Culture Magazine Thursday  28/01/2010 G Issue 296
فضاءات
الخميس 13 ,صفر 1431   العدد  296
 
(إنتاج الدلالة) بين (التفكيكية) و(ابن أبي ربيعة)
قَد (عَرفنَاهُ).. وَهَل يَخفَى القَمَر!
عمر بن عبد العزيز المحمود

لم يكن شاعر الغزل الشهير عمر بن أبي ربيعة يصغي حقيقةً إلى تلك الفتيات الثلاث اللاتي صادفهنَّ في إحدى الطرقات حين أنشد:

قالت الكبرى: أتعرفن الفتى

قالت الوسطى: نعم، هذا عمر

قالت الصغرى وقد تيمتها:

قد عرفناه، وهل يخفى القمر!

بل ربما لم تكن تلك الفتيات يتحدثن أصلاً، ومع هذا فهو يفاجئنا بهذا الحوار المفصل ناسباً كل عبارة إلى صاحبتها، والأعجب من هذا تقسيمه لهؤلاء الفتيات وترتيبه لهن حسب أعمارهن، وكأنه يعرفهن بصورة شخصية، فضلاً عن تلك المتابعة الدقيقة للحوار الدائر بينهن.

ورغم كل هذا فلم ينكر أحد على ابن أبي ربيعة طبيعة هذا (التلقي) الذي صدر عنه، ولم يعترض أحد على (إنتاج الدلالة/ابتكار الحوار) الذي فهمه الشاعر من هذا (المشهد/النص) الذي لعبت تلك الفتيات الثلاث دور البطولة فيه؛ ذلك أنه ليس في المشهد ما يمنع من هذا الإنتاج أو يرفض ذلك الابتكار، بل إن هذا (التوجيه) الذي أبدعه (الشاعر/القارئ) يتناغم مع (المشهد/النص) الذي أمامه، ويتناسق مع شعوره واستشعاره، ويتوافق مع النفسية والغريزة، وينسجم مع (الحبكة) المرسومة لتلك الأحداث؛ لهذا كان الشاعر الأموي موفقاً في (إنتاج) (التفسير/الحوار) الذي استطاع أن يستوعبه حين حاول (استكناه) حيثيات هذا المشهد الذي احتاج بالفعل إلى (شاعر/قارئ) ذي قدرات عالية يستطيع التعامل مع (الشفرات) (السياقية/اللغوية) التي يعالج بها معنى (المشهد/النص).

وفي الوقت الذي يتألق فيه عمر بن أبي ربيعة بهذا الإبداع والإنتاج، ويبرع في ذلك (التفسير) وتلك (القراءة) متماهياً مع (المشهد/النص) نجد الناقد (التفكيكي) يتخبط حين يؤدي هذه الوظيفة، ويضطرب عندما يحاول عبثاً أن يصل إلى الدلالة التي يمكن أن يفصح عنها النص أو توحي بها ألفاظه أو تشي بها معانيه، كاشفاً إزاء تلك المحاولة عن شعائر (الفوضوية) وطقوس (البلبلة)، زاعماً من هذا كله أنه يسعى بحثاً عن المعاني (الخفية) للنص، وتجليةً لأبعاده (الماورائية)! محاولاً أن يقنع القارئ بصحة (إنتاجه) ومعقولية (تفسيره).

إن السبب في هذا التخبط عند نقاد (التفكيك) هو عدم اعتمادهم على أساس ينطلقون منه في عملية (إنتاج الدلالة)، وانعدام العلاقة لديهم بين (الدال) و(المدلول)، وغياب المركز الثابت للنص؛ إذ لا توجد نقطة ارتكاز ثابتة يمكن الانطلاق منها لتقديم (تفسير معتمد) أو (قراءة موثوق بها) أو حتى عدد من التفسيرات والقراءات، بل إن النص لديهم في كليته -كما يكشف عن ذلك Roland Barthes (رولان بارت) الذي تحول من البنيوية إلى التفكيك- «يشبه صفحة السماء، فهي منبسطة وناعمة وعميقة في الوقت نفسه، من دون حواف أو علامات، و(القارئ) كالعرَّاف الذي يرسم عليها بطرف عصاه مربعاً وهمياً يستطيع أن يستقرئ منه حركة طيران الطيور»! فهو بهذه الصورة البدائية المجنونة يصور علاقة كل قارئ بالنص الأدبي ومحاولة قراءة معناه.

ولم تكن الدراسة الأخيرة التي قام بها John Ellis (جون إليس) في كتابهAgainst Deconstruction حول نقد التفكيك إلا محاولة منه لإبراز حالة الفوضى التي تترتب على الأخذ بالمقولات التفكيكية، وخصوصاً تلك القائلة بغياب النص الثابت واختفاء المركز أو الجوهر، والاعتماد على (اللعب الحر) و(لا نهائية القراءات)، مما يعني أن كل القراءات/إساءات القراءة متساوية، وهو استنتاج منطقي في ظل غياب النص الثابت الذي يمكن أن نرجع إليه، ومما يعني كذلك -وهنا تكمن المصيبة- أننا لسنا مطالبين -في إبداع قراءة جديدة/إساءة قراءة جديدة للنص- بتقديم أي قرائن أو أدلة من داخل النص لتعضيد ما نقول، فالنص لا وجود له، والقارئ وحده هو الذي يخلق النص كما يحلو له ويمنحه دلالاته ووجوده كما يريد.

ولا يُسوَّغ لهذا المنهج اتخاذه هذه (المبادئ) أو تلك (الاستراتيجيات) أن يكون قد نشأ رداً على (البنيوية) التي انطلقت من قراءة النص الواحد ضمن أفق يتسع لتماسك البناء وتمحوره حول فكرة محددة، والتركيز على النص -ولا شيء غير النص- بوصفه المصدر الوحيد لإنتاج الدلالة، ذلك أنَّ ردة الفعل هذه قد تعدَّت الحدود وتجاوزت المعقول، ووصل الأمر لدى (التفكيكية) إلى أن تكون وظيفة القارئ/المتلقي ليست اكتشاف النص بل (كتابته) و(إعادة إنتاجه) من جديد دون حدود واضحة يُحتكم إليها حين يقدم هذه (الكتابة) أو تلك الإنتاجية، مما يؤدي في النهاية إلى (فوضوية) عارمة و(عبث) صارخ في مقاربة النصوص ومحاولة قراءتها ونقدها، وليت الأمر وقف عند هذا، بل هم يرون أن كل قراءة للنص هي إساءة للقراءة السابقة ودليل على فشلها، وهكذا تتوالى (القراءات) وتتعدد (الإنتاجات) للوصول إلى (اللاوصول).

لقد كان عمر بن أبي ربيعة أكثر ذكاءً من هؤلاء (التفكيكين) وأبرع منهم في الوصول إلى قراءة النص/مشهد الفتيات الثلاث، و إنتاج الدلالة/ابتكار الحوار، وأقدر على إقناع القارئ/المتلقي بمعقولية هذه (القراءة) وصحة ذلك (الإنتاج)، على الرغم من إيمانه بتعدد المعاني واحتمالية تنوع التوجيهات ولكن وفق ضوابط -من داخل النص أو خارجه- تُسوِّغ هذه (التعددات)، وتُقنع بهذه (الاحتماليات)، ويكون المعنى في كل مرَّة ك(القمر) الذي عرفته تلك الفتيات الثلاث.

Omar1401@gmail.com الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة