Culture Magazine Monday  23/04/2007 G Issue 196
فضاءات
الأثنين 6 ,ربيع الثاني 1428   العدد  196
 

الأنصاري رائد الرواية (4)
(التوأمان) توليفة القطع والعبور
سحمي الهاجري

 

 

إذا استعدنا مقولة الغذامي عن الذات الفردية الواعية المتحررة، والذات الاجتماعية المحافظة، فإننا نتوقع أن نجد في العمل مستويين من الأداء، ظاهري وجوهري، وهو ما تحقق في (التوأمان)، حيث نلاحظ أن المسألة ليست انشطار العمل بشكل رأسي بين الشكل الحديث والمضمون التقليدي، كما قد يبدو لأول وهلة، بل يأتي وجودهما أشبه ما يكون بالثمرة والقشرة، أو بالجوهرة المغلفة بعلبة عادية، ومع أن العمل في ظاهره يشابه الخطاب الاتباعي، فإنه في جوهره ينتمي للخطاب الابتداعي.

ومن الواضح أن أغلب الدراسات السابقة ركزت على الظاهري، أكثر من تركيزها على الجوهري، مع أن فائدة الظاهري تنحصر في قدرته على تمرير العمل داخل البيئة المحافظة.

لنأخذ مثالا يوضح الأمر، عندما أنشئت الإذاعة ورفضها بعض الناس، بث لهم منها نصوص دينية، فاقتنعوا في ذلك الوقت، وبقيت الإذاعة ذاتها كجوهر تقدم شتى المعارف والفنون حتى اليوم، وهذا يشبه ما فعله الأنصاري بالنسبة للرواية، فقد بقي الجزء الجوهري من العمل حتى اليوم، وسيعبر إلى المستقبل أيضا، في حين اقتصرت فائدة الجزء الظاهري على تمرير الأجناسية الروائية إلى الساحة الثقافية المحلية، ويؤكد هذا ما حدث لمسرح السباعي من تدمير؛ مما جعل المملكة خالية من الفن المسرحي حتى اليوم، مع أن السباعي في ذلك الزمن كان سيقدم على مسرحه أعمالا تاريخية وتربوية ودينية، ولكن الخطاب المحافظ كان قد أدرك أخيرا أن الخطورة تكمن في القوالب والبنى والمفاهيم الحداثية التي تنتج المعرفة، وليس في المضمون المباشر الذي يقدم المعرفة.

والبحث عن ما هو جوهري، وما هو ظاهري في الرواية، يتجلى في الرجوع إلى (توليفة) القطع والعبور التي ميزت أسلوب الأنصاري في عمله، وجعلته يمرر في (ألفة) وهدوء وعمق أدبيات هذا الجنس الأدبي الثوري، ويقطع مع مفاهيم تقليدية، ويعبر إلى مفاهيم حداثية بطريقة لطيفة وعميقة وغير مستفزة للخطاب التقليدي المهيمن، مع أنه كسر المألوف وطرح ما لم يكن مطروحا، والأعمال على هذه الصفة تتغلغل مكنوناتها في الذهنية العامة للناس، وتوجه أفكارهم وسلوكهم وذائقتهم.

والرواية تنفتح على الجنس الأدبي كما تنفتح على الخطاب الثقافي، وحين يكون سؤال المرحلة سؤالا ثقافيا، فإن الخطاب الثقافي يبرز في الرواية، ويقوم على استصحاب القيم المفقودة أو المتحولة في الخطاب السائد، وهو ما تحقق بنسبة معتبرة في (التوأمان) تبعا لطبيعة أسئلة التحول والنهوض، التي صاحبت نشوء الدولة، وبدء مسيرة الاستنهاض.

والأمثلة في الرواية كثيرة ودالة، مثل القطع مع الكتابة التي تستمد مرجعيتها من زمن غير زمنها، والعبور إلى كتابة جديدة تواكب حركة زمنها، فالحاجات الجديدة تتطلب مرجعيات جديدة، وتجديد الوسيلة (الرواية هنا) هو في حد ذاته بحث عن مرجعيات جديدة. ومثل القطع مع الخرافة والحظ والحسد والصدف، والعبور إلى العقلانية، وقانون السببية، حيث ترتبط النتائج بالمقدمات المنطقية في أحداث الرواية. ومثل القطع مع الشمولية، وصب الناس في قالب واحد، والعبور إلى التعددية بداية من صيغة التثنية في العنوان، وتعدد الاتجاهات حتى بين أقرب الأشخاص التصاقا (الشقيقين التوأم) وهي فكرة متقدمة جدا في زمنها. ومثل القطع مع محاضن التعليم التقليدية، في الزوايا والكتاتيب والحلقات، والعبور بالذهنية العامة للناس إلى دور العلم الحديثة، والمدارس النظامية العصرية (يجب ألا ننسى السياق، وأننا نتحدث عن عام 1349هـ). ومثل القطع مع الثقافة الشفهية، من الشفاهي وما فيه من صفة التناقص والتبدد، فهو يبدأ من النبوءة والحدس والإيحاء والإلهام، ثم ينحدر إلى التداولية والكلام العادي، والعبور إلى الثقافة الكتابية، أي إلى الكتابي وما فيه من صفة التراكم والتنامي والخلود، وهو حين دون عبارة (أول رواية) يتوقع ويدعو ويجزم بأنه سيكون هناك رواية ثانية وثالثة... إلخ، فقد أدرك أن الشفاهي دائما مركز قوته في الماضي ومركز ضعفه في المستقبل، بعكس الكتابي.

و(التوأمان) أول عمل محلي يرسخ القيم الكتابية التي تنتج الدلالة، لأن الكتب التي ظهرت قبلها، وهي (المعرض) و(خواطر مصرحة) و(أدب الحجاز) كانت تدور حول المقال والشعر، والمعروف أن المقال في ذلك الوقت كان وريث الخطابة، والخطابة والشعر فنون شفهية بالأساس من جهة، وتعنى بتقديم الدلالة لا إنتاجها من جهة أخرى.

ولأن هذه الدراسة لا تهدف إلى استقصاء كل الجوانب الجوهرية في العمل، بقدر ما تهدف إلى فتح الباب، وإعادة الاعتبار، وتأكيد الريادة، فسوف تكتفي بالتركيز على ثلاثة مفاهيم، هي:

(مفهوم الزمن الواقعي بدل الزمن الأسطوري والخرافي، ومفهوم الإصلاح الحضاري بدل الوعظ التقليدي، ومفهوم التعددية وحرية الاختيار والخطأ بدل سلطة البطركية). لأنها مفاهيم حداثية أساسية، ولأنها مفاهيم جديدة في ذلك الوقت، والسبب الأخير والأهم لأنها لازالت تستعصي على ذهنية خطابنا المحلي حتى اليوم، ويتسبب فقدانها في كثير من المشاكل التي نعاني منها على كل المستويات.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة