Culture Magazine Monday  26/11/2007 G Issue 224
أقواس
الأثنين 16 ,ذو القعدة 1428   العدد  224
 

عبدالله يوركي حلاق:
وتذكرت لقائي الوحيد معه..

 

 

وجاءتني دعوة من الشمال مثل نسيم الربيع وروحه وريحانه تحمل الإعلام بتحديد موعد الاحتفال بالعيد الماسي لمجلة الضاد التي مضى على إصدارها خمسة وسبعون عاماً..هكذا أقول (عاماً لا سنة) لأن السنة تضرب للجدب والعام ينسب إلى الخصب، ومجلة الضاد منذ غرست دوحة عطاء وخصب لا قحط وجدب.

لا أريد أن أتفلسف وأتحذلق وأنا بين يدي مجلة حافظت على نهجها واستمرت في سيرها وسيرتها الأولى ..بدأت معرفتي بالضاد عبر أعداد قديمة صدرت عام 1958م لا أتذكر كيف حصلت عليها ولا أين صادفتها ولقيتها؟ (إنها مثل الربيع لا تعرف من أين أتى) تخطفت تلك الأعداد الجميلة وصرت أكرر مطالعتها والرجوع إليها، تعرفت عبرها إلى أسماء لنجوم مضيئة في سماء الأدب والفكر والفن والشعر في ديارالشام خاصّة ودنيا العروبة عامّة أمثال الأدباء والشعراء الكبار: بشارة الخوري والقروي وعمر أبو ريشة, والمعلوف, وجاماتي, والبهاء الأميري, وسامي الكيالي, وعبد الكريم اليافي وغيرهم...كان شكل المجلة وطريقة رسومها وإطارات صفحاتها وتناسق ألوانها وصور كتابها وانسجام إخراجها محل إعجابي واندهاشي يوم كنت حديث العهد بالأدب واتخذت منها مطمحاً وأملا ًوصرت أمني نفسي لو تبسم لي الزمان وضحك الدهر وورثت فجأة (كبعض الناس) لأصدرت مثلها. ولا أزال أتلمّظ تلك الأماني وأرجو أن يتحقق ذلك الحلم.

(وهكذا أحلام الأدباء وأمانيهم لا تبتعد عن هذه الأشياء وهذا يدل على سذاجة بعضهم ومزاجيتهم ومحدودية مطامحهم),صرت أسعى لجمع بعض الأعداد القديمة من المجلات الجادة المفيد: أخفيها من عبث الأيدي كأنها كنوز من ذهب لا قراطيس تحوي الشعر والأدب!

وكلما زرت سورية أحزم وأكاد أعزم على التوجه إلى حلب لرؤية مقرّ مجلة الضاد ولقاء رجل تبتل في محراب الأدب اسمه(عبد الله يوركي حلاق) للتعرف به والجلوس بين يديه لأنقل له إعجابي بإصراره واستمراره في إصدار مجلة أدبية جادة في زمن انصرف الناس فيه عن الأدب الحقيقي إلى التزييف والإسفاف والدجل والاستخفاف.. مع الأسف.

وشاء الله ويسر في إحدى المرات وتوجهت صوب حلب دخلتها نهاراً والناس ضحىً يكسبون وشعرت بسرور داخلي خفي وبشيء يمشي معي إنها أمنياتي القديمة استيقظت فجأة لأني على موعد مع مدينة منذ وعيت الحياة وأنا اسمع بها في الكتب والمجالس والحياة والمدارس.

إنها حلب التي ُألّفت فيها مئات المجلدات, وقيلت عنها آلاف القصائد والأبيات, وحنّت لها الملايين من العرب والمستعربين، يا الله أهذه حلب؟ أجل هذه التي كانت مهوى أفئدة الشعراء ومناط رجاء الشعوب والزعماء يوم كان الناس ناساً وما بهم من بأس.

مشيت في شوارعها وسرت في أزقتها ووقفت على آثارها من أربطة وقلاع وخانات ودور وعاديات وقصور وجنات أخرَجت للدنيا ولداناً وحورا. وجاء المساء فأويت إلى نزل قريب اسمه فندق (البولمان) ألتمس فيه الراحة بعد تعب وأبتغي الهدوء بعد صخب, وفي اليوم التالي بكّرت بزيارة جامعة حلب القريبة من الفندق وصادف وجود معرض للكتاب فيها تجولت في جنباته قليلاً ثمَّ اتجهت لمقابلة الدكتور (خالد الماغوط) مدير معهد التراث العربي، سمعت منه الكثير عن مشروعات علمية وأشواق مستقبلية لتحقيق الكثير من الأماني والرغبات رحمه الله.

خرجت منه وسعيت إلى مقرّ مجلة الضّاد وقابلت عميدها ومؤسسها الأستاذ والشاعر عبدالله يوركي حلاق رحمه الله ,كان مقر المجلة القديم بمنزل الأستاذ الحلاق وهي دار من دور حلب المبنية بالحجارة، استقبلني في مكتبته العامرة وسط آلاف الكتب ,عبّرت له عن إعجابي بالضّاد واستمرارها, وبعصاميته وكفاحه وصبره على الوفاء والبقاء والبذل والسخاء في سبيل الأدب والشعر والفن والحياة. شرَّق الحديث بنا وغرَّب واتخذ سبيله في الأرض سَرَباً، قام وأهداني أحدث دواوينه وطلبت أن يتلطف بالتقاط صور معه للذكرى لا أزال أحتفظ بشىء منها، سألني عن النشاطات الأدبية في السعودية ومسيرة المجلات الثقافية الفردية لا الحكومية وتمنى للثقافة النهوض والازدهار وهكذا جرى الحديث مع عميد الضّاد رخاء حيث أصاب.

غادرت مقرّ المجلة ودارها وأنا أتعجب من هذا الإنسان المثابر الصابر وإصراره على إصدار مجلة شهرية تعنى بالأدب والعلوم والاجتماع.

وقد تذكرت وأنا أتحدث معه مجلة المنهل السعودية ومقرها في منزل المرحوم الشيخ (عبد القدوس الأنصاري) بمدينة جدة حي الشرفية القديم وزياراتي المتكررة له ومزاجه الهادئ وحرصه -رحمه الله -على إصدارها بانتظام والعناية بها وتحرير أكثر موادها وأهم أبوابها. (وهكذا الأدباء الكبار وأصحاب الرسالات الخالدة)، لقد مضى على المنهل أكثر من سبعين عاماً ولا تزال تصدر تماماً كمجلة الضاد يقوم عليها الشباب من الأبناء والأحفاد يناصرهم ويشدُّ أزرهم أحيانا الصادقون من رجال البلاد.

وقبل مسك الختام أمسك بهذه الأبيات للعميد الضّاد الراحل عبدالله يوركي حلاق يدعونا فيها للادّكار والاعتبار والآن بعد خمسة وسبعين عاماً نحن نردد معه ونقول:

آثارنا أغلى هبات جدودنا تمضي الحياة وتخلد الآثار

وبعد ماذا أقول وماذا أدع فالحديث عن الكبار الذين مضوا أمثال الأنصاري والحلاق وتصديهم لمشاق الحياة وصمودهم في مواجهة التحديات يثير الإعجاب ويغري الكتّاب فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. هذه خطرات نفس وخواطر درس أوحت لي بها المناسبة العظيمة... فحيا الله ذكرى مؤسسها الراحل وشد في عضد خليفته الشاعر المبدع (رياض عبدالله حلاق) والعصبة الأدبية التي تعمل معه في صمت, وسمت, وإيثار, وتضحية, واختيار,بعيداً عن الضوضاء والأضواء والدعاوى الفارغة الجوفاء.

إن فقد الكبار رزء عظيم ليس فقد الرعاع والأرذال

الطائف - عصبة الأدباء


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة