Culture Magazine Monday  23/04/2007 G Issue 196
حوار
الأثنين 6 ,ربيع الثاني 1428   العدد  196
 

عبدالسلام العجيلي قبيل وفاته في حوار الذكريات:
ليست لي مقومات تصنفني أرستقراطياً

 

 
*حوار - إبراهيم كبة - سورية - الرقة:

يظل للمرحوم الروائي، القاص، المؤرخ، الدكتور عبدالسلام العجيلي حضوره رغم غيابه، ويمثل لنا في «المجلة الثقافية» انتماءً خاصاً؛ فقد اقتصر - في سني عمره الأخيرة-رحمه الله- على النشر في «الثقافية» والاحتفاء بمحرريها وكتّابها، كما حصلت «الثقافية» -كذلك - على حقوق نشر مقالاته التي لم تنشر في حياته، ولا تزال «الثقافية» على تواصل مع ابنة أخيه الدكتورة شهلا العجيلي الأكاديمية والقاصة المبدعة.

وهذا حوار تأخر نشره قليلاً للاحتفاء بكتاباته التي استلمناها بعد وفاته.

سيرة ذاتية

* إلى أي مدى يسعنا اعتبار بعض قصصكم ورواياتكم جزءاً من سيرتكم الذاتية؟ لنأخذ مثلاً قصة (بنت الساحرة)؟

- قصصي ورواياتي تحتوي بلا شك أجزاء من سيرتي الذاتية، مثلما تحتوي أجزاء من سير أناس آخرين قد يكونون بعيدين عني كل البعد، ومن الخطأ أن ينسب كل ما في قصصي من أحداث وتصرفات إليّ، وحتى ما ورد منها بصيغة المتكلم. أحياناً، يقتصر نصيب سيرتي من القصة على المكان الذي جرت فيه وقائعها أو على وصف شخصية عرفتها في مناسبة بعيدة عما ترويه القصة من وقائع في قصة (بنت الساحرة) التي تريدها مثلاً في الإجابة على هذا التساؤل، أربع شخصيات رئيسية هي الآتية: راوي القصة الدكتور عبدالمؤمن الذي هو بطلها حينما كان فتى يافعاً في الرابعة عشرة من عمره، والساحرة العجوز سعود، وابنتها الفتية نجمة، وابن أختها الأعرج البغيض خليل. صورتي الشخصية واضحة وبالغة الصدق، في صورة الفتى المراهق عبدالمؤمن. إنها صورتي عندما كنت أتلقى دراستي الثانوية في حلب وأقضي العطلة الصيفية في الرقة مرافقاً والدي ومشرفاً على عمل الطاحونة التي كنا نملكها في شرقي البلد.تلك الطاحونة التي كان - كما ورد في القصة - يجاورها بستان لنا يسقى من غراف على بئرين بينهما خندق، في منخفض جنوبي البستان. صورتي وصورة المطحنة والبستان وعملي في المطحنة وتنقلي في البستان، عناصر من سيرتي الذاتية صادقة ودقيقة في وصفي وتسجيلي لها. أما ما عدا هذا، من شخصيات وأحداث وأمكنة، فهو خيال مطلق، فلا الحادثة التي ترويها القصة، ولا شخصياتها الرئيسية الأخرى لها وجود في الواقع. أستثني من ذلك أن كنت أحتفظ في ذاكرتي بصورة عجوز غجرية، رأيتها ذت مرة في زمن صباي في منزل أقارب لي تبصر لهم، أعني تبحث لهم عن المغيبات. رأيتها تستخدم طاساً نحاسية ترخي عليها غطاء رأسها بينما تظل هي تتطلع إلى الطاس صامتة، فيسمع من تحت الغطاء أصوات مثل أصوات الصراصير. كان ذلك أمراً أثار دهشتي واستغرابي في ذلك الحين، لأن الطاس لم يكن يحتوي على غير الماء القراح، على ما رأينا بأعيننا بقيت هذه الصورة في ذهني، فاستخدمتها عند كتابة القصة بالشكل الذي وردت فيها.

في هذا المثال يتبين كم هو ضئيل الجزء الذي احتوته القصة من سيرتي الذاتية. ولكن أسلوبي في القص يوحي إلى القارئ بأن ما أرويه هو واقع وحقيقي، وبأنه جرى لي شخصياً، وإن كان الراوي إنساناً غيري. ويزيد هذا تأكيداً الملامح التي تتضمنها القصة من سيرة حياتي الشخصية، أياً كان حجم هذه الملامح ومقدارها، عند من يعرفونني أو يسمعون عني.

وفي هذا المجال أروي حكاية واقعية تتعلق بقصة (بنت الساحرة) بالذات، جرت حين صدورها في المجموعة المسماة باسمها، في عام (1948م) وأنا أورد هذه الحكاية في بعض المناسبات، لا لأبين مقدرتي على إيهام قراء قصصي بواقعية ما أتخيله فيها بل لأبين القيمة التي كانت للأدب في المحيط الذي نشأت وعشت ولا أزال أعيش فيه، في ذلك الزمن كنت في ذلك العام حين صدور مجموعتي القصصية عن دار مجلة الأديب عضواً في مجلس النواب السوري أمثل بلدتي الرقة فيه.

جاء بعض الناخبين فيه إلى والدي لينتقدوني ويشتكوا إليه مني، قالوا له فيما قالوا: نحن انتخبناه وبعثنا به إلى البرلمان في عاصمة بلادنا ليتحدث في قضايانا ويسير أمورنا، لا ليكتب في الجرائد والكتب عن حكايات عشقه وغرامه بالبنات القرباطيات!

ولابد من القول إن ما تحتويه قصصي ورواياتي من أجزاء سيرتي الذاتية يختلف من عمل إلى آخر، لذلك أجيب من يسألني عن نسبة الخيال فيما أكتبه بأنها تتراوح بين خمسة وخمسة وتسعين في المائة.

إلا أن الذي لا شك فيه هو أنه إذا كانت أعمالي القصصية لا تمثل إلا أجزاء متفرقة من سيرتي الذاتية، فإنها في الحقيقة تحوي كل سيرتي الفكرية.

فأبطال قصصي الذين يظن قرائي أنهم صورة مني، هم في الواقع ليسوا صورة من شخصي، ولكنهم أنا كاملاً من الناحية الفكرية. لست أنا طارق عمران، بطل رواية قلوب على الأسلاك، فهو أصغر مني بكثير في زمن أحداث الرواية، وهو كذلك مختلف عني في النشأة والمؤهلات. ولكنه أنا بنفسي في التفكير وفي طريقة التصرف لو أنني في واقع حياتي مررت بالأحداث التي مر هو بها. والأمر نفسه كذلك في شخصية عثمان بطل رواية (المغمورون) البدوي الجالي عن عشيرته لأن والده قتل ابن عم له، وسائق الجرار المنتسب إلى حزب يقوم بتنفيذ أوامره بكل دقة وتصميم. إنه شخصية متخيلة كل التخيل، إلا إني كنت في مكانه وعشت ظروفه لكان لي تفكيره وكانت لي تصرفاته.

قصصي ورواياتي تحتوي: إذاً، أجزاء متفرقة من سيرتي الذاتية ولكنها تحتوي كامل سيرتي الفكرية.

المرض والتراث

* في نشأتكم الأولى أصابكم مرض مبهم، خلوتم أثناءه إلى قراءة كتب التراث. ترى أهي بداية أم استمرار لهوايتكم في كتابة كتب التراث والأدب عامة؟

- قراءتي لكتب التراث، والقراءة بصورة عامة، لم تبدأ في الفترة التي انقطعت فيها عن الدراسة بسبب ذلك المرض المبهم منذ السنين الأولى لدراستي في المدرسة الابتدائية، كنت مولعاً بالقراءة. وما كان تحت يدي مما يقرأ، في بلدتي الصغيرة كانت الكتب الدينية وكتب التاريخ الإسلامي والقصص التي ترجع أحداثها للتراث، مثل قصة عنترة وحمزة البهلوان، وألف ليلة وليلة، وتغريبة بني هلال، وأشعار الجاهليين ولا سيما المعلقات. وحين كنت أقع على قراءات بعيدة عن التراث لم أكن أتأخر عن مطالعته. أذكر أنه أهدي إلي وأنا تلميذ في الابتدائي، وكانت اللغة الفرنسية تدرس في المرحلة الابتدائية في تلك الأيام، أهدي إلي كتابان بالفرنسية لتفوقي على أقراني في محفوظاتي في تلك اللغة.

الكتاب الأول كانت قصة مصورة لحكاية السندباد البحري، والثاني كان كتاباً عن أشهر المخترعين وأشهر المخترعات في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. لم أكن في تلك السن أحسن الفرنسية كما يجب، ومع ذلك فقد جهدت أفهم ما حواه ذلك الكتابان، الأول وهو قصة قصيرة مكتوبة للأطفال ممن هم في سني آنذاك، والثاني وهو كتاب لليافعين ممن هم أكبر مني سناً. لم يكونا، بحكم لغتهما الأجنبية، يمتان إلى التراث بصلة، ولكني كنت مشغوفاً بقراءتهما.

وحين أقعدني المرض عن متابعة الدراسة، وكان ذلك في نهاية السنة الأولى من سني الدراسة الثانوية، انفسح أمامي الوقت لأوسع أفق قراءاتي. ظل ولعي بالقراءات التراثية على حاله، ولا سيما حينما انتقلت إلى قراءة الأدب الجاد في كتب الأوائل وفي موسوعات التاريخ الأدبي والتاريخ بصورة عامة.

قرأت العقد الفريد ثم الأغاني وكتب المعاصرين التي تتخذ التراث مصدر بحث أو مادة للتخيل، مثل روايات جورجي زيدان. استمرت بي هذه الحال طيلة ثلاث سنوات أو أربع هي التي انقطعت فيها عن الدراسة. وحين عدت إلى مدرستي الثانوية كان زادي من فصاحة اللغة ومحفوظاتي الشعر القديم، ومن معرفة التراث في الدين والتاريخ والقصص والأساطير، يفوق بضاعة كل أقراني منها ويداني ما يعرفه اساتذتي وأحياناً يفيض عما يعرفه أولئك الأساتذة. إلى كل هذا يرجع ما يلاحظه المتتبعون لكتاباتي من شدة الارتباط بالتراث وغنى محصولي منه، وتظاهر أثره في أعمالي الأدبية المكتوبة وفي محاضراتي الأدبية المكتوبة وفي محاضراتي وفي محاوراتي.

الأرستقراطية

* أثناء مرحلة ما سلفت كنت تعد كاتب الطبقة الارستقراطية.. ترى هل تغيرت هذه النظرة؟! أم أنك شخصياً تغيرت؟! أم أن الأوضاع قد تغيرت؟!

- لابد لي من الابتسام حين أستمع إلى هذا السؤال يطرح علي، منك ومن غيرك، شخصياً.. أنا لم أتغير. لم يكن لي في يوم ما المقومات التي تدعو إلى تصنيفي ارستقراطياً، لا في حياتي الشخصية ولا في انتاجي الأدبي. صحيح أني لم أشكُ الحاجة في حياتي، ولكن صحيح أيضاً أني كنت أكيف حاجاتي في الحياة بقدر ما أملكه من إمكانات. يعرفني الكثيرون بأسفاري في مختلف أصقاع العالم مما يشير إلى امتلاكي قدرة مادية تؤهلني إلى أن أقوم بهذه الأسفار. لم تكن لي دوماً هذه القدرة التي يملكها في العادة الاستقراطيون من ذوي الدم الأزرق.

أذكر أني أيام كنت عضواً في مجلس النواب رشحت لعضوية وفد البرلمان السوري إلى المؤتمر البرلماني العالمي الذي كان سيعقد في استوكهولم، عاصمة السويد، آنذاك كان السفر إلى أوروبا حلماً لي. قبلت الترشيح وأعددت جواز سفري للرحلة. ولكني لدى حساب نفقات تلك الرحلة، تبينت أني عاجز عن تأمينها بالشكل الذي يليق بي. اعتذرت بكل بساطة عن عدم الالتحاق بالوفد إلى المؤتمر لأني لا أقدر على المشاركة به مادياً.

بعد سنين قليلة من هذا الاعتذار، حين استطعت بعملي المفيد لي ولمن حولي في ممارسة الطب، أن أوفر ما أستطيع السفر به، سافرت إلى استوكهولم وغير استوكهولم من أرجاء العالم المختلفة.

أضف إلى هذا أني في أسفاري الكثيرة التي قمت بها. لم أقصد ما يقصده المترفون من الاستجمام والراحة أو من الركض وراء الملذات السطحية، بل كنت أبحث فيها عن لذة المعرفة التي كانت كثيراً ما تقودني إلى تجشم المشاق أو التعرض للمخاطر.

من ناحية ثانية، لابد أنك تعرف أسلوب حياتي البعيد عن الأساليب الارستقراطية في العيش وفي مخالطة من أخالطه. أعيش في الرقة بين أهلي وأهل المدينة البسطاء، ومن أعالجهم هم أبناء المنطقة البدوية أو نصف الحضرية التي لا تعرف الدم الأزرق ولا من يحملونه في عروقهم. دخل علي في عيادتي ذات مرة، في غرفة المعاينة التي كانت مزدحمة بالمرضى من فلاحين ورعاة وبداة ينتظر كل منهم دوره لأقوم بفحصه ومداواته، أقول دخل علي اثنان يرتديان الثياب الأفرنجية الأنيقة، متجاوزين المرضى المنتظرين لأقوم بمعاينتهم قبل غيرهم. يبدو أنهما كان موظفين كبيرين، لم تكن لي بهما معرفة، قدرا أن مقامهما وقيافتهما تبيح لهما التقدم على مرضاي المتواضعين. تجهمت في وجههما وأنا أسألهما ماذا يريدان. قال أحدهما إنهما مستعجلان لأنهما على سفر ويريدان أن أفحصهما قبل غيرهما. قلت لهما: أنا آسف. أنا لا أعالج غير هذا الصنف من الناس. وأشرت إلى المرضى الذين كانوا يملؤون الغرفة، بين جالس على كرسي ومفترش الأرض، وأضفت: أساساً أنا أعطيت تعليماتي إلى الممرضة بألا تدخل علي إنساناً يرتدي سترة وبنطالاً!... تطلع عندئذ أحد الرجلين الواغلين إلى رفيقه وقال: يبدو أن علينا أن نلبس دشداشات مثل هؤلاء الناس كي يستقبلنا الدكتور! وخرجا لا يلويان على شيء، وأنت تعرف أيضاً هذه البلدة، بلدتي وبلدتك. ما أبعدها عن الأرستقراطية في جوهها وسكانها وأنا واحد من هؤلاء السكان.

في مطلع الخمسينيات كتب أحد الذين يرون فيَّ أرستقراطيا بحثاً في إحدى المجلات يقول فيه إني أعيش في برج عاجي. كتبت آنذاك مقالاً في جريدة النقاد أدعو فيه كاتب البحث ومن يقولون قوله إلى المجيء إلى الرقة، وهي في ذلك الزمن محرومة من الماء الجاري والكهرباء وليس فيها شارع معبد. كانت أقدامنا تغوص في الوحل في الشتاء، كما كان الغبار يسد منافسنا ويعمي أبصارنا في الصيف. كان هناك برجان من أيام هارون الرشيد، لم يكونا من العاج بل كانا برجين طينيين، ولم تكن دار أهلي ببعيدة عنهما. كنت قل أن أهنأ برقاد ليلة كاملة لأني كنت الطبيب الوحيد، أو شبه الوحيد، في المنطقة كلها، وعليَّ ألا أرد دعوة مريض يحتاج إلي ليلاً ولا نهاراً. ومع ذلك فقد كنت في هذه الظروف أرستقراطياً أعيش في برج عاجي! هكذا كان يقول علي أولئك الذين يكتبون أبحاثهم وراء طاولاتهم في مكاتبهم النظيفة المريحة، المدفأة في الشتاء والمهواة في الصيف.

هذا عن حياتي الشخصية، أما عن إنتاجي الأدبي والفكري، فما أبعده كذلك عن الأرستقراطية التي يزعمون. عالجت فيما كتبت من مقالات وقصص وروايات وما ألقيت من محاضرات قضايا أمتي ووطني وقضايا العلم والفكر والسياسة، وتحدثت عن البداة والرعاة والمحرومين والمظلومين، بأساليب لا تمت إلى العقلية الأرستقراطية بشيء. كان همي، فيما كتبت وتحدثت، البحث عن الأدواء والعلل وتقصي نواحي التقصير والفساد، لا للفضح والتشهير، بل سعياً وراء ما يفيدنا في علاج الداء وللانتقال إلى الأفضل. لم أتقرب إلى حاكم ولم أمالئ نظاماً أو وضعاً، ولا تحدثت عن المجتمعات المخملية أو الترف والمترفين. وفي حكايات أسفاري كنت دوماً مرتبطاً بموطني وأهله، وأشير إلى ما ينقصهم وينقصه وأبحث عما يفيدهم ويفيده في كل مكان تقودني قدماي إليه.

ولا تحسبني ضقت قليلاً أو كثيراً بما قيل ويقال عني في هذا المجال. كنت أقابله بابتسامة الاستخفاف غير غافل عن دوافع من ينظر إليَّ النظرة التي تشير أنت إليها في سؤالك. أهم هذه الدوافع، عند حسن النية على الأقل، هو استقلاليتي وتباعدي عن الشلل والتكتلات، وترفعي عن كثير مما يتهافت عليه بعض الناس من شهرة ونفوذ وتقرب من أصحاب الشهرة والنفوذ.

ليس ذلك تعالياً أو تكبراً مني، بل هو زهد في كثير مما يطمع إليه الناس عادةً، والمثقفون بعض هؤلاء الناس. ليس تمثيل الطبقة الأرستقراطية هو وحده ما عزي إلي. كتب أحدهم عني بأني كولونيالي، عجبت من هذ الوصف، أو أنه أعجبني، والتفتُّ إلى الصديق الذي كان بجانبي حين قرأت هذا وقلت له: لم يعد ينقصني إلا قبعة فلين وبنطلون شورت، مما كان يلبسه المستعمرون الإنكليز، كي ينطبق علي هذا الوصف.

في هذا المجال سأضحكك معي بهذه الحكاية: في إحدى الفورات التي ارتفع فيها شعار (تعميق الصراع الطبقي)، روي لي أن جاراً لي ممن لم أقصّر في عونه هو وذويه في ظروف شتى، روي لي أن هذا الجار قال عندما ذكر اسمي أمامه في إحدى المناسبات: أعرفه جيداً.. إنه ارتوازي!

تعرف أنت طبعاً أن الآبار الارتوازية هي ذروة الترف في مناطقنا الزراعية حين تكون أرضنا المبعدة عن الفرات والبليخ محتاجة إلى الري، إذا فهذا أنا الأرستقراطي الكولونيالي البرجوازي... العفو.. (الارتوازي)، لم أتغير مقدار شعرة إذا كان ثمة من تغير فهم الآخرون وليس أنا.

أنا وابن بطوطة

* يقول نجيب محفوظ: كنت أتمنى أن أقف في نقطة ما ويطوف بي العالم كله.

أما أنتم فقد طفتم العالم كله، كابن بطوطة، حاملاً ذكريات من هنا وهناك مبثوثة في ثنايا كتاباتكم. ترى أي الموقفين تُؤْثِرُ؟، وهل أنت نادم على إضاعة الوقت في الرحلات والسفر؟

- أؤثر الطريقة التي طفت بها ما طفت من العالم وإن كنت في الواقع لم أرَ بها منه إلا أجزاء قليلة هي ليست طريقة وقوف أو توقفاً بل هي حركة وتنقل لذة السفر لا تقتصر على ما تراه فيه. يقول يوسف غصوب: (لذاتنا في الشوق لا في الوصال) وفي الأسفار اللذة ليست في الشوق الذي يمثله الترحال وحده، إنما هي فيه، وفي الوصال الذي يمثله المقصود من الترحال، لو قعدت مكاني وطاف حولي العالم كله لفقدتُ نصفَ لذَّاتي التي أجنيها من الأسفار.

ثم لماذا أندم أنا على الوقت الذي أنفقته ولا أقول أضعته، في الرحلات؟ العكس هو الصحيح. أنا مغتبط بهذا الإنفاق الذي كسبت منه معرفة كبيرة وعشت به لحظات هنية واحتفظت منه بأجمل الذكريات وكم تمنيت لو أن ظروف الحياة لم تقيدني بالقيود التي راحت تحول يوماً بعد يوم، بين وبين استمراري في الضرب في الآفاق.

الهواية والمهنة

* كنتم تعتبرون الأدب هواية والطب حرفة أو مهنة أَلا يزال هذا الاعتبار قائماً، أم أنكم غدوتم تؤثرون حياتكم الأدبية على عالم الطب والعقاقير؟

- لا يزال هذا الاعتبار قائماً عندي ما زلت أعتبر الأدب هواية وما زلت منصرفاً إلى عملي في الطب معتبراً إياه مهنتي الأساسية والجادة. ولكن الآخرين من قرائي ومن النقاد ومن العاملين في الإعلام بين صحفيات وصحفيين ومذيعات ومذيعين، هؤلاء الآخرون لا يصدقون ما أقوله ولا يقبلونه إنهم بذلك يأخذون من وقتي الكثير في التعليق والاستفسار والحوار في قضايا أدبية لا أجد الوقت الكافي للانصراف إليها ولا أحب إشغال نفسي بها. في صباح هذا اليوم مثلاً بينما كنت في عيادتي أقوم بفحص مريضة كانت مضطجعة على أريكة المعاينة تلقيت مكالمة بالهاتف من فتاة لا أعرفها تقول لي: هل أستطيع أن آخذ من وقتك على التلفون خمس دقائق؟

كانت تريد أن تسألني سؤالاً أو تحدثني حديثاً عن الأدب. قلت لها: أنا آسف لن أستطيع إعطاءك الدقائق الخمس إني مشغول بمعاينة مرضاي. أطبقت مخاطبتي سماعتها بعنف دون أن تعلق على جوابي بكلمة. لا بد أنها كانت غاضبة لأني خيبت ظنها حين آثرت عملي على ما اعتبرته دوماً هوايةً لي.

إذاً فأنا لم أوثر مطلقاً حياتي الأدبية على عالمي الطبي لا بالأمس ولا اليوم أقول دائماً إني أديب على الورق ولست محترف أدب ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود.

تجارب ثنائية

* ثمة تجربة أدبية ثنائية هي (عالم بلا خرائط) بين جبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف لكم تجربة سابقة عليها هي (ألوان الحب الثلاثة) ما رأيكم بمثل هذه التجربة الأدبية؟

- كان هذا منذ نحو من ثلاثين عاماً كنت أتحدث أمام بعض زواري أني أبدأ كتابة روايات كثيرة وأتوقف عن إتمامها بسبب تغير الظروف وضيق الوقت، وذكرت أني بدأت رواية جعلت عنوانها (ألوان الحب الثلاثة) ولكني لم أستطع العودة إليها لإنهائها. قال الأستاذ أنور قصيباتي، وكان مدرساً في ثانوية الرقة آنذاك ومؤلفاً لرواية أعجبتني حين قرأتها: أعطني ما كتبته واسمح لي بأن أكملها. أعطيته ما طلب ولم أتباحث معه في موضوع الرواية ولا أشرت عليه بشيء حول ما سيكتبه، وكان ظني أنها ستكون روايته هو وحين أنجزها أبى إلا أن يضع اسمي سابقاً لاسمه في العنوان، وهذا كرم من الأستاذ قصيباتي أظهرني به كأنني كاتبها الرئيسي. في حين أن ما كتبته في مطلعها كان نحواً من ستين صفحة فقط، بينما تقع هي فيما يفوق ثلاثمائة صفحة. والواقع أن لا أسلوب الرواية أسلوبي ولا أفكارها أفكاري، لهذا فإني لا أعدها عملاً صريحاً لي، وإن كنت أذكرها في عدد مؤلفاتي لأن اسمي عليها.

على أن لي سابقة في الكتابة المشتركة أقدم من هذه، نصيبي منها نصيب كبير لا يسمح لي بالتنصل من نسبتها إليَّ، هذه السابقة كانت في كتابة قصة عنوانها (عيون ودمعة)، لم تُنشر هذه القصة في كتاب بل نُشرت في مجلة (الدنيا) التي كان يصدرها الصديق الأستاذ عبدالغني العطري. في عددها رقم (179) الصادر في 27-10-1950. بدأت كتابة هذه القصة المذيعة الشهيرة في أيامها، المرحومة عبلة الخوري، وكتب فصلها الثاني الصديق الأستاذ الأمير يحيى الشهابي، وعهد الاثنان بما كتباه إليَّ لأكمله. ما كتبه الشريكان الأولان كان قليلاً في حجمه ومأساوياً في مضمونه. أما التتمة التي كتبتها، كانت في الحقيقة هي القصة بكاملها، فكانت صفحات كثيرة حولت بها المضمون من المأساوية إلى السخرية الضاحكة. فعلت هذا مداعبة مني للصديقة عبلة الخوري التي بدأت القصة بما يسيل الدمع من العيون. وهذا ما أثارها عليَّ، ولم ينقذني من ثورتها أيام ذاك إلا هروبي من دمشق والتجائي إلى بلدتي البعيدة عن العاصمة كل البعد.

من كان يهمه الاطلاع على هذه القصة وتهمه متابعة أسلوب الكتابة المشتركة فيها، ليس له إلا أن يبحث عن عدد مجلة (الدنيا) التي أشرت إليها أعلاه، وأنا أضمن له أن قراءتها ستسوق إلى شفتيه البسمة، إذا لم تطلق الضحكة من حنجرته.

اعترافات

* يبدو من خلال بعض اعترافاتكم أنكم لاقيتم عنتاً ونصباً في اتجاهاتكم الأدبية في نشأتكم الأولى. ماذا ترى؟

- أذكر أني شكوت العنت والنصب في هذا المجال لعلي تحدثت عن بعض المفارقات التي تكشف سوء تقدير الذين كانوا يحيطون بي، في بداياتي الأدبية سوء تقدير منهم لي، أو لقيمة الأدب ومنزلته بين النشاطات الحيوية المختلفة. ذكرت فيما سبق شكوى بعض الناخبين من كتابات ما كانوا يرونها لائقة بمنزلتي كنائب يقوم بتمثيله في البرلمان. أضيف إلى إنتاجي الناضج في الساحة الأدبية مع صغر سني كان يعرضني لسوء تقدير مختلف عن الأول ومعاكس له، كما كان أحياناً يدعو إلى نوع من الاستهانة بي مما كان يحرمني من بعض ما أستحقه من جزاء.

عندما عدت إلى الدراسة الثانوية، بعد انقطاعي عنها بسبب مرضي، أديت امتحاناً استطعت أن أدخل به رأساً إلى الصف الثالث الثانوي وكانوا يسمونه الصف الثامن. طلب أستاذ الأدب العربي منا نحن تلاميذ الصف أن نكتب وظيفة إنشاء بالموضوع الذي يختاره كل منا. كتبت أنا عن وظيفة تتحدث عن سوء سياسة بعض خلفاء بني أمية مما أضر بالأمة في أيامه وبعد تلك الأيام. كانت وظيفتي تلك بحثاً في التاريخ السياسي رآه معلمنا وهو الأستاذ شرف الدين الفاروقي - رحمه الله - أعلى من مستواي و إمكاناتي أنا التلميذ الصغير سألني من أي كتاب نقلت هذا البحث أجبت بأنه من إنشائي وأني بنيته على محاكماتي، فلم يصدقني اعتبرني منتحلاً وكان نصيبي أدنى العلامات، في حين أن زميلي في المقعد وكانت وظيفته نقلاً كلياً لمقدمة كتاب الكيمياء المقرر علينا، حاز على العلامة الكاملة! وفي أوائل عام 1937م وكنت لا أزال تلميذاً في الثانوي، أعلنت مجلة الحديث الحلبية، وصاحبها الأديب المعروف سامي الكيالي، عن مسابقة في كتابة مسرحية عن أبي العلاء المعري. المحكمون في المسابقة كانوا عدداً من كبار الأدباء المصريين الذين كان سامي الكيالي يرتبط بهم بروابط وثيقة، وأحدهم على ما أذكر كان توفيق الحكيم، وجائزتها خمسٌ وعشرون ليرة سورية في تلك الأيام، وهي تعادل اليوم ما يقارب عشرين ألف ليرة. من شروط المسابقة أن توقع المسرحية المقدمة إليها باسم مستعار، لا يعرف إلا عند ظهور النتيجة. أعددت أنا لهذه المسابقة مسرحية في فصلين بنيتهما على واقعة المرة الوحيدة التي خرج فيها أبي العلاء، من محبسه، مضطراً، ليشفع لأهل مدينته عند صالح بن مرداس الكلابي الذي كان محاصراً للمدينة. وحين أعلنت نتيجة المسابقة تبين أن المسرحية الفائزة كانت هي التي تحمل توقيع (المقنع) وكنت أنا المقنع، لم يكن سامي الكيالي يعرف شخصي، ولكنه كان صديقاً لابن عمي الأستاذ عبدالوهاب العجيلي فسأله من يكون قريبه الذي فاز بالمسابقة. كان ابن عمي عبدالوهاب آنذاك بمنزلة الراعي لي في دراستي، بل إني كنت أقيم في منزله في حلب، فعرفه بأني طالب في المدرسة الثانوية وأنه لا تزال بيني وبينه البكالوريا سنتان. وكانت نتيجة هذا التعريف أن العدد الثاني من مجلة الحديث نشر خبراً عن المسابقة يقول إنه تبين بأن المسرحية الفائزة هي من تأليف التلميذ النجيب عبدالسلام العجيلي وأن الإدارة قررت أن تكافئه على فوزه باشتراك سنة كاملة بالمجلة.

لا بد لي من القول إني، قد حرمت من حقي في الجائزة النقدية في ذلك الحين لم أتلقَ عدداً واحداً من المجلة التي كوفئت باشتراك سنة كاملة بها، بل إني دفعت من مصروف جيب التلميذ الذي كنته ثمن عدد الحديث الذي أعلن عن المسابقة، والعدد الذي نشرت فيه مسرحيتي وأعلن فيه فوزها بها والعدد الذي نشر فيه حرماني من جائزتي عنها. وأقول كذلك إن الصديق الأستاذ وليد اخلاصي، ومنذ بضع سنوات، وقع على هذه المسرحية منشورة في أحد أعداد الحديث القديمة فنشرها في مجلة الحياة مسرحية، مذكراً بها ومعيداً إياها إلى اطلاع القراء كل هذا أرويه وأضيف إليه أني ما اعتبرته هو وأمثاله عنتاً أو نصباً بل إني ما تذمرت منه إلا باسماً، ولقد أفادتني هذا الوقائع بما كانت تعرفني به عن الناس الذين هم حولي وعن أحوالهم وبما كانت تعرفني به كذلك عن نفسي، معرفة كانت تزيدني ثقةً بهذه النفس.

أمل ونهاية

* أَلديكم مشروعات أدبية جديدة أم ندع الأيام تجيبنا؟

- المشروعات الأدبية لا تنتهي، ما كان منها برغبة ذاتية وما كان منها برغبة من الآخرين، أو ما كان موحى بها منهم أو من الظروف الطارئة لي تحت الطبع في الوقت الحاضر كتاب جديد، أو أنه كتاب قديم جديد. أنه الطبعة الثالثة من كتاب القديم (أشياء شخصية) أصبح جديداً لأني أضفت عليه إضافات ضاعفت حجمه مرة ونصف المرة كما أني منذ أمد قريب انتهيت من تأليف كتاب أصبح جاهزاً للنشر، إلا أني لم أنشره في الوقت الحاضر لأسباب تؤخرني عن ذلك. إنه تسجيل لذكرياتي في فترة معينة من فترات حياتي، وهو يحمل هذا العنوان الموحي: ذكريات أيام السياسة ربما نشرته مسلسلاً على حلقات في إحدى الدوريات قبل أن يصدر في كتاب مستقل وغير هذا وذاك أنا مهتم الآن بعمل لا أريد التحدث عنه. تقول الكلمة الفرنسية: لا تتحدث عن سعادتك كي لا تفقدها ومثل الحديث عن السعادة الحديث عن عمل قريب إلى القلب. أخاف أن ينقص التحدث عنه من الحماسة لإنجازه، لهذا تراني لا أريد التفصيل في أمره، ولا حتى تسميه. لندعَ الأيام كما قلت أنت، تجيب الإجابة الصحيحة على سؤالك الأخير هذا.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة