Culture Magazine Monday  23/04/2007 G Issue 196
فضاءات
الأثنين 6 ,ربيع الثاني 1428   العدد  196
 

مساقات
(فِتْنَة): قراءة نقديّة! (1-5)
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

-1-

(فِتْنَة): رواية للكاتبة أميرة القحطاني (بيروت: دار العلم للملايين، مارس 2007). تقع في 134 صفحة، من الحجم المتوسط، و12 فصلاً.

عَتَبَاتها لا تُؤْذِن بفِتْنَة، فيما عدا العنوان. فلوحة الغلاف الأمامي تحمل فروع شجرة شوكيّة باهتة، تُطلّ من خلفها ثمارُ تفاح، على ما تبدو، ناضج بعضها وبعضها ما زال أخضر. كأن واضعها قدّر أنها ترمز للفِتْنَة! إلا أنّ الغلاف الخلفي يأتي بشكل طريف، من خلال عرض رسالة موجهة إلى القارئ، تشير فيها الراوية (فِتْنَة) إلى أنها فكّرت في استكتاب تلك الخلفية التعريفية من أحد الإعلام، لكنها أحجمت عن هذا، لكونها كاتبة جديدة في الفن الروائي، فاتّكلت على الله، مكتفية بأسطرها هي، إذ تقول على لسان بطلتها:

(أنا فتاة اسمها فِتْنَة وصلت إلى هذه الدنيا بواسطة أبٍ سعودي وأُمٍّ قَطَريّة، كما أنني لست كباقي الفتيات، ربما ظاهريًّا أبدو كذلك، أمّا داخليًّا فلا، ففي داخلي توجد فجوة خَلَقَها طلاق أبي من أُمّي وخَلَقَتْها القبيلة. خَلَقَها هذا المجتمع المريض وهذه العائلة المحافظة. خَلَقَتْها العادات والتقاليد البالية. خَلَقَتْها كلمة عيب وكلمة حرام. فجوة لعينة جعلتني، ومذ وعيتُ هذه الدنيا، أدور في فراغ ساديّ وأسير بخُطًى متعثّرة في طريق مظلم يؤدي بي دائمًا إلى لا شيء!

أنا في الواقع لا أملك حياة، لا أملك مبدأً، لا أملك هدفًا، لا أملك شيئًا على الإطلاق. لا أملك سوى هذه القصة التي لم أكن أنوي كتابتها لولا تدخل صديقتي أميرة القحطاني، التي حثّتني على الكتابة للخروج من حالة البؤس التي أعيشها، فقد أقنعتني بأن المتنفّس الحقيقيّ والوحيد للإنسان هو (الحرف). وقد بدأتُ أدوّن حكايتي أثناء رحلتي إلى الحجّ، وهذا أمر غريب بعض الشيء، ولكن لو نظرتم إلى حياتي فلن تستغربوا أي شيء أفعله. وبغضّ النظر عن هذه المقدّمة المؤلَّفة، أنا الآن، عزيزي القارئ، بين يديك، ولكَ حُريّة الاختيار: إمّا أن ترافقني الرحلة، وإمّا أن تُعيدَني إلى رفوف المكتبة.

فِتْنَة عبدالرحمن القحطاني

بطلة القصة وراويتها).

وقد آثرتُ سوق هذا النص كاملاً لأنه بمثابة خلاصة للرواية وتعبير عن طبيعتها.

والكاتبة تُراوح في تسمية عملها بين (قصة) و(رواية)، في قلق اصطلاحي، أو في عدم يقين بالفارق النوعي بين دلالة هذين المصطلحين. أمّا العمل في ذاته فهو: رواية.

-2-

وقد اختارت الكاتبة أن تُهدي عملها إلى (البطل.. جوناثان ليفنغستون..). وألمحتْ إليه في الرواية بقولها:)... أنا لا أُحِبّ الإنسان أصلاً ولا أميل إليه. وبمعنى أَدَقّ (أكرهه)، وأعشق الحيوانات والحشرات والطيور، وخصوصًا (النورس جوناثان)، حبيبي وصديقي ورفيق روحي.. لو كان (جوناثان) رجُلاً لَقَبَّلْتُ قدَمَيْه وتَزَوْجْتُه. هل يعلم الكاتب (ريتشارد باخ) بأنه سوف يوقظني من سُباتي العميق بمنقار هذا الطائر الجميل الذي ظَلَّ ينقر في رأسي لسنوات حتى استَفَقْت؟(ص 116).

وفي هذا إشارة، مفتاحية كاشفة، إلى واحدة من أشهر روايات العالم خلال السبعينات، هي رواية (النورس جوناثان ليفنغستون)، لريتشارد باخ، التي كانت أكثر الكتب مبيعًا في أوروبا وأمريكا. وقد أصبح نموذج ذلك النورس الصغير، بطل تلك الرواية، مثلاً أسطوريًّا للتمرّد على أقانيم المحاذير لدى الآباء، وتردّدات القانطين، وعجز المتكلّسين، وكآبة الكسالى، لنفض أجنحة المغامرة، والتحليق في جسارة وراء الغامض، وفضاءات المجهول، ومن ثم تذوّق سعادة التحقّق والإنجاز والجمال الروحاني اللانهائي. ومن خلال حكاية النورس استبطن باخ روح الإنسان، وطموحه، وعذاباته في مواجهة التقاليد السائدة، وأولها ما يفرضه الأب والأُمّ على أطفالهما من قِيَم متوارثة، في قَمْعٍ وإلزام شديد بأعراف القطيع، الذي لا يصحّ بحال التحليق خارج سِربه، ومن تجرّأ ففَعَل نُبذ ونُبز بالجنون. وتلك قضية كل المصلحين والثوّار والأنبياء مع أهليهم على امتداد التاريخ البشري، يختزلها الكاتب في أسلوب رمزي من خلال معاناة ذلك الطائر. فلقد حاول النورس جوناثان أن يترفّع عن حياة الطعام والنوم، التي يعيشها سلفه ورفاقه النوارس على الشاطئ، مكتفين بالدود والبحث عن صغار السمك، لكي يكتشف طاقاته الحقيقية، فيحلّق إلى السماء، ويكابد الفشل والانكسار، دون يأس من النجاح أو كلل في مطاولة العُلَى، حتى استطاع بجهده الشخصي أن يحقّق أرقامًا قياسية في سرعة الطيران. وبعد تحقيق النورس جوناثان بعض طموحاته عاد إلى قومه هاديًا وبشيرًا، وداعيًا إلى اكتشافاته في عالم الحريّة والترقّي، فواجهته قبيلة النوارس بالنكران، ونقموا منه خطيئة تخطّيه الخطوط الحمراء لعالم النوارس، ومُنع من الخوض في ترّهاته، أو تعليم الطيران - على طريقته - لصغار النوارس. فاعتزل جوناث أن النوارس وما يعتقدون إلى صخرة مشرفة على البحر، ليكتشف هناك أن (الآخر هو الموت)، وأن المجتمع هو مصنع الفناء لأفراده. وفيما هو يكبر، ويزداد بسطة في الجسم والعلم بفنون الطيران، يفاجأ ذات مساء بنورسَين شفّافين على مشارف السماء، ذوَي أجنحة من نورٍ وذهب، يصطحبانه إلى (دِيْرَة) النوارس الحقيقية، ليعرف من خلال أستاذه النورس شيانغ أن خلف سمائه سماء أخرى، ومن وراء معرفته بالطيران بحرًا من المعارف لا ساحل له. كما تعلّم منه دروسًا في لا محدودية الأمل والطموح، وأن الأمر ليس بتحقيق الأرقام، ولكن بتحقيق الأحلام، فبسرعة الفكر والخيال يصل النائي ويدنو البعيد، لا بسرعة الطيران. وبعد استكمال دروسه واختفاء معلّمه يهبط جوناثان من السماء إلى بني قومه من النوارس، فيؤمن معه من آمن، ويتعلّم منه من تعلّم، ليزداد سواد الثوّار حوله والأتباع. لكن كبار القوم ما لبثوا أن توجّسوا منه خيفة على مجتمعهم المتخلّف، فأجمعوا أمرهم على التخلّص منه، ولم يُنجه من محاولة قتله وصلبه إلا الطيران. ومع ذلك فقد بقي قلبه ينبض بحُبّ أهله وقومه، دونما كراهية أو حِقْد، مشفقًا عليهم مما هم فيه من ضلال وضياع، حريصًا عليهم، لكنه مُبعد مرفوض.

ونصّ باخ ذاك نصّ رمزيّ فلسفي، يذكّرنا بنماذج نظيرة من هذا القبيل، كحيّ بن يقظان في التراث العربي مثلاً، غير أن بِزّة النصّ المسيحيّة لا تخفي عن قارئ (جوناثان ليفنغستون)، وإن حملتْ خارج ذلك دلالاتها الإنسانية العامة. وقد سقناه هنا لأنه يُعَدُّ خلفيّة مهمّة لقراءة نصّ (فِتْنَة)، كما سنرى.

-3-

تقوم رواية (فِتْنَة) على تقنية التداعي والتذكّر، في حركة (بندولية) بين الأحداث والمشاهد التي تمرّ بها البطلة خلال رحلتها إلى الحجّ وأدائها مناسكه وذكرياتها منذ الطفولة. وقد كانت رحلة حجّ شاقّة، ظلّت البطلة فيها قلقة من أن تفقد أمّها، لرؤيا كانت رأتها الأمّ، تقول فيها لإحدى جاراتها المتوفيات: (أنا قادمة من الحجّ)! ولمعاناة فِتْنَة فَقْدَ الأبّ - نتيجة طلاق أمّها وتخلّيه عنهما ثم وفاته - فقد باتت تحمل عُقدة الفَقْد، وتترقّب فَقْدَ الأُمّ أيضا في كل حين.

وخلال رحلة الحجّ القلقة تلك تسبح البطلة في ذكرياتها، ومنها تذكّر أبيها، وزياراتها للدّيرة في منطقة عسير.

(وفي المساق الآتي مزيد).

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

*عضو مجلس الشورى aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة