Culture Magazine Monday  23/04/2007 G Issue 196
فضاءات
الأثنين 6 ,ربيع الثاني 1428   العدد  196
 

وجه من الذاكرة
(عفّون) ذلك المخبر السري العلني
عبدالرحمن مجيد الربيعي

 

 

عفّون هذا هو اسمه الذي ينفرد به إذ لا أحد في مدينتنا الجنوبية الوادعة يحمل هذا الاسم عداه، ولذا ما أن تنطق به حتى يعرف السامع من المقصود.

ذات مرة سألنا معلم اللغة العربية عن معنى هذا الاسم فردد مستغفراً: أعوذ بالله!

وبعد إلحاحنا قال: مشتق من العفن، أو العفونة.

ثم استدرك:

- وهذا منبته.

أما نحن فلا ندري لماذا سمّي بهذا الاسم الذي اقترن بأهزوجة كنا نرددها في صغرنا حتى قبل أن نراه ونعرف أنه المقصود بها. وتقول كلماتها:

سقط حزب النذالة

من انسجن عفّونْ

يا مربي الحمام

ومطعم البزّون (القط)

كل واحد مثله يونّ عليه

وهي أهزوجة تبدأ بما يشبه إبلاغ النبأ وصولاً إلى مقطعها الأخير الذي يردد بإيقاع متسارع مع قفزات على الأرض وتلويح بالأيدي وبصيغة (الهوسات) العراقية المعروفة.

وعندما كبرنا وصرنا نخرج إلى الأسواق أو إلى المدرسة تعرفنا على ذلك الشبح الذي أغرقناه بالأهازيج واستبدلنا كلمات أغان شائعة لنضع اسمه فيها. كنا نرددها بتلذذ عجيب لم نكن نتصور مغادرتنا له يوماً لتحلّ محل كآبة مقفلة.

كان له شاربان متميزان لم نر مثلهما عند رجال المدينة فهما معقوفان مرفوعان إلى الأعلى وكأنهما جناحا صقر على العكس من الشوارب الأخرى الملتصقة فوق الشفتين وعند البعض تمتد مساحتهما إلى جانبي الفم إلا شاربا عفون فهما الوحيدان اللذان يحسد عليهما رغم أن حالته كلها مثار ارتياب.

كان متوسط القامة يميل إلى الامتلاء. وصدره عريض وقد ذكر أنه بقي يمارس رياضة رفع الأثقال منذ شبابه المبكر ولم ينقطع عنها.

طلعته مهيبة خاصة بهذين الشاربين، وعندما كنا نتساءل عن الكيفية التي بواسطتهما يجعلهما واقفين جاءت التخمينات أنه يلصقهما بصمغ خاص يأتي به من البصرة، أو أنه يضع لهما زيت الشعر (بريل كريم) وهو أشهر زيت شعر وصل المدينة فتلقّفه الشبان علّ شعرهم المفتّل يصبح ناعماً به.

وما زلنا نتذكر الخياط (ستار بصّيص) الذي تميز عن شبان المدينة بشعر ناعم غزير تحسده النساء عليه.

وكان يعقصه على طريقة الممثل الأمريكي الشهير وقتذاك (توني كيرتس) وكانت فرحته لا توصف في تلك المدينة الشاحبة التي لا تحمل أي جديد من المفاجآت فجعلت سكانها يسيرون كالمسرعين في ليالي القيظ والقنوط عندما يعرض فيلم لتوني كيرتس هذا في إحدى سينماتها إذ يتردد على الفيلم طيلة أيام عرضه التي تبلغ أربعة أيام في أحسن الأحوال وكأنه يقول انظروا أليست تسريحة شعري مثل تسريحة شعره؟

***

أصبح عفون شرطي الأمن الأكثر شهرة في المدينة. وقد بقي يرتدي الملابس المدنية: العقال والشماغ والصاية والجاكيت والحذاء اللماع فهو شرطي سري، ولكن أية أسرار في مدينتنا والناس فيها كما يقول مثلهم (تعرف النغل ومن بزّره).

وسمعنا أن عفّوناً هذا تزوج نساء أكثر من اللواتي تزوجهن شيوخ العشائر المرموقون ذوو الاقطاعيات الزراعية الكبيرة والذين كانوا يحكمون المدن، ولهم حتى سجونهم الخاصة وعبيدهم ومحظياتهم.

كما سمعنا أن لعفون حالياً ثلاث زوجات يجمعهن في بيت واحد، وكان بينهن السيد المطاع، ويجلد بالحزام من تغضبه. وما أن يدخل البيت حتى يتوزعن مهام راحته، ينزعن عنه ثيابه، ويمسدن جسده ويغسلن رجليه ثم يقدمن له طعامه. وعندما يستسلم للقيلولة في أيام الصيف التي تشكل ثلاثة أرباع أشهر السنة فإنهن يتناوبن على تحريك المروحة اليدوية التي كنا نسميها (مهفّة) أمام وجهه حتى لا تحط عليه ذبابة.

وقد سرت شائعة قول إنه يعاشر زوجاته الثلاث كل يوم. رغم أنه ينام في غرفته الخاصة في منزله المطل على (شارع الهواء) الذي كنا نسميه (عكد الهواء) أو (الهوا) فقط بعد حذف الهمزة التي لا قدرة على البسطاء منا لنطقها.

وكان عفون يجمع زوجاته الثلاث في منزله هذا ليبقين تحت هيمنته وإشرافه، وهو بهذا قد كسر القاعدة التي عمل بها رجال آخرون لهم أكثر من زوجة وهم غالباً من الموسرين لذا يخصصون لكل زوجة بيتاً مستقلاً تقيم فيه مع أولادها. ولكل زوجة ليلتها.

وكان عماد طعام عفون في الغداء السمك، إذ لا بد من سمكة كبيرة مشوية بالتنور ومعها أرغفة الخبز الذي تقوم زوجته الكبرى بإعداده. ومع السمكة هناك ما يسميها سكان مدينتنا (المباشات) وتضم (الطريش) والبصل والطماطم و(العمبة) الهندية وما شابه.

***

كان عفون يقول عندما يسأل عن إصراره على ارتداء الزي العربي:

لأنني أول شرطي سري يصبح علنياً بهذا الزي، وإن استبدلته بالجاكيت والبنطلون آنذاك أصبح شرطياً سرياً فعلاً.

ويضحك عن أسنان قواطعها من الذهب.

وقد دخل عفون معظم بيوت المدينة التي فيها شبان لهم نشاط سياسي عندما تقوم الشرطة ب(كبسة) و(يدوسون) فيها أحد البيوت وفق مصطلحات الشرطة وقتذاك بحثاً عن منشورات سرية أو كتب ممنوعة.

ويسجل أهالي الناصرية له أنه يوصل الخبر للذي سيداهم بيته من أجل أن يروا كل شيء في البيت (صاغ سليم) عندما تتم مداهمته ولذا يحظى عفون بالإكراميات هكذا يحب أن يسميها ويكره استعمال كلمة (رشوة) فهي حرام كما يقول. أما الإكرامية فهي (حلال بلال) و(منين أعيش ثلاث نسوان وأكل زين حتى أعدل بين زوجاتي الثلاثة، والرابعة قد تكون في الطريق).

***

كانت المدينة لا تعرف الغليان وتظل على هدوئها رغم عمق الحياة السرية فيها، إذ كانت همزة وصل في ثورة 1920 بين المدن الثائرة ولذا اختارها شاعر هذه الثورة الحبّوني ليقيم فيها، وهناك مرض وتوفي. وبعد سنوات طويلة سيطلق اسمه على أكبر شوارع المدينة ويقام له تمثال فيه وسينسى الجيل الجديد اسم (عكد الهوا) ويعرفوه باسمه الجديد شارع الحبوني.

***

كانت المدينة تعيش تطرفها مثلما هو مناخ العراق كله، حرارة لانطلاق على امتداد السنة تخرج البشر عن أطوارهم. ولا يخف هذه الحرارة إلا في ما يسمى فصل الشتاء.

ذات يوم ساخن سمع سكان محلة السراي صراخاً نسوياً تطلقه أكثر من امرأة يتردد فجراً:

يا بوي، يا بوي، يا بوي.

وكان مصدر الصراخ دار عفون وتطلقه زوجاته الثلاث اللواتي خرجن للشارع فتجمع الناس وعرفوا الخبر، لقد وجد عفون مذبوحاً في غرفته التي كان يصر على النوم فيها وحيداً بعد أن يعاشر زوجاته الثلاث وفق برنامجه اليومي.

كان دمه ينساب من جثته إلى باحة البيت وقد اكتشفته زوجته الكبرى عندما نهضت لتتوضأ وتصلي.

وهكذا انتهت حياة عفون، ولم تستطع لا الشرطة العلنية ولا السرية التي هو منها أن تعرف قاتله، ومن كان على عداء معه.

أصبح مقتله حديث الناس وردد سكان المدينة كلمات المواساة: لا حول ولا قوة إلا بالله!

وقد سمعت أن الحادثة التي حركت ركود مدينتنا وصارت على كل الأفواه قد سجلت ضد مجهول وانتهى الأمر.

***

عفون ذاك يذكره الآباء وقليل من الأبناء لكن الأحفاد لا يذكرونه، ولا يعرفون من المقصود بتلك الأهزوجة المنغمة التي يرددونها في لعبهم:

سقط حزب النذالة

من انسجن عفون

يا مربي الحمام

ومطعم البزون

رغم أنه لم يسجن ولم يرب الحمام، أما النزالة ففيها وجهة نظر.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة