Culture Magazine Monday  23/07/2007 G Issue 208
الملف
الأثنين 9 ,رجب 1428   العدد  208
 

محمد بن سعد بن حسين لـ «الثقافية »
لماذا تتجاهلون دوري في خدمة الأدب العربي؟!

 

 

حاوره - د.حسين علي محمد:

الدكتور محمد بن سعد بن حسين واحد من أعلام الأدب في المملكة العربية السعودية، وهو أول من دعا إلى تدريس الأدب السعودي في المعاهد التابعة للرئاسة العامة، قبل أن يصير اسمها : جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

وله أكثر من خمسة وأربعين كتاباً، منها: (الأدب الحديث في نجد)، و(الأدب الإسلامي عبر العصور)، و(الشاعر حمد الحجي)، و(الشعر الحديث بين المحافظة والتجديد)، و(قضايا في الأدب الإسلامي).. وغيرها. وهو يكتب الشعر وله ديوان (أصداء وأنداء). وقد أشرف على كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات السعودية، وله طلابه الكثيرون الذين يملؤون الساحة الآن، ومنهم: عبد الله أبو داهش، وحسن بن فهد الهويمل، ومسعد العطوي، ومحمد العوين... وغيرهم. وهو مناقش بارز، ومقدّم للندوات في (الجنادرية)، ويقيم صالونا أدبيا في بيته في الثلاثاء الأخير من كل شهر.

وهو -أخيراً- عضو في (رابطة الأدب الإسلامي العالمية)، وعضو في رابطة الأدب الحديث بالقاهرة. وهذا حوار من حوار مطول معه:

* كنتم في حوار أدبي سابق معي أشرتم إلى أنكم أول من قام بتدريس الأدب السعودي منذ أكثر من ثلاثين سنة، كيف ترون الآن هذا الأدب: حاضره ومستقبله؟

- أما واقع الأدب السعودي فقد اتصلتَ به اتصالا مباشرا، وأحسبك تعرف منه مثلما نعرف أو نحوا من ذلك. ولكني أقول لك -ما دام لا بد من الإجابة- إن واقع الأدب السعودي واقعٌ محمودٌ؛ محمودٌ في شكله، ومحمودٌ في مضامينه أكثر، وهذا لا يعني أنه لم تظهر فيه بعض الآثار غير المستحبة، كشيء من الاتجاهات غير المرغوب فيها، ولكن إذا قسناه بغيره مما صنعه إخواننا في الأقطار العربية الأخرى نجده أقل ميلا إلى تلك الاتجاهات، وأخفه انبهارا بها.

غير أن مشكلة الأدب السعودي أنه لم يُفهم فهما جيدا عند إخواننا من العرب، أو لعلهم لم يريدوا أن يفهموه، ربما لأسباب أيسرها أنه ليس مما ألفوا الحديث فيه، وقد يكون لأسلوب توزيع الكتاب السعودي تأثير في ذلك.

على أي حال، فالأدب السعودي قد اكتملت جوانب شخصيته منذ أكثر من أربعين عاما، وبات مماثلا للأدب في الأقاليم العربية الأخرى، وإن امتاز عنها بسمة هي أجل السمات، وهي الالتزام الإسلامي، ولستُ أعني بذلك نفي الشاذ لكن كما يقول النحاة: (الشاذ لا حكم له).

وأما ما يتصل بآفاق هذا الأدب، أعني الأدب السعودي، فأنا متفائل جدا بالنسبة لمستقبله، لأسباب أهمها اهتمام الدولة بهذا الأدب، وشواهد هذا الاهتمام كثيرة أدناها هذه الأندية المنبثة في مدن المملكة، ثم ما يناله الكتاب السعودي من اهتمام في المؤسسات الحكومية بعامة، والتعليمية منها بخاصة.

ومن هنا أقول: إنني راض كل الرضا عن واقع الأدب السعودي، ومتفائل كل التفاؤل بمستقبل أوفر حظا لهذا الأدب، ولكنني أدعو إخواننا السعوديين أولاً - ثم إخواننا في الأقطار العربية بأن ينظروا إلى هذا الأدب نظرة مباشرة، لا أن يأخذوا أحكاما جاهزة طُبِّقت عليه في مثل كتاب (الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية) للدكتور بكري شيخ أمين.

* من الملاحظ على الأدب السعودي غلبة الاتجاهات المحافظة، ومع ذلك فأصحاب الحداثة هم الأعلى صوتاً في الساحة، فهل لكم من تعليق على ذلك؟

-أن تكون المحافظة هي الطابع العام في أدب هذه البلاد المباركة -المملكة العربية السعودية- فليس ذلك بموضع تساؤل أو استغراب، وإنما موضع الاستغراب ألا يكون كذلك، وذلك أن هذه البلاد هي منبت الفصحى وفنونها، ومهد نموها واكتمالها.

ثم إن منطلق المحافظة هو الدين الإسلامي، وهو إنما انبثق نوره من هذه الربوع التي نزل فيها القرآن الكريم، ومن أبنائها كان الرسول الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- وفي هذه البلاد تُطبَّق شريعة الإسلام في هذا العصر الذي سادت فيه التشريعات الوضعية.

لا عجب إذن من أن يكون أدبها مثالا في المحافظة.

ثم إن المحافظة هي الطابع العام في خلق الإنسان العربي، فالمستغرب ألاّ يكون أدبه كذلك.

أما الشطر الثاني من سؤالك، فخلاصة القول فيه أن علوَّ صوت أصحاب الحداثة راجع إلى أمرين: أولهما: اجتماع كلمتهم وتكاتفهم وتناصرهم، فلا يكاد يُعلن عن محاضرة لأحدهم أو أمسية أو ندوة إلا أتوا إليها في أي مكان كانت.

وثانيهما: هذه الشللية الممقوتة التي تسيطر على الوسائل الإعلامية وبخاصة الصحف، وهي في الغالب مُناصرة لهؤلاء، ولذا حظيت هذه الجماعة بلمعة إعلامية خدعت كثيرين فجذبتهم إليها مُسهمين أو مُناصرين، ولكنها موجة ستخسر قريباً أو بعد حين كما انحسرت موجات قبلها.

* هل تشعرون أنكم قمتم بدوركم تجاه الأدب السعودي ؟ أم مازال هذا الأدب الغني الثري يحتاج إلى جهد آخر؟ وما مشاركتكم المستقبلية في هذا الأدب؟

- أحسب في سؤالك أنك تتجاهل إسهامي في خدمة أدبنا العربي بوجه عام. وأنت تذكر على سبيل المثال: (الأدب الحديث: تاريخ ودراسات)، و(حافظ إبراهيم ونظرات في شعره)، و(الشعر الحديث: بين المحافظة والتجديد)، ودراسات وبحوث أخرى ليس هذا مقام عدِّها.

وأحسب أيضا أنك تجاهلت إسهامي في خدمة أدبنا القديم، وأنت تذكر مثل (المعارضات في الشعر العربي)، و(الشعر الصوفي بين المعتدلين والغلاة)، و(كلثوم بن عمرو العتابي)، و(من شعراء الإسلام)، وبحوث ودراسات لا داعي لعدِّها.

وأنا وإن كنت قد قدمت كثيراً في خدمة الأدب السعودي إلا أني لم أشعر بانقضاء مسؤوليتي في خدمة هذا الأدب الثري؛ لأن الأدب متجدد دائماً؛ ولأني أرى صدق قولهم: (الكلمة الأخيرة في الأدب لم تُقَل بعد).

وأقول: (ولن تُقال مادام في الوجود مبدع يصنع أدباً).

لذا فإن إسهامي في خدمة هذا الأدب ستظل متصلة بمشيئة الله، وإن كنت قد قدّمت الشيء الكثير.

* لماذا لم نقرأ لكم من الشعر المجموع في دواوين غير مجموعة واحدة هي (أصداء وأنداء)؟

-أنت تعلم - يا صديقي وزميلي قبل غيرك- وفرة ما عندي من القصائد التي لو نشرت لكونت أكثر من عشرة دواوين، ليس منها (أصداء وأنداء) المنشور.

وأصدقك القول: إن النية لنشره موجودة، ولكن الأسباب لا تُعين، هذه ناحية، والناحية الثانية: أني أرى أن المؤلفات الأخرى أولى من الشعر بالنشر، ومع ذلك فعندي الكثير منها مما ينتظر النشر.

* لم نقرأ لكم شعراً غزلياً فيما نشرتم من قصائد بالمجلات، فهل تتجنبون نشر هذا الجانب الذي نشرتم طَرَفاً منه في القسم الخامس من ديوان (أصداء وأنداء)؟

- القسم الخامس من ديوان (أصداء وأنداء) من باب ما تسأل عنه، كما تشيرون، وأزيدك أن هذا اللون من الشعر هو أوفر ما عندي. وما دمتُ صادقا في قولي -أو متخيلاً، ولكني غير متجن- فإني لا يعنيني مطلقا ما قد يُقال عن شعر الغزل؛ لأني أرى أولا أن من حق الإنسان إعطاء مشاعره الذاتية حقَّها، و ثانيا أن الإسلام لا يرفض مثل هذا الإبداع مادام خاضعاً للانقياد لمفاهيم الإسلام، أعني أنه لا يُناقضها، ولا يأتي بما يُعارضها، وإذن فمن حق الشاعر أن يتغزل، كما أن من حقه أن يفخر، وأن يرثي، وأن يمدح، وأن يهجو.. إلخ، ولكن شعره في هذه الحال لا يُعدُّ شعر جهاد. وهذا خلاف ما إذا خدم الإسلام بشعره، فإن شعره يكون حينئذ شعر جهاد.

* عارضتم نونية ابن زيدون في ديوانكم (أصداء وأنداء) أكثر من مرة، وقد هاجم أحد الشعراء السعوديين المجددين هذه القصيدة مؤخراً، وكتب في مقال نشرته (الأدبية): إنها قصيدة (فارغة) إبداعياً، ما رأيكم في هذا القول؟

- أولاً: ذلك الهجوم الذي تُشيرون إليه، قد رددت عليه بمقالة أحسب أن عنوانها كان (غباء الأساتذة) -إن لم تخُنِّي الذاكرة- ولا أريد الآن إثارة هذا الموضوع من جديد.

ثانيا: أما لماذا عارضت ابن زيدون، فلثلاثة أمور؛ أولها: أنت تعلم -كما يعلم جميع العارفين- أن ابن زيدون من شعراء الجمال.

ثانيها: أن هذه القصيدة قد أشاد بها كثيرون من ذوي الرأي الصائب، وما كانوا ليشيدوا بها لو لم تكن جديرة بذلك.

ثالثها (وهو الأهم): أني مُقتنع تماماً بأن هذه القصيدة من الروائع الفريدة في الشعر العربي، فإذا تركت أثرها على أي شاعر قصد إلى المعارضة أو لم يقصد إليها - فليس بعجيب أن ينقاد ذهن الموهوب وقلبه إلى صنيع الموهوب.

* للشعر الصوفي درر خالدة، وفيه إبداع جميل؟ فما رأيكم في هذا الشعر، وفي مدى قدرته على التأثير الفني في العصور المختلفة، وفي عصرنا؟

- الواقع أنه ما من عمل أدبي يبدعه مبدع إلا ويكون له سهم في التأثير، والشعر الصوفي بخاصة عند كثيرين من فحول المتصوفة هو لون من الإبداع الأدبي الجميل جدا في شكله: في اللفظة، والأسلوب، والصورة الفنية.

لقد قدّم المتصوفة روائع في هذا، ولكن الذي يشين هذا الإبداع عندهم هو هذا الفكر الإلحادي الحلولي عند بعضهم؛ فلو أنك قرأت قصائد ابن عربي -وأحسبك قد قرأتها- لوجدت فيها من الصور الجمالية ما يفتقر إلى مثله كثير جدا من إنتاج من يُعرفون بالفحول في شعرنا العربي على امتداد عصوره، ولكن إذا نظرت في مضامينها وجدتها فاسدة.

وكما تعلم أن العمل الأدبي إذا انهدّ ركن من ركنيه فسد، وهذان الركنان هما: الشكل والمضمون، أو اللفظ والمعنى.

إذن، فالشعر الصوفي شأنه من حيث التأثير كشأن جميع الشعر تماماً، إلا أنه قد يُؤثر تأثيراً سلبيا بأن يكون عامل تدليس على بعض العقول غير الواعية، وغير المدركة لنزعات المتصوفة المنحرفين.

على أن بعض رواد الحداثة -إن لم يكن جميعهم- قد اتخذوا من الاتجاه الصوفي مُلهماً لهم في كثير من الأمور المشينة، مثل: تدنيس المقدس، وتقديس المدنس، وأنت تعلم صنع صلاح عبد الصبور في مسرحيته (مأساة الحلاج).

* ما دام هذا رأيك في الشعر الصوفي، فلماذا لم تكتفِ بالإعجاب، وكتبت كتابك (الشعر الصوفي إلى مطلع القرن التاسع للهجرة)؟

- إن الهدف الأول والرئيس في تأليف هذا الكتاب هو تصحيح المفاهيم التي تخلط بين الزهد والورع، والإلحاد والحلول، والقول والارتزاق. ولذلك تجدني قد قسّمت المتصوفة في آخر هذا الكتاب إلى أربعة أقسام: زهاد ورعون، وملحدون حلوليون، ومتوسلون، ومرتزقة.

* بمناسبة حديثنا عن الشعر يقول بعضهم: (خيار القصيد قصاره) فما رأيك في هذا؟ وهل أنت من أرباب المقطّعات أم من أرباب المطوّلات؟

- لست أدري للقصر ولا للطول شأناً في الحسن أو عدمه، بل الإحسان راجع إلى الموهبة والطبع، ومبلغ تغذية هذه الموهبة بالثقافة والمران، ثم ما للموقف -وإن شئت فقل الباعث على النظم- من شأن في ذلك، فهو الذي يُملي على الشاعر الإطالة أو عدمها.

وأنا لست من أصحاب المقطّعات، كما أني لست من المكثرين من المطولات، وإن جاوزت بعض من قصائدي مائتي بيت.

* طالت صحبتك مع الشعر العربي من الجاهلية إلى يومنا هذا قراءةً ودرساً، فمن أقرب الشعراء إلى نفسك؟ ولماذا؟

- أنا أميل إلى شعر شوقي؛ لأنه صادق مع نفسه، ومع قارئه؛ ولأنه - أيضا- شاعر الجمال غير المصنَّع، وإن شئت فقل غير المجلوب على حد قول المتنبي في وصف جمال البادية مقابلاً في ذلك بوصف جمال الحضر، وذلك في قوله: حسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ وفي البداوةِ حُسنٌ غيرُ مجلوبِ ثم إن شوقيا نادر الإسفاف، سامي المقاصد، مخلص في حبه وكرهه، صادق في هجائه ومدحه، أصيل في فنه، مؤثر بأسلوبه وعاطفته، لا تكلف عنده ولا تصنع، غزير الثقافة حتى ليبدو لك وأنت تقرأ إحدى روائعه أنه يُعدُّ لها قبل النظم ويحتفل بموضوعها قراءةً وفهماً. لهذا وسواه مما لم أذكره هو الشاعر الأثير عندي، وأرى -رغم كثرة ما كُتب عنه- أنه الشاعر الذي لم ينل ما يستحق من أقلام الكاتبين.

لقد دُرِست جوانب من شعره كالدين والأخلاق والوطنية والنزعة الإسلامية، والتدين والمجون، والمناسبات، والمسرح، وتُرجِم له، وجُمع شيء مما لم يُجمع من أدبه شعراً ونثراً، وبقيت قضايا أُخرى لم تُطرقْ بعد. لذا فنحن في حاجة إلى مؤلف يُلملم هذه المؤلفات والبحوث، ويطرق ما لم يُطرق ليخرج لنا بموسوعة تليق بمقام هذا الشاعر المتميز.

* نسألكم أخيراً: ما الفرق بين التجديد في الشعر والحداثة؟

- جرى الباحثون على إطلاق لفظة (المولدين) على شعراء العصر العباسي، ويسميهم بعضهم بالمحدثين، وقد عقد ابن رشيق في كتابه (العمدة في محاسن الشعر) باباً أسماه (المحدثون)، فذكر فيه أن كل أهل عصر من الشعراء يعدون بالنسبة لمن قبلهم من المولدين والمحدثين، وكذلك كان يقول أبو عمرو بن العلاء عن جرير والفرزدق وأمثالهما.

وفي هذا قال ابن قتيبة: (إن الله لم يقصر الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص قوما دون قوم، بل جعل الله ذلك مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره). فالتجديد إذن هو ما يحدثه المحدثون (بسكون الحاء وفتح الدال)، وهذا يعني أن كل إضافة يأتي بها المحدث تعدُّ تجديداً. وهذا التجديد قد يكون مقبولاً، وقد لا يكون كذلك. وهذا ما فصَّلت القول فيه في كتابي (تاريخ التجديد في الشعر)، ومنه الحداثة، فهي تجديد، ولكنه تجديد مرفوض.

ثم إن كثيرين من أشباه المثقفين، وربما بعض المثقفين يخلطون كثيراً بين شعر التفعيلة والحداثة؛ فيجعلون شعر التفعيلة من باب الحداثة، وليس الأمر كذلك. ذلك أن شعر التفعيلة في حقيقته محاولة لإيجاد إضافة جديدة إلى ضوابط الشعر العربي، وهي محاولة نتمنّى لها النجاح.

لذا فإن شعر التفعيلة ليس من باب الحداثة إلا إذا أُقحِم في مقاصد الحداثيين، فتكون الحداثة فيما جُعل وسيلة فيه، سواء أكان ذلك في الشكل أم في المضمون.

والحداثة عند أربابها من الغربيين مضامين، إلا ما كان من ذلك متصلا باللغة، كالذي يسمونه تفجير اللغة، ومنه ما يُسمُّونه تقديس المُدنّس، وتدنيس المُقدَّس.

والدكتور محمد مصطفى هدّارة -رحمه الله- في ذلك أحاديث طيبة، وأنت تعلم أن الحداثة عند أربابها من الغربيين تعني هدم جميع الثوابت ابتداءً بالدين، ومروراً بالنظم واللغة والعادات والتقاليد، ومثل هذا منافٍ لما نحن عليه من هذه كلِّها. وخلاصة القول في هذا أن كل محدَث تجديد، ومن التجديد ما هو مرفوض، ومنه الحداثة.

* قبلت شعر التفعيلة على أنه محاولة إيجاد إضافة جديدة، فها تقبل قصيدة النثر على هذا النحو ؟

- كلا، فالقصيدة النثرية ما هي إلا لون من ألوان العبث عند العاجزين.

* هناك من يرى أن مثل هذه الآراء رجعية، فبم تردُّ عليهم؟

- تعجبني كثيراً كلمة للدكتور طه حسين قالها في أحد أحاديثه الإذاعية المسجلة -وهو يتحدث عن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة واللغة العربية والتراث -وهي: (أما أنا فلا أكره أن أكون محافظاً ولا أن أكون رجعيا، بل أؤكِّد لكم أني لا أكره أن أُضحِّي بكل شيء في الحياة، وبالحياة نفسِها، في سبيل المحافظة على هذا كلِّه، وفي سبيل المحافظة على اللغة التي يُؤدَّى بها هذا كلُّه).

هذه ناحية، والناحية الأخرى هي أن لكل جنس أدبي ما يميزه عن الأجناس الأدبية الأخرى، أما ما تشترك فيه الأجناس الأدبية أو بعضها فقدر مشترك لا يُميز بعضها عن بعض؛ كالعاطفة والخيال والتصوير الأدبي والموسيقا الداخلية وبعض من الموسيقا الخارجية.

والكلام في هذا قد يطول وهو نقطة الاختلاف بيننا وبين بعضهم، وهذا ما أوضحت رأيي فيه في بعض مما ألفت، وأنت تدري ذلك جيدا.

* لكم عدة كتب عن الأدب الإسلامي، فهل لكم رؤية تختلف عن رؤية رابطة الأدب الإسلامي العالمية لهذا الأدب، وكيف يقوم هذا الأدب بدوره؟

- سؤالك هذا من شقين، وكذا يكون الجواب عليه:

أولاً: لا خلاف بيني وبين إخواني من أعضاء الرابطة على أصل القضية وهدفها، فنحن جميعاً متفقون على نصرة هذا الأدب وإذاعته في الناس والدعوة إليه، وأنه لا بديل له في ميدانه، وأحسب أن هذا كافٍ لأن يجمعنا على هذا السبيل.

ثانياً: أما كيف يقوم هذا الأدب الإسلامي بدوره، فمن طريق تبني المبدعين في هذا الاتجاه، وهم كثر ولله الحمد، وإبداعهم وافر وشامل لجميع الأجناس الأدبية، وأنت تعرف ذلك؛ لأنك منهم. ومنهم على سبيل المثال: الدكتور محمد بن سعد الدبل، والدكتور صابر عبد الدايم، والدكتور عبدالله بن سليم الرشيد، وكثيرون جداً في جميع البلاد العربية والإسلامية.

* أنتم أحد أعضاء رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ولكم أكثر من خمسة مؤلفات في هذا الميدان، ويُذاع في الناس أنك ضد الأدب الإسلامي، فما جوابك على هذا؟

- لعلك لا تدري أني أول من حاضر عن (الأدب الإسلامي)، وكان ذلك في نادي جدة الأدبي قبل أكثر من ست عشرة سنة، وكان عنوان المحاضرة (الالتزام الإسلامي في الأدب) وهي التسمية التي أرتضيها، وقد طبع النادي هذه المحاضرة ضمن سلسلة محاضراته، وأحسبها منشورة في الجزء السابع من هذه السلسلة. أما هذه الفرية التي تُشير إليها فقد أطلقها ذو ضغن لقي ربه، فحسابه عليه.

وسؤالك هذا سألنيه طلاب الدراسات العليا في أكثر من عام، حين كنت أدرِّس لهم هذه المادة، أعني (منهج الأدب الإسلامي).

* أنت عضو في رابطة الأدب الإسلامي وعضو في رابطة الأدب الحديث، فكيف توفق بين صفتك في الرابطتين؟

- الذي أعرفه أن رابطة الأدب الحديث أشبه بجماعة أبولو، أي أنها تجمع سائر الاتجاهات والمنازع، من هنا فلا تنافيَ بين الانتساب في الرابطتين.

* ما أهم القضايا التي تختلف فيها مع أعضاء رابطة الأدب الإسلامي؟ وهل أذعت هذا فيهم؟

- القضايا التي أختلف فيها مع بعض إخواننا ثلاث عشرة قضية تبدأ بالمصطلح وشرحه وتفسيره، وتنتهي بمن يوصف بالإسلامي: الأدب أم الأديب؟ أم هما معاً؟ وتفصيل ذلك قد يطول، ولكني أورد لك مثالاً أو مثالين منهما، وأُحيلك فيها مجتمعة إلى ثلاثة من كتبي في هذا الميدان، وهي:

1-الأدب الإسلامي بين الواقع والتنظير.

2-الأدب الإسلامي عبر العصور.

3-قضايا في الأدب الإسلامي: وقفات تصحيحية.

أما ما وعدتُك به من أمثلة، فأولها: المصطلح وتفسيره.

فبالنسبة إلى مصطلح (الأدب الإسلامي)، أنا لم أكن بالراضي عن هذا المصطلح، وكنت أرى أن مصطلح الالتزام في الأدب الإسلامي أو (منهج الأدب الإسلامي) أكثر دقة، وأصح ملاءمة لما ندعو إليه.

وفي تفسيرهم مصطلح (أدب إسلامي)، قالوا: (هو التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة من منطلق تصور إسلامي)، وهذا في حقيقته إنما ينطبق على (أدب الدعوة).

أما (الأدب الإسلامي) فإنه أعم وأشمل، لكونه يشمل كل أدب قضى حق مشاعر الإنسان من غير أن يخرج على المفاهيم الإسلامية، أو يُصادمها.

و(الأدب الإسلامي على هذا النحو لا يُصادر المشاعر الخاصة للإنسان، وإنما يُوجهها، ويُرشدها.

إذن تفسيرهم التعريفي يحصر (الأدب الإسلامي) في (أدب الدعوة)، وهذا يُحوِّل الأدب إلى وعظ وحسب، والأدب له وظائف، الوعظ واحد منها.

الحق إذن هو: أن كل أدب دعوة أدب إسلامي، وليس كل أدب إسلامي أدب دعوة.

وهذا الموضوع مُحتاج إلى بسط، تجده فيما أحلتُكَ إليه، ووضع نظرية لـ(الأدب الإسلامي)، من تلك القضايا التي أختلف مع بعضهم فيها؛ ذلك أنَّ الإسلام قد وضع ضوابط عمل المسلم في ثوابت لا تتغيَّر ولا تتبدّل، وأيسر ما في البحث عن نظرية أنه يُسقط من حسابه تلك الضوابط، بل يراها غير صالحة، والله -سبحانه وتعالى- هو الذي وضع هذه الضوابط، فكيف تكون غير صالحة؟ وهل صنيع الناس أحكم من صنيع الرحمن؟! إن هذا لأمر عُجاب! وهذه القضية هي ما وقفتُ عليه كتابي (الأدب الإسلامي: بين الواقع والتنظير).

وأمّا بداية (الأدب الإسلامي) التي تذبذب فيها قول أحدهم حيث يزعم تارة أن بدايته كانت قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً، وتارة أخرى يرى أنها كانت في العصر العبّاسي، وينفي تفاعل الشعراء الصحابة -رضوان الله عنهم- مع روح الدين الجديد (الإسلام)، ويُفضِّل جلال الدين الرومي الشاعر الحلولي الملحد على حسان بن ثابت -رضي الله عنه-.

وهذا ما وقفتُ على نفيه في كتاب (الأدب الإسلامي عبر العصور)، ونشرتُ حول ذلك مقالة في مجلة (الرابطة، وردَّ عليها صاحب تلك الأقوال، فرددتُ عليه ردَّه فصمت.

وهناك واحد من كتبي هو أصغرها حجماً، وهو كتاب (قضايا في الأدب الإسلامي)، وقفته على جلِّ تلك القضايا التي أختلف فيها مع بعض إخواننا الذين ألتقي معهم في البحث عن الحقيقة، فاختلافنا ـ من هذا المنطلق -أعني البحث عن سبيل الحق- ولكنهم يأبون إلا الإصرار على أنَّ آراءهم هي الأصح.

هدانا اللهُ جميعاً إلى سبل الرشاد! ومن القضايا ذات الأهمية اتهام بعضهم نقادَ السلف بأنهم لم يُعيروا المعايير الدينية والأخلاقية اهتماماً في نقدهم، وأرى هذا قولاً غير صحيح؛ لكون أولئك النقاد قد أوْلوْا هذا الجانب من عنايتهم، وأقرب مثال على ذلك رسالة ابن الأنباري إلى ابن المعتز، الخليفة العباسي، وجواب ابن المعتز عليها، وشواهد كثيرة تجدها في (عيون الأخبار) لابن قتيبة، وفي (الموشح) للمرزباني، وكثيرٍ من كتب الأدب والنقد لرجال السلف.

ومن تلك القضايا (قضية اللغة)، وهي قضية لم تتضح في كثير من أفكار إخواننا فيما كتبوا، حتى إن بعضاً منهم لا يرى بأساً في إدخال الألفاظ العامية والأعجمية في صياغة الأدب الإسلامي، ولستُ أرى هذا صواباً، بل أرى أن أي أدب لا يُصاغ باللغة العربية ليس بأدب إسلامي؛ لأن لغة الإسلام واحدة ، وهي لغة القرآن الكريم.

ومن هنا فإن ما يكون مستقيماً من أدب إخواننا من غير العرب هو إسلامي في مضمونه لا في شكله، والشكل أحد ركني الأدب، فتخلفه يُفقد الأدب واحداً من ركنيْه. وعلى أية حال فوقفة مثل هذه لا تتسع لما حمّلته كتباً ومقالات وبحوثاً.

* يقولون: إنك والدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله- كنتما أشدَّ المعارضين للأدب الإسلامي، وأنت اليوم من دُعاته، ومن أعضاء رابطته، فما تفسيرك لهذا التناقض؟

- أنا مازلتُ على موقفي أنا وأستاذنا الدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله- ؛ لأن موقفنا لم يكن معارضةً للهدف، وإنما هو معارضة لفكرة كانت قائمة، وكان يدعو إليها الدكتور عبد الرحمن الباشا، وهي أن الأدب الإسلامي شيء مُقابل ومُعارض للأدب العربي، وهذا الاتجاه إذا كان لا يزال قائماً في أذهان بعضهم فإني مازلتُ أعارضه، وبشدة.

وأحسبك لا تدري أن الباشا كان يُنادي بتأسيس قسم (الأدب الإسلامي) إلى جانب قسم الأدب في كلية اللغة العربية بالرياض، ولذلك كان السؤال الذي يردده أستاذنا الدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله- هو: (هل أدبُنا العربي أدب كُفَّار؟!)، وهو سؤال إنكاري مُحِق.

* أصدرتم كتاباً عن (أصحاب البصائر)، توقفتم فيه أمام بعض الشعراء منهم، مثل بشار بن برد، والصاوي شعلان، ومحمد العلائي... وغيرهم، فهل ترى أن إبداع الشعراء من ـ أصحاب البصائرـ يتماثل مع إبداعك؟

- العمى ليس بقضية يمكن أن يُتَّخذ موقف منها، وإنما هو قضاء وقدر علينا التسليم به والصبر والاحتساب.

* علمت منكم -سابقاً- أنكم قد كتبتم في فصول كثيرة سيرة حياتكم، أو السيرة الذاتية لكم، فهل تشير إلى صفحة مجهولة من سيرتك في هذا اللقاء.

لقد درست الماجستير والدكتوراه في مصر (في كلية اللغة العربية ـ جامعة الأزهر)، فهل لك أن تحدثنا عن شيء من ذكرياتك مع الأساتذة؟

- الحديث عن تلك الذكريات طويل، شغل في مذكِّراتي صفحات كثيرة، لكني أروي لك واحدة منها: في الأزهر امتحان شفوي في نهاية كل مرحلة من مرحلتي الدراسة التمهيدية للماجستير يسمونه (التعيين)، وفي اليوم المحدَّد لذلك الامتحان، كنا نقف أمام الغرفة، وأحسب عددنا كان يربو على العشرين.

وكنتُ أسمعُ بالدكتور أحمد الشرباصي -رحمه الله- وأقرأ له، وأتمنّى أن ألقاه، فقدَّر الله أن يكون أحد الممتحنين في التعيين، فاستشرفتُ للقائه، وإذا به يُناديني: أين ابن حسين؟ قلتُ: نعم، قال: (تعالَ فعندنا لك نار تُخرج رائحةَ لحم الجمل)، وبدون تفكير قلت له: (وعندي لك من مثلها يُخرج رائحة لحم الفسيخ)! وكان ابني معي - وكان صغيراً- فقال له الشيخ: ارجع، فقلت له: إنه ابني، فقال: وإن، قلتُ: انتظرني يا بني، فأمرُ الشيوخ مُطاع.

ودخلت. ويبدو أن الشرباصي قال في نفسه: هذا أعمى، فلا بد من أن يكون نكداً كطه حسين.

ابتدرني بالسؤال: هل أنت متزوج؟، وكنت متوجساً منه أمراً غير عادي، فقلت: وهل أنت باحث اجتماعي؟ ثمَّ هذا الذي منعتَه من الدخول من أين أتى؟ أزرعتُه؟ وكان العضو الثاني هو الدكتور أحمد الشعراوي -رحمه الله- وكان مهذباً، ثم إنه لم يوجِّه إليَّ أيَّ سؤال، بل تولَّى ذلك كله الشرباصي.

كان السؤال الأول عن تأثر الأدب العربي في العصر العباسي بالآداب الأخرى، ولم يكن هذا في صفحات التعيين في كتاب (زهر الآداب) للحصري، ومع ذلك أجبت عنه ، ثم أخذ يزحف بي في أسئلته في تاريخ التأثر إلى الوراء حتى وصل إلى العصر الجاهلي، حيث وجّه إليَّ هذا السؤال: حسان بن ثابت جاهلي أم إسلامي؟ وكان صبري قد نفد، فقلت له: يا شيخ، هذا سؤال لا أطيق الجواب عليه، فادعُ لنا الحارس الذي على باب الجامعة ليجيبك عنه!! فقال: أتهزأ بي؟ قلت: أنت الذي سخرت بنفسك.

وكان الشعراوي قد أحس بحرج الموقف فدعا الخادم، وبعد لحظات أتى بالقهوة، وانطلق بي الشرباصي يجول في قضية الانتحال، وكنتُ قد أعددتُ فيها بحثاً للمؤتمر الأول للأدباء السعوديين، إلى كوني أدرِّس الأدب الجاهلي في الكلية فلم يجد عليَّ مدخلاً.

ولعلَّك تسأل عن هذه الجرأة فأقول لك: إن لهذه أسباباً ليس هذا مقامها لطولها.

وفي السنة الثانية كان الشرباصي يُدرِّس لنا تاريخ الأدب، ولذلك حكايات طوال، منها أنه في أولى المحاضرات كان يسألنا عن مراجعنا اللغوية، فذكر أحدهم (المنجد)، وآخر (القاموس المحيط)، وهكذا.

وكنتُ في ذلك اليوم اشتريت (اللسان)، فقلتُ حين سألني: (لسان العرب)، فقال: أبت الدراهم إلا أن تُخرج أعناقها، فقلتُ: أتُريد منها شيئاً يا شيخ؟! فسكت.

على أنه فيما بعد كان يقول للطلبة: ابن حسين هذا أتى لأخذ الشهادة (جواز مرور)، وإلاّ فهو ليس بحاجة إليها، وكنت أقول في نفسي: هلا كان ذلك منذ البداية؟

* بعضٌ من مقالاتك تكون لها أصداء عجيبة، ومنها مقالتك في (المجلة العربية) التي نشرت في عدد شوال 1418هـ بعنوان (ماذا لو كنت مبصراً؟) فما تعليقك على هذا؟

- ولماذا بعضها -أصلحك الله-؟ ولعلك لا تعلم أنه قد وصلتني رسائل كثيرة من داخل البلاد ومن خارجها، ومنها ما هو من بلدك (محافظة الشرقية، بمصر)، ومنها ما هو من الأقصر، وأكثرها من الإسكندرية ودمشق وغيرها من بلدان المشرق والمغرب العربيين.

والعجيب في ذلك أن جل هذه الرسائل تشتمل على نصح وإرشاد ودعوة إلى التسليم بالقضاء والقدر، وهذا يعني أن هؤلاء لم يفهموا مقاصد الكلام في المقالة. على أن كثيرين كانوا ينطلقون في رسائلهم من فهم واعٍ، ورسائلهم كانت تعبيراً عن استحسان.

وعلى أي حال فأنا قانع بالاستحسان في بعض تلك الرسائل، ولجميعهم الشكر، وقد أجبت عن كل رسالة، وهذا أيسر حقهم عليَّ.

* نشرت مجلة (الحرس الوطني) فصولاً من مذكراتك في أربع حلقات، فهل ذلك هو كل ما يمكنك قوله عن موقفك من الشعر ؟

- كلا، ولكنه شيء من سيرتي معه.

* ما الكتاب الذي تتمنّى أن تؤلَّفه؟

- هو الذي لم أكتبه.

وعلى أي حال فالموضوعات هي التي تفرض نفسها، والتأليف -فيما أرى- ليس بأمنية، وإنما هو نية وعمل.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة