Culture Magazine Thursday  28/01/2010 G Issue 296
فضاءات
الخميس 13 ,صفر 1431   العدد  296
 
الإبداع والأسطح الكتابية
د. لمياء باعشن

هل الكتابة فعل غريزي؟

أراها في كثير من الأحيان رغبة فطرية تنفرد بها البشرية، لكنها في قوة الغرائز الأولية كإشباع الجوع والعطش. لم يسعَ الإنسان في جميع مراحل تطوره إلى تحقيق شيء قدر سعيه لتحقيق هذا الدافع الغريزي. انظروا ماذا فعلنا بجدران الكهوف.. ستقولون تلك رسومات، وأقول من منا يستطيع أن يجزم أن تلك النقوش لم تكن محاولات أولية تُمكّن العين من رؤية ما ينطق به اللسان، إنها لم تكن أجزاءً متناثرة من لغة صورية عتيقة؟ وهل اللغات إلا تصويراً؟ لغات العالم كلها تنقسم إلى نوعين: تصويري pictorial يحيل الأشكال إلى المعاني كالهيروغليفية والصينية، وصوتية phonetic تعمل الأحرف فيها كشفرات للمنطوقات. الصور إذاً طرق كتابة معتمدة ومتطورة.

وقد تقولون إن كانت الكتابة غريزة فلماذا نتعلمها، بل لماذا نتعلم القراءة قبل الكتابة؟ الحقيقة أن ما نتعلمه من مهارات كتابية هو قوانين النظام المتبع في مجتمع ما والمتفق عليه بين أفراده، لذلك يتعرف أولاً على أدوات الكتابة عن طريق القراءة، ثم يتقدم لتعلم طرق الكتابة، لكن النزعة الأولية موجودة بداخلنا وإن كانت غير موجهة.

مثلما يتحرك الإنسان من أكل اللحم نياً إلى طبخه على طريقة الجورميه، تتطور أساليب الكتابة بجهود جبارة وتزداد جودة. بداياتنا كانت صعبة:

كم من حجارة نحتنا وكم من جلود دبغنا ورقّقنا، كم من عظام وكم من أضلع حوّلنا إلى رقاع وصحائف؟ الدافع الغريزي للكتابة جعلنا نجتاح صمت النباتات والجمادات، جريد النخل وسعفه، لحاء الشجر ولبه، بقايا الفخار وشقفه، على ألواح الخشب كتبنا، على طبقات الشمع وعلى الطين المصلصل، وعلى أقمشة الكتان والحرير. على الرق المنشور سجلنا أقوالنا، كما سجلناها فوق دروع السلاحف والمحار والمعادن والعاج.

بالمسامير نحت السومريون ألواحهم الطينية وتبتعهم شعوب الأرض في أطوار الزمن حاملين الأزاميل والفحم والطباشير، ثم امتطت أناملهم ظهور أعواد القصب وريش الطيور ليخطوا على ورق البردي الرقيق عصارة أفكارهم. استخلصوا الأصباغ من النباتات ولوّنوا أحبارهم، شبّكوا الحروف ونقّطوها وحرّكوها، في محاولات دؤوبة لا تهدأ بذل الإنسان كل جهد باحثاً عن وسط تواصلي يكمل نواقص التواصل الكلامي، وسط يمكّنه من التواصل الذاتي، من كشف الدواخل وتنبيه الوعي الفردي، وسط يمكنه من تأمل أفكاره، من شطبها وتعديلها بعيداً عن النشاط التذكري والتعرفي الذي يوجبه الكلام المباشر.

شفاهية المواجهة لا تسمح بالوضوح ولا بالتغيير، فما يقال لا يمكن استرجاعه حتى لو لم يخدم مقاصده، لكن الكتابة تعطي فرصة التخطيط لما سيقال، ثم التأني واختيار التعبير المناسب، ثم تغيير ما تمت كتابته بالمحو والإعادة للتأكد من فهم أكثر وضوحاً. من الكتابة باليد قفزت البشرية إلى ميكنة الكتابة 1436، فأصدرت المطابع كتباً محكمة ثابتة نسخها أكثر عدداً، مما أدى إلى نشر وانتشار أوسع وإلى تمدد المجتمعات وتواصلها عبر الحواجز الزمانية والحدود المكانية. في وضعها هذا أصبح للكتابة فعل ملازم هو القراءة العامة، لكنها قراءة مختلفة عن السابق، قراءة انفرادية وانعزالية بعد أن كانت نشاطاً اجتماعياً مشتركاً.

هل فعل الكتابة غريزي؟ كيف إذاً يمكننا أن نفسر هذا التوق الإنساني للتسجيل والتدوين بالترميز الكتابي؟ لماذا ابتكرنا أنظمة كتبنا بها بأصابعنا للصم والبكم، وكتبنا بها ببريل للعمي؟ لماذا اختزلنا الأحرف وشفّرناها؟ ولماذا حملنا هذا الهوس الكتابي إلى الحواسب الآلية التي قدمت أفضل وسط كتابي عرفه الإنسان؟ زحفت نصوصنا إلى العالم الإلكتروني مستغلة فوريته وتجزئته وميوعته وتبادليته وتفاعليته.

قبل عدة أعوام عقدت القنصلية البريطانية في جدة ندوة حول أهمية النص الإلكتروني وعن تأثيره المتوقع على الكتابة الإبداعية. كانت الندوة تنطلق من ظاهرة العودة إلى الكتابة بعد عقود العروض المرئية على شاشات التلفزيون والتواصل السمعي على خطوط الهواتف التي أضعفت التعبير الكتابي وخاصة التراسلي وأعادت الشفاهية وحولت متلقي الرسالة التواصلية إلى طرف سلبي يستقبل دون إرسال. الحماس الكتابي كان مؤشراً على إحياء النشاط التعبيري على وسيط جديد. يومها تركنا الندوة وكلنا ترقب لما ستفعله النصوص الإلكترونية بالإبداع.

وهذا ما فعلته رجاء الصانع في روايتها (بنات الرياض). كل ردود الفعل انصبت على محتوى الرواية ولم يلتفت كثيرون إلى قيمة الرواية في زمنها الإلكتروني، فرسائل الإيميل سجلت آخر تطور في أشكال الرواية الرسائلية (epistolary novel) التي ظهرت مع مولد الرواية، حيث تتشكل الرواية كلها من مجموعة رسائل. لكن رسائل بنات الرياض شكلت نقلة نوعية في التبادل الكتابي حيث جاء النص تفاعلياً سمح بتدخل القراء في سير الأحداث وخلط أدوار الكاتب والقارئ وغير ذلك من تقنيات الكتابة الإبداعية. هذا النوع من الكتابة يأخذ الكثير من عناصر المشافهة في عدم اهتمامه بالأساليب الأدبية وبتركيزه على مضمون الرسالة وفي عدم ثباته وفي ميوعته، لذا فهو يسمى الشفاهية الجديدة.

أما ما فعلته هاجر المكي في روايتها (غير وغير) فهو قمة في تمثل فكرة هائلة وهي أن النصوص الجوالية يمكنها أن تحتل مساحة واسعة من الروايات وتقوم مقام السارد في تقديم الشخوص وفي دفع عجلة الأحداث وفي توفير سطح كتابي تتواثب عليه النصوص من كل جانب، كتابات تمحى وتظهر على الجدران، رسائل الجوال، شاشات الإعلانات ولوحات السيارات وأشرطة الأخبار في التلفزيون وغيرها، حتى تكتسح النصوص فضاءات الرواية وتحتلها تماماً.

ما فعلته في كتابي (زوايا الدائرة) ارتكز على نص الرسائل الجوالية كوسط كتابي جديد يوفر فضاءً عجيباً يُمكّن النص الإبداعي من التشكل والتكون بطرق غير مسبوقة. بدلاً من التركيز على النصوص الجوالية المتبادلة والمتداولة بشكل طبيعي بين الناس في مناسبات مختلفة، فكرت في عملية التراسل الجماعية وطبقتها من خلال تجربة كتابية شارك فيها مجموعة من الكتاب والكاتبات السعوديات على مدى أشهر طويلة كنت خلالها أرسل خاطرة أو شاردة محفزة تستثير قارئها إلى كل فرد من أفراد المجموعة على حدة دون أن يعرف عن مشاركات غيره، وأطلب منه التعليق عليها بما يماثلها من ومضات فكرية. وقد كان انسجام المجموعة في اللعبة ملحوظاً وظلوا في حالة تأهب وانتظار وتجاوب مثرٍ حتى النهاية. كان شرط التفاعل الأساسي هو الكتابة على جهاز الجوال مباشرة وفورياً وفي حدود المساحة المتاحة. وصغر المساحة هذا دفع إلى التحايل على محدودية اللفظ ومحاولة تخطي المعنى المباشر إلى آخر أكثر دلالة وعمقاً.

كان اهتمامي هو مراقبة الضغوط التي فرضها الوسط الكتابي الإلكتروني بهدف الوقوف عند الدلالات الجديدة لهذه النصوص التداولية المشتركة والكشف عن القوة الكتابية الخلاقة التي تتجلى من خلال النصوص المنتجة فورياً على جهاز الجوال.

(زوايا الدائرة) عنوان يشرح أن لكل فكرة مداخل متعددة وأن وجهات النظر لا نهائية، لكنه أيضاً يشير إلى أن الرسالة الجوالية كانت في حركة دائرية تتحرك فيها من كاتب إلى آخر وتنقل عطاءاته الفكرية إلى غيره. خلال هذه التجربة انساب التواصل الحواري بين المشاركين بتناسق وحميمية دون أن يطلع أحد منهم على استجابات الآخرين ودون أن يعرف أن ما سيكتبه سيدخل في دائرة التراسل. كنت الرابط بينهم أتلقى وأرسل وأراقب عملية إنتاج إبداعي متداخلة وعميقة لنصوص تتشظى وتتفرع ثم تلتئم وتتماسك.

كانت النتيجة مجموعة من القطع الأدبية في أربعة فصول: رسائل في دائرة وهي استجابات فردية لخاطرة محفزة، وحوار جوالي ويظهر التفاعل بين الرسائل التي يعاد إرسالها لأفراد بعد ورودها من كتاب آخرين فيكون النقاش الافتراضي بين المجموعة بتعاقب الردود. أما الفصل الثالث فيدور حول حبكة درامية لقصة جوالية قصيرة تبدأ وتنمو وتنتهي على الشاشة الصغيرة. ويتابع الفصل الرابع وعنوانه قصيدة جوالية وفيها يتم إرسال شطر بيت أو مطلع شعري كتبه فرد إلى متلقي آخر ليكمله، ثم ترسل لآخر ليضيف إليه بيتاً أو شطراً حتى تكتمل القصيدة المشتركة. تجعلنا هذه المحادثات الكتابية نعيد تقييم دور المتلقي وطبيعة موقعه الجديد كمؤلف مساهم في بناء الخطاب الرقمي، وبهذا التفاعل الخلاق يتعدد المؤلفون، ويضيفون أجزاء جوهرية للنص الأصل. الرسالة الجوالية لم تخترع نظاماً كتابياً جديداً وإنما ابتكرت وسيطاً كتابياً مختلفاً يشبع رغبة الفعل الكتابي التي تدفع بالإنسان للبحث عن مزيد من الوضوح والسرعة والكمال.

وسواس الكتابة هو عماد الحضارة الإنسانية، مانح وجودها ورافدها الأساسي. يقول أورهان باموك: «أنا أكتب لأن عندي احتياجاً داخلياً للكتابة، أكتب لأني أخشى أن يطويني النسيان»، الكتابة إذا هي بصمة الإنسان على هذه الأرض تشهد بوجوده وتخلده. يبحث الإنسان بلا توقف عن أسطح كتابية يملأها ضجيجاً تراه الأعين ولا تسمعه الأذان. رغبة الكتابة الشديدة نابعة من «كشف العالم وتقديمه كوظيفة استكشافية إلى القارئ يمارس من خلالها حريته في الفهم والإدراك»، هكذا يعلّمنا سارتر. الكتابة هدف إنساني يسعى من خلاله لإشباع غريزة البقاء، هي انعكاس للتفكير التحليلي القائم على التأمل الداخلي، هي التعبير عما يدور بدواخلنا ليس فقط لغيرنا ولكن لأنفسنا، كم هو رائع أن نرى أفكارنا وننظر إلى مشاعرنا، أن نقابل أنفسنا على الأسطح الكتابية.

جدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة