Culture Magazine Monday  22/01/2007 G Issue 183
مراجعات
الأثنين 3 ,محرم 1428   العدد  183
 

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

 

 

انتفضي أيتها المليحة

أحمد صالح الصالح

122 صفحة من القطع المتوسط

المليحة تظل مليحة وهي قائمة.. أو نائمة.. ساكنة أو منتفضة.. لأنها مليحة.. أما شاعرنا المسافر.. وهو المسافر دائماً فلعله يرغب أن تنهض من سكونها.. ومن قعودها كي تتحرك معه رفيقة درب.. وصديقة سفر.. ليكن له ما شاء.. وليكن لنا معاً كمتابعين معرفة نوع حركتها سريعة أم مثقلة.. متحركة أم ساكنة.. لا حراك فيها.. بداية يطرح شاعرنا سؤاله:

تتساءلين.. متى الإياب من السفر؟

ومتى يطيب لمن تغريه الحروف المستقر؟

يا انتِ. بعض هواي اتعبه السفر

وامضه كيد الرموش. وما يجيء به الحور

بين جهدين وبين إجهادين يعاني تعب سفر.. وكيد رموش.. المسافر يا مسافر لا يخشى التعب لأنه اختار.. والمحب لا تخيفه الرموش ولا تمضه لأنها بوابة النظر إلى عينيها السوداوين، أو العسليتين.. أو السماويتين.. والرموش حراب تدافع.. وتدفع إلى الغوص في أعماق الرؤية.

شاعرنا للمرة يطرح السؤال على نفسه: (أين وجهي؟).

كان للحلم شهيه..

كان للحالم من أوطانه بعض بقيه

ليلة واحدة حمراء فيها.. وانتهت فيها البقيه

كل هذا لا يكشف للمتابع وجهة الوجه التائه.. لعل في توابعه ما يجيب.. وأخاله أوصلنا من خلال ركام من التساؤلات إلى ما يعني..

من يبيع السيد المخلوع أرضا

من يبيع السيد المملوك بيتا

من بعير السيد المغلوب نعليه. وزيتا يطبخ الزاد

في كل هذه الأشياء وهي بعض من كل وجد تائهاً بين هبات الريح.. وعذابات الروح.. ذكريات طواه الجهل أو التجاهل لا بد من رؤيتها بوجه لا يضيع..

إن للذكرى حديثاً قبل أن تطوى فصول الوطن المذبوح

بين البحر. والبحر تذكُّر..

ان غرناطة كانت عربية. وتذكر

صار في القدس لدايان عشيقات وبيت

وله أصبح في القدس هوية..

هذا بالأمس.. اليوم يوم شارون وموفاز وزمرتهم.. كلهم فاز ببيت في القدس.. وهوية عبرية فوق جدرانها.. وما دمت تذكر يحسن لي أن أذكر شاعرنا.. أن كثيراً من الجُمل الشعرية التي تفتقر إلى علامات استفهام مهملة.. وبعض من لا يتطلب علامات استفهام مثبتة.. أخرى تقطيع أوصال أبياتك أقتطع جانباً من رونقها وتواصل طرحها.. إنه منحنى ومنحى لا أحبذه..

و(بلقيس).. أي بلقيس يعني.. أتلك اليمنية التي كشفت عن ساقيها وهي تطأ الأرض البلورية الفاضحة..؟ أم بلقيس القباني الذي في قيدها بشعره فأخصب لها الشعر. وأغضب من أغضب..؟ أم بلقيس ثالثة لا ندريها ولا نعرفها؟

بلقيس كم فتحت عيناكِ قافية

وأزهر الشعر في الأحداق مبتسما

بلقيس خلفتِ بحر الشعر منشطرا

فكل قافية لم تلتئم ألما

بلقيس عفواً نغصتني شوارده

وسيَّد الشعر في المأساة ما سلما

عرفناها.. بلقيس نزار قباني:

نزار ارجع هذا الحزن أفئدة

مر المصاب مشى في أهلهم عدما

مفردة مر تحتمل معنيين (مُر) من المرارة و(مُرَّ) من المرور.. وكي لا يلتبس المعنى لدى المتلقي يجدر أن تعطيها حركاتها (مُرَّ) بالضمتين.. رثائية كانت قفلتها أكثر إيحاء..

بيروت إن جراح الغدر موجعة

وأوجع الغدر غدر الأقربين حمى

مسافر يتواصل في رثائياته.. وتساؤلات يطرحها عناوين.. وينتظرها إجابات.. (كيف يموت الخوف).. أين علامة الاستفهام؟

بسام الشكعة يعرفك الأطفال مضيئاً في الطرقات

يعرفك الزيتون.. وصبر الفلاحات..

وتغنيك على مهد رضيع أم في القدس

تبارك مجدك سحرا في الصلوات

نابلس متيمة.. ولكم تعرف أنت

ترمُّل وطن كيف يكون. وكيف تموت وتولد مأساة

كلمة أنت لا بعد من وضع حركتها (أنتَ) للمخاطب الذكر وأنتِ (للمخاطبة الأنثى).. الرثائية معبرة بدلالاتها.. وصورها الحزينة أمام مشهد الرحيل لرجل مناضل. وفي قلبها تحدث الذكرى.. وتحدث صالحة للحدث.. وللتحدث.. وللتحديث.. ليته أفصحها.. من دلالات شطره الأول استان أن القلب هو الذي يُحدَّث:

يُحدِّث قلبك؟! من رعشة الشوق بين الضلوع

لا أجد معنى لعلامتي الاستفهام والتعجب انهما دخيلتان على الجملة.. إلا إذا كانت في صيغة كليهما.. أن كان الأخير فهما لازمتان لما بعدهما..

وأن تسبح الشفاه الشفاه كنار تواج

كتيار موج عصي القلوع

وأن توقظ الحلمات العطاش الشفاه

وأن يحمل الصدر أحلى الهدايا لتأخذ زينتها الأرض

يستطرد في سرده للصور السائلة.. أو المتسائلة عبر عصور الأساطير مروراً بعصر كسرى أنوشروان وصولاً إلى اشتهاء لذة حب تعقبها أخرى.. وفي نهاية المطاف قطاف حنظلي:

دعيني.. وأول ذكرى عرفتِ

فإن الزمان بما أنتِ أدرى

لعل ما كان يأمله شراباً ألفاه سراباً لا يروي..

(أعيذكِ) لها دلالة العشق المتيم الذي يصهر القلب.. ويمهره بخاتم العتب..

حلولكِ في قلبي. وبوح مشاعري

وفي النبض كم تأتين نفثة ساحر

سرتَ بي إلى دنياك عين بصيرة

وتأبى الليالي أن تكوني مُسامري

نَهاب الهوى.. أن ينشر الشوق بيننا

وتخفي حديث الحب عن سمع عابر

نعم نهابه.. لأن الحب في بعض عالمنا مسكون بالشك، والريبة.. وما هو أدهى.. ولكن شعلة الحب تأبى أن تتراجع رغم ستار الخوف..

ما برح شاعرنا يتمنى ويتغنى بأمنياته خشية أن يلوحها خريف خريف القطيعة البارد:

أعيذكِ من اثم الصدود وظلمه

ومن رحلة النسيان عبر مشاعري

أعيذكِ أن يغتال ظنكِ طيبتي

ومثلكِ في سمعي وانسان ناظري

من جانبه لا خوف.. الخشية من الجانب الآخر.. منها.. أو من يتحكمون في مشيئة قلبها وحبها.. إنه يرفع عقيرته منادياً ومناجياً.. يموت النداء وتجف المناجاة.. لا صوت ولا أثر. هكذا يعمد الشعراء.. ويختارون لشعرهم نهاية حائرة.

مسافر لا يحمل من مداعبة النحل ليس حباً فيه وإنما حباً لرحيقه.. والمرأة أشبه بالنحلة أنها تقرص.. إلا أنها تجود بأجود ما عندها..

وإذا كان الهوى عنواناً.. فإن لكل عنوان جملاً توصل إلى دلالاته.. (حديث الهوى):

يحدثني قبل أن ألتقيته

هوى بين جنبيَّ لا ينضب

وشوق تمرد في أضلعي

وقلب يحبك لا يكذب

فلما التقينا، وعانقتني

ودللت ثغراً كما يرغب

تعلمت كيف تجيء المنى

وكيف أمور الهوى تغلب

صورة للخطاب الوجداني تمور حيوية.. التجربة توصل إلى الحقيقة.. ولكن لكل حقيقة غائبة سبب لم يفسره شاعرنا لنقرأه..

هذه المرة مع لهيب حروفه وهو يواجه الزمن بسلاح الضعف.. لأن الزمن دائماً الأقوى..

أخذ الدهر كل شيء مليح

غير ما فيك من لطافة روح

يوم أشعلت في الحروف لهيبه

ملك الحرف كل معنى فصيح

تستعيدين فالداء ليس يبلى

وتعيدين فيه عذب القريح

لقد ظلمت الزمن. ظننته شحيحاً. إلا أنه أبقى لشاعرنا لطافة الروح.. وذكريات لم يقدر النسيان على نسيانها.. هذا كثير..!

مسافر يسترجع التاريخ كشاعر.. والتاريخ الذي نتذكره ونذكره بالخير رصدناه في إشعارنا دون أن نضيف إليه الجديد... بل إننا أحبطناه داخل ذاكرتنا الزمنية.. حولناه إلى متحف مغلق لا يكاد يزوره أحد.. أبو الطيب المتنبي كان شاهداً..

قالت حذام (امرتهموا أمري بمنعرج اللوى)

وما قاله شاعرنا يندرج في هذا السياق:

نقضوا أكفهموا.. وداكوا الأمر فيما بينهم..

وتذاكروا مأساة صفين

وللأحداث رائحة النسيء

والخيل عاكفة على أكفان بلقيس تسف دموعها

والنوق أعطش حزنها شمس الظهيرة..

والمروءة لا تجيء

استنجاد أشبه بصرخة في وسط وادٍ.. أو أذان في مالطة يُراجَّع.. ويَرْجِع دون صدى.. ومع حذام ثانية وهي تقول:

(إنهم لم يستبينوا النصح)

واتخذوا حديث إفك.. بعض حديثهم

ابن أبي سلول.. وبنو قريضة، وكافور الأخشيدي، والعجل الذي لا يخور.. وعزيز.. يلتفت إليها المسافر وفي فمه جملة موجعة تضيف المزيد والمزيد..

ضاجعوا قطر الندى في القدس

وافتضوا الخيول العربية..

قرؤوا التلموذ في الجامع جهرا

رقصوا في قبة الصخرة عريا

مارسوا الشهوة فيها وتساقوا

لا غريب يا شاعرنا.. المفسدون في الأرض ماذا تنتظر منهم..؟ للحقيقة لنقل ماذا ننتظر من أنفسنا لأنفسنا؟ القدس ليست وحدها التي تصرخ.. وبقايا فلسطين ليست وحدها التي تستصرخ.. شبعا واجمة. والجولان يجلدها الجلاد.. والعراق يمزق.. ولبنان تتصارع. وسورية على كف عفريت.. والسودان سودانان.. والمسلمون في كشمير، والبوسنة، والفلبين، والشيشان.. والحبل على الجرار.. من أين نبدأ وإلى أين ننتهي..؟ انطوى عهد خالد، وعمرو، وصلاح وجاء عصر السفاح يبشر بديموقراطية الاحتلال والإذلال والاستسلام.. في الفخ أكبر من عصفور.. دع أبا الطيب في مرقده لا توقظه حتى لا يبكي لنا أمواتاً ونحن أحياء!

مسافر.. يطرح الأسئلة.. وغالباً ما يجيب عنها.. أو تنتهي عند إجابة.

تنادين؟! في لحظة العشق. من أين يأتي الخريف؟!

وأنى له أن يجيء القلب يريد؟ وحب له أن يشاء؟

تعيدين بعض الحكايا..

وتلقين في وجه هذا المساء همومك..

ألا تعلمين من يبتدي زمن الشعر؟

يعبر في كل نسغ. يبث خوف العيون النواعس؟

كالنبض يسري بكل الدماء

أسئلة تليها أسئلة.. يشخص أخيراً في عينيها:

بعينيكِ ألقيت هذا العناء

ومسحت عن تعبي في الرموش

ومارست فك قيودي.. فما كان؟!

قيدها وحدها هو الذي كان.. وكبرياؤها وحده هو الكائن المتحرك.. إنه يريدها.. ويريده ألق ذكريات.. هوى مستبداً، شفاهاً تتحدث عن شوقها في غرور.. وثغراً شهي المذاق.. يبدو أنه عاد خالي الوفاض كما عودنا..

المليحة تطل علينا من جديد.. هل هي منتفضة؟ أم أنها مغمضة العينين..؟

أفضت إلى دار العلوم كأنما

للحسن في أهدابها تسبيح

ألقت إلى روادها بفنونها

فإنه الفؤاد متيم وجريح

أتجاوز التوصيف وتوظيف المفردات إلى الزبدة:

يا من إليكِ تلفتت عين الرضا

وتساءلت. فإذا الجواب شحيح

يقتادني هذا الدلال كأنني

طفل لديك حديثة مفضوح

ماذا نركت أنا؟ كتاب شاعر

وقصيدة عنوانها التبريح

لا أشتهي إلا يديك تضمني

تأتي تخفق مشاعري ونبيح

النهاية معروفة.. لا شيء مما تمنى.. الشعر خيال.. والشاعر دعاؤه الذي لا يملك القدرة على التصرف.

(من أجل من؟) عنوان شاعري.. والقصيدة تقرأ من عنوانها:

تذودين عينيك عن حجبات الهوى

بين غار مهيض ونار

من أجل من أنبتوا اللحم

واستقرؤوك الكتاب؟

والقوا على مسمعيك أحاديث عشق

رديء مرير الحوار؟

علامات استفهام ثلاث كانت ناقصة وأضفتها.. شاعرنا يتعذب لعفة مغتصب نهشت الذئاب البشرية حرمتها وشرفها.. عيون زائفة.. وأطراف مرتعشة.. وقميص قُدَّ من قُبُلٍ.. وضراعة لا تنتهي.

بعينيك كم أسكنوا من مآسي

وقدوا قميصك..

لا يفقهون عن الحب الا اغتصاب المحار

والا صفحات يقلبها مسافر.. يبحلق في سطورها بين نار الغضب.. وعار الفضيحة.. وغار المأوى الذي لا يستمر العري لأنه ملجأ للذئاب..

(لم يأت زمان الغيث..) المحطة ما قبل الأخيرة.. إنه مخلوق غير خليق يعرِّي مظهر مخبره.. اجتزئ من القصيدة أحد مقاطعها:

سبات الملتف بهذا الغمد طويل

يضاجع هذا الحزن عيون الناس

يمرق كالسهم مع الأهداب

يقعقع بالشنآت لكل الأجناس

هذا الفاسق يأتي الفاحش بين الحلم

هذا الفاسق يفقد عيناً قدر النطق

يفقد دوماً أخذ الحق

يجاهر هذا الفاسق بالرجس

قلبي يعرف أن الصمت هوان العصر

بهذا القدر باح.. وصمت على صياح الديك عند الصباح.. أخيراً مع القصيدة العنوان: (انتفضي أيتها المليحة) يقول فيها:

يا أيها المغلول بالذنوب

موجعاً بنفسه وبالأغراب.. واليهود

يا واحدا له من الأشياء ما يريد

يا قزما تسكنه المعاصي طلعه الصديد

تعيذك الغيلان من شرورها

تطلبك الأجنة المخبئات للقصاص

يستطرد في سرده.. إلى ضحية الغيلان الزاحفة من خلف الحدود..

يا حلوة.. تُغسل في الصباح والمساء بالدموع

انتفضي.. انتفضي..

أثوابك الفضفاضة اشتهتها جوقة الغلمان

عيناك بحر ليس يملك الهدوء بعد الآن

مناطق الحلال والحرام صبَّها الفساق

وا فضيحة الأعراب!! يا لعزة القبيلة

تناسخت في بضعك الرؤوس والأذناب

انتفضي للحرف سطوة، وللكلام صولجان

قولي لكل العاشقين الصمت مات بعد الآن..

هذا ما قاله لها.. لعلها قرأته.. أو ستقرؤه في قادم الأعوام.. إنها حرة.. والحرة كالحر لا يبيتان على ضيم. ولا ينامان على قهر.

وبعد.. مليحة شاعرنا آثرت أن تكون بطلة رحلة سفر مع مسافر.. أثْرت الرحلة بمادتها إمتاعاً.. واثَّرتْ فيها إشباعاً واندفاعاً.. المليحات أحياناً يستجبن.. وأحياناً يتمردن.. في الاستجابة عذوبة.. وفي التمرد عذب يستطيبه من يرى في الحياة مغازلة حب، أو منازلة حرب لا بد منها لإذكاء شعلة الصحوة.. الحياة صحوة قلب.. ويقظة ضمير الحياة حب يسمو على حب الجسد.. شكراً لشاعرنا مسافر.. ولمليحته الأمل في أن تكون رمز جمال خَلقي، وخُلقي.. ودافع حركة تعوض بها صمت الراقدين الذين يستغرقهم السبات.. وتنعاهم الحياة.

* الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة