Culture Magazine Monday  23/04/2007 G Issue 196
فضاءات
الأثنين 6 ,ربيع الثاني 1428   العدد  196
 

المبدع المنسيّ رياض الصالح الحسين
نبيل سليمان

 

 

تدافعت في مطلع العقد السابع من القرن العشرين في سورية أصوات شعرية جديدة تتلمس تجربة أخرى غير ما ورثت وما زامنت من شعر التجربة الحداثية. ومن أنقى وأبقى تلك الأصوات ما كان لذلك الرعيل الذي قضى بعضه وتوقف بعضه ولا زال بعضه يحترق شعراً، وفي الصدارة أعدد: منذر مصري، نزيه أبو عفش، محيي الدين اللاذقاني، بندر عبد الحميد، عادل محمود، أحمد يوسف داوود، وفيق خنسة، إبراهيم الجرادي، مرام مصري، دعد حداد، وذلك الطفل الوعل الذي قضى بين سن رامبو وسن ولفغانغ بورشرت، وفي مثل قامتهما الشعرية: إنه رياض الصالح الحسين.

في تجربة ذلك الجيل مضت بعض الأصوات إلى (قصيدة النثر) تفجر تجربة محمد الماغوط في هذا اللون من الشعر، وتجربة زكريا تامر في القصة القصيرة، وتبتدع ما بات اليوم علامة خاصة وكبرى على يد نزيه أبو عفش ومنذر مصري ومرام مصري ودعد حداد التي طواها الموت بصمت منذ سنين. ولئن تعززت تلك العلامة الشعرية بجيل آخر، في صدارته هالا محمد، فسيظل القول بها - بالعلامة - ناقصاً بالغفلة عن رياض الصالح الحسين. ومن أسف أن أغلب الشعراء والنقّاد يضاعفون بالنسيان هذه الغفلة. لذلك أسوق اليوم هذا الحديث عن الطفل - الوعل - الشعر - الغابة، كما كرس الموت اسم رياض الصالح الحسين، لعل من هم أقدر وأولى يواصلون الحديث.

***

ولأن البداية كانت في حلب حيث أقمت بين 1972 - 1978م، سأبدأ الحديث من ضيقها - كرحابتها - بفورة شبابنا، وبخاصة مشاكسات ومبدعات رياض الصالح الحسين ومحيي الدين اللاذقاني وسعد يكن وفواز الساجر ومحمد جمال باروت وعبد الرزاق عيد.

وفجأة تبدد الشمل. لكن رياض الصالح الحسين ظل يباغتني كل حين في اللاذقية، يتلقف تمتمات الشفاه والقسمات والنظرات، يضحك أو يستزيد أو يقطب، وفي كل حال يلجأ إلى صوته الحبيس والورقة والقلم ويكتب صلته بما يدور: إنه المرض والطب اللذان أورثاه الصمم، أجل كان رياض الصالح الحسين أصمّ.

وفجأة - للمرة الثانية الأخيرة - تبدد الشمل ومات رياض الصالح الحسين، فما الفرق إن كان نيّف على العشرين أو قصّر عن الثلاثين، ما دام الشعر يصل بين فجر شاعر في مطلع السبعينيات من القرن العشرين وغيابه في مطلع الثمانينيات، وبين يوم كهذا اليوم أو غدٍ يطلع على غابة وطفل ووعل وشعر؟

فلنصغ إذن إلى هذا الذي يقدم نفسه في مجموعته الشعرية الأولى (خراب الدورة الدموية - 1979م):

(أنا رياض الصالح الحسين

عمري اثنتان وعشرون برتقالة قاحلة

ومئات المجازر والانقلابات

وللمرة الألف يداي مبادتان كشجرتي فرح في صحراء).

ولنصغ إليه يقدم نفسه بعد أربع سنوات في مجموعته (وعل في الغابة - 1983م):

(أنا حيوان جريح في غابة

أنا زهرة متعبة

أنا وحش من العصور القديمة

طفل لم أحفظ دروسي).

وإن استزدنا فسيعلن الشاعر:

(الذئب الذي افترسني صار أنا

أنا الذي قتل الصياد في الغابة

أنا الصياد

احذروا حبي

واحذروا أنيابي).

هكذا يشكل الشعر الشاعر بالبساطة المستحيلة ونقائض التاريخ والطبيعة، فإذا بكون آخر قوامه الحزن والاستفزاز واللعب الطفلي، كونٍ من امرأة وحب وموت وكلمة: كذلك يكتب رياض الصالح الحسين في قصيدة (مفارقات):

(الكذبة الوحيدة التي تستحق التصديق

هي الحب).

أما الكلمة الجلية كطائر أبيض، كشجرة في صحراء، فيعلن اكتشافه لها متأخراً (قصيدة: كنجمة في سماء - كوعل في غابة)، ثم تنتفض في أعماقه: (الكلمة الجميلة - البائسة - الحزينة - المرحة - العاشقة - البسيطة - الحية). وإذ يرسم الشاعر غرفته أو غرفة المحارب السائح أو غرفة مهدي علي - كما خص صديقه العراقي في ديوان وعل.. - إذ يطلق قصائد (حياتنا الجميلة - بلادنا الجميلة)، فإنما يرمي التجربة الشعرية في فضاء الحياة اليومية، في البيت والمكتب والشارع، وفي الأحلام والطفولة سواء بسواء، فتسأل قصيدة (نتفق أو لا نتفق):

(لماذا أحلم دائماً

بطفل متطاير الأشلاء

ودمية محطمة

ورصاصة تئز؟).

وإذ تعلن قصيدة أخرى الحب شهادة ولادة دائمة، تسأل سواها: ماذا سيحدث لي غداً؟ ولأن الموت يملأ الإهاب، كأنه الخراب، يقوم الجواب في الموت سؤالاً (قصيدة الخنجر - قصيدة فنان - قصيدة كم هي لذيذة - قصيدة ثوب أزرق - قصيدة الدراجة - قصيدة كتابة).

بلا فخامة إذن، وبقراءة لا تتمحل كهنوتاً ولا تراجيديا للشاعر وللشعر، تأتي مجموعة قصائد الموتى: العاشق يحفر بأظافره تراب القبر، الولد في فناء قبره يدور بدراجة من عظام، الكاتب يكتب منذ أن مات، الفتاة الميتة تحلم في القبر بثوب أزرق وبزيارة خالتها، الفنان في القبر يجمع السلاميات ليصنع منها خواتم وأقراطاً، الرجل الميت يتنزه في القمر، المنتحر بخنجر الذكرى العزيزة من الذين في الأعلى.. وفي كل حال هو السؤال - الجواب للبشر وللطبيعة، فنقرأ مرة في قصيدة (مفارقات):

(من يغطي جثتي بالأعشاب

بأوراق الأشجار اليابسة

بقليل من تراب؟)

ونقرأ مرة في قصيدة (رقصة تانغو تحت سقف ضيق):

(أيتها الأرض الممتدة من الموت بجدارة

على نصال الخنجر

إلى الموت بجدارة أشد).

ثم يصفعنا رياض الصالح الحسين في قصيدة (مساء هادئ فقط):

(ولكن قل لي أيها القارئ الوسخ

عم يتحدث الموتى

في هذا المساء الهادئ؟)

ويؤكد الشاعر أنهم لا يتحدثون عن لعبة الهوكي، ولا عن أمجاد أميرة موناكو لقاء عرضها ملابسها الداخلية أمام جمهرة من اللصوص. إنهم يتحدثون عن الموت:

(هل الموت قالب كاتوه أم نسناس دانمركي

أهو تفاحة أم بلياتشو يشبه التفاحة؟

هل الموت حلم أم حقيقة؟

وإذا كان حقيقة

فلِمَ لمْ يزل هتلر يفكر بحشر الضعفاء في أنابيب الغاز؟

ولِمَ لمْ يزل هولاكو يغتال الفلاحات في حقول القطن؟).

ربما كان شعر رياض الصالح الحسين تعبير الطفولة عن ذاتها وهي تواجه العالم بالدهشة وباللغة الخاصة، كما قال أحمد يوسف داوود ذات يوم (جريدة تشرين دمشق 12 - 7 - 1980م). وربما كان هذا الشعر كما يضيف داوود يجرد الزمان والمكان، ويكتفي بالرابط الشعوري جامعاً للقصيدة، ويحاول بالحب الانتصار على مساوئ العالم، ويرفع الوقائع اليومية إلى المفهومات، ويقع في التكرار أو مجانية القول أحياناً بسبب محدودية موضوعاته؛ بيد أن الوجع واللوثة اللتين أورثنيهم منذ الصبا رامبو، ولا زال يصفعني بهما محمد الماغوط، وهما أيضاً إرث رياض الصالح الحسين وصفعته، يدفعانني الآن، كما دفعاني من قبل، إلى قراءة جديدة لمن كان يصدّر العديد من قصائده بمقبوسات من أشعارهم (البرتي - غيلفيك - فيليب جاكوتيت...)، ويجعلانني مثل رياض الصالح الحسين (أفتح عيني كنبع صغير) وأتهجى في جسد طافح بالغزلان وأشجار البلوط، معبأ بالمعجزات الأرضية المشاعة، هو جسد فالينتوفا التي قرأ رياض في خطوط يديها تضاريس الريح وأمجاد الأمواج البرية، وأتقن في مناخ قبلاتها أسماء خضراء وغابات ساكنة وممالك تفتح أبوابها لفرسان الدهشة ولعصافير الدوري المتفجرة بالغبطة والأناشيد و...

***

لأمرٍ ما يبدو أن عليّ الآن أن أدع رياض الصالح الحسين يحمل إرثه من ريادة قصيدة النثر في سورية، ما ابتدأه منذ ثلاثينيات القرن العشرين علي الناصر وأورخان ميسر وخير الدين الأسدي - من أبناء حلب أيضاً.

وسأدع رياض الصالح الحسين يصدم هذا الإرث بما جدَّ - من يذكر الآن الشاعر الحلبي حامد بدرخان الذي قضى أيضاً منذ سنين؟ - في حياته القصيرة، ليصدم ما انقضى بعد موته وما سيلي، لعلنا نواصل حديث الطفل - الوعل - الشعر - الغابة، ضد النسيان.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة