Culture Magazine Monday  23/04/2007 G Issue 196
فضاءات
الأثنين 6 ,ربيع الثاني 1428   العدد  196
 

طاير!!
محمد بن أحمد الشدي

 

 

فكرت أكثر من مرة في كتابة مسرحية من النوع (التراجيكوميدي) اسمها طاير. وطاير هذا شاب ريفي خلوق بسيط، لا علاقة له بالطيور ولا بالطيران، وإن أوحى اسمه النادر الغريب بذلك، لكنني أجلت تنفيذ هذه الفكرة الآن لما يشتمل عليه هذا العمل من شخوص وتداعيات كثيرة تحتاج إلى وقت!

لقد عرفت (طاير) عن قرب في بداية رئاستي لتحرير مجلة اليمامة عندما كانت تطبع في مطابع الرياض في المرقب، حيث كان يقوم بإخراج بروفات المواد الأولى المصفوفة على مكائن الإنترتيب واللينوتيب، وإيصالها إلى قسم التصحيح أو التحرير.

وكان من العمال السعوديين القليلين الذين يلبسون القميص والبنطلون دون أي غطاء للرأس، ويمارسون عملاً صعباً يتسبب في اتساخ أيديهم وأرجلهم ووجوههم أحياناً بمختلف ألوان الحبر التي لا تزول بالماء والصابون والبنزين، ولا أي منظف آخر. فتظل آثارها على وجهه وثيابه!

أعجبت به للوهلة الأولى كعامل سعودي جاد في عمله، لا يشكو من شيء ولا يترفع عن عمله، فسألته إن كان راضياً بوظيفته، فأجابني: العمل شرف وما هو بعيب، فزاد إعجابي به؛ ما جعلني أطريه أمام بعض موظفي المطابع واليمامة، فإذا بأحدهم يقول ضاحكاً: هذا يا شيخ جاهل ومسكين ولا يفك الخط. قلت: لا يهم، المهم أنه مثابر على العمل ويأكل من عمل يديه.

ومرت الأيام، وطاير في المطابع يتعلم ويغدو ويروح ولا يتغيب عنا يوماً واحداً، والعمال والموظفون كلهم يمزحون معه ويهزؤون به أحياناً ويفعلون معه المقالب الساخنة، وهو ضاحك أو باسم لا يغضب من أي شيء.. ولا حتى من هوامير الصحافة الذين يأتون يومها إلى تلك المطابع (الدعلوب) التي تنزل لها درجات ودرجات!

بدأت أراقب هذا الشاب، وتصرفاته، وأقواله، فوجدت فيه ما يستحق القراءة والتأمل وربما الاعتبار!

كان يمشي كأنه يركض، وكان عندما يكون داخل مبنى المطابع يغني ويلعب كالطفل، وكان كثيراً من الأحيان على الرغم من بؤسه وفقره يوزع البسكويت على زملائه العمال، وحين يستهجن أحدهم هذا التصرف منه يقول: خذوا الدنيا ببساطة، كله رايح يا ناس!

لذا هو يضحك، وإذا طلبت منه خدمة يعملها ونفسه رضية هانئة.

- طاير رجل كما يبدو ضحية تارة، وتارة ساخراً، وتارة يرى الناس أمامه هم الضحايا والمفلسون، الذين يموتون من الهم! فيكثر من الضحك! من يدري؟ لعله على حق.

قلت له ذات مرة: هل تهتم بالسياسة يا طاير؟ قال: خلوا السياسة لأهلها. وعندما وقعت هزيمة حزيران سألته: ما رأيك يا طاير في هذه الهزيمة المؤلمة؟ قال: أي هزيمة؟.. هذه اسمها (فضيحة)!

قلت له طيب هل تعرف الحب؟ قال: ها.. (مثل قيس وليلى ذولا بلدياتي وأنا أشوفكم تكتبون عنهم (هنيا) وعن جبلنا - التوباد).

هذا الشاب لا يشغل باله بشيء، لاحظت كأنه إنسان لا منتمٍ، وإن كان لا يقف هذا الموقف أو يفكر فيه، كان كالإنسان الواقف والدنيا تدور حوله، لا يريد أن يفكر في أي شيء سوى الحياة، والمرح، والصفاء، والرضا.. رضا الضعفاء وإيمان العجائز.

ومنتهى سعادته إذا أنجز عمله اليومي وأخذ يغسل يديه بصابون التايد وهو يرفع صوته بتلك الأهزوجة الجنوبية (يالا له يا لا له).

لدي أشياء كثيرة عن طاير، قد تتشكل في يوم من الأيام في مسرحية أو رواية. لكن السؤال أو الأسئلة التي تنتصب أمامي كأشجار النخيل كلما تذكرت طاير هي: أين هو؟ أين يعيش؟ هل توفي؟ هل تزوج؟ هل عاد إلى قريته في الوادي؟ هل ملأ رأسه الشيب؟ كان يقول عندما يرى الشيب يتدلى من رأس أحد الكبار: شف.. شف.. كأنه طالع من ماكينة طحين!! ويضحك ونضحك معه!

يا رعى الله تلك الأيام الخوالي، سنكمل طاير ومن يحيطون بطاير من أمثال زميله الصميت وعاشور.. ومن الصحفيين والكتاب وغيرهم.

- ثم هو يرتجف عندما يسمع صوت ذلك الأديب الكبير يناديه وهو يقول له يا بابا، ويسرع له، وله معه مواقف إنسانية، أما الصحفي الضعيف القليل الجسم الفرحان بسيارته الأوبل السوداء فهو يعض لسانه من خلفه! وصاحب النظارة السوداء يقلده بنتف شاربه! والآخر يدخل إلى المطابع وقد وضع غترته ومشلحه على أنفه وطاير يحمل شنطته ويقول: تلاقيه شبعان من فقع روضة التنهات!

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5064» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة