الغالب لا يدخل ضمن إطار تغيير دلالات الألفاظ معجمياً، بل هو إيحاء يستخدم تركيب المعاني من العبارات الكاملة، فيركب مجموعة من الألفاظ - وفق معانيها المعجمية - لتتكون منها رسائل ذات مستويات تعبيرية متفاوتة، يصل منها الشاعر إلى غاياته التي يريد.

إن افتراض هذا المعنى الجديد لسقط أو لوى أو دخول أو سواها لا يغيّر دلالات الأسماء الخمسة الواردة فقط، بل يستلزم تغييراً في معاني الألفاظ الأخرى في البيت لتناسب المعنى الجديد المكتشف، وهكذا علينا أن نتساءل عن علاقة (لم يعف رسمها) مثلاً بالمعنى الجديد لتوضح والمقراة.. وسنجد أن الباحث يفسّرها تفسيراً حديثاً لتناسب ذلك التغيير الذي طرأ على معاني الأسماء، لتصبح عبارة (لم يعف رسمها) نصاعة الحق وماجد الذكرى البيضاء المضيئة كراية بيضاء (توضح) والسيرة الكريمة المعطاءة (المقراة) لا تسقط ولا تعفي رسمها الرياح والأحداث من (جنوب وشمأل) وللجنوب والشمال هنا دلالة على تعدد رياح الغزو.. يقول: (حمل: في الحديث (من حمل علينا السلاح فليس منا) وحمل الأمانة خيانتها، والحميل الدعي والغريب ومن معاني حومل: السيل الصافي، ومن كل شيء أوله، والسحاب الأسود، من كثرة مائه، واسم امرأة يضرب بكلبتها المثل يقال أجوع من كلبة حومل كانت تجيعها بالنهار وهي تحرسها بالليل حتى أكلت ذنبها جوعا. وضح : لها علاقة بالوضوح والبياض والضياء والغرة والنصاعة. قرا: مرتبطة مادتها بسعة الحال وتقديم الطعام والمقراة جفنة يقرا فيها الضيف......... فإذا هناك إيماءة إلى لواء يسقط في مؤامرة غادرة، بين دعي غادر (دخول) وحامل سلاح خائن شرس ككلبة حومل، مدمر كالسحاب الأسود أو السيل بيد أن نصاعة الحق كما يقول في البيت الثاني وماجد الذكرى البيضاء المضيئة كراية بيضاء (توضح) والسيرة الكريمة المعطاءة (المقراة) لا تسقط ولا تعفي رسمها الرياح والأحداث من (جنوب وشمأل) وللجنوب والشمال هنا دلالة على تعدد رياح الغزو) 42 - 44

هكذا يومئ الشاعر - كما يظن الباحث أو كما يريدنا أن نظن - إلى معانيه السياسية إيماءات خفيّة، لا نصل إليها إلا إذا استحضرنا الجذور الحقيقية وغير الحقيقية للألفاظ المستخدمة في النص..!

وليست المسألة مسألة محاولة لقراءة مختلفة لشعر بنيت له النصب.. وأقيمت له المقاصل في سيرة نقدية كان فيها بطلاً تارة.. ونكرة تارة.

إن المسألة تتعدى ذلك - كما رأيت - لتصبح ارتباكاً لا معنى له.

وتصبح خيالات وأوهاماً لا أرض لها ولا سماء.

وتصبح اختلافاً لمجرد الاختلاف.

ونقداً لمجرد النقد.

ونظرية من أجل النظرية.

أبها

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة