Culture Magazine Monday  26/11/2007 G Issue 224
فضاءات
الأثنين 16 ,ذو القعدة 1428   العدد  224
 

ترجمة الشعر
ترجمة عبد الصبور قصائد الشاعر نفسها تكشف رداءة ترجمة الآخرين
كيف أطفأتْ ناديا شعبان وهج (لوركا) العظيم؟عبد المحسن يوسف

 

 

ومثلما فعل كامل يوسف حسين بقصائد (نيرودا)، فعلت ناديا ظافر شعبان بقصائد (لوركا) (وإن كانت ناديا - من وجهة نظري - أكثر تمكنًّا في اللغة من كامل)..

بدءاً أقول كان لقائي الأول مع شعر هذا الشاعر الكبير عبر بوابة السيدة ناديا التي لم ترق لي ترجمتها، بل إن ترجمتها هذه أحدثت لي صدمة قوية مع تجربة (لوركا)..

كنت في الجامعة، حينذاك، طالباً مشغوفاً بالقراءة وبمطالعة التجارب الشعرية المقيمة على (ضفاف الآخرين) وكنت قد قرأت مقتطفات متفرقة عن لوركا وحياته وموته الغامض العجيب، فصرت مشغوفًا به - خصوصاً وأنني لم أقرأ في تلك الفترة سوى نتفٍ قليلة من شعره منشورة هنا أو هناك، وعندما عثرت على (مختارات) من شعره ضمها جناحا كتاب طرتُ فرحاً، وكان الكتاب تحديداً بعنوان: (مختارات من لوركا)، وكان صادراً عن (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع) ببيروت، وتولّت أمر الترجمة ناديا ظافر شعبان..

في المساء عكفتُ على ما اعتبرته كنزاً، وكنت غير مصدّق أنني أجلس بين يدي (لوركا) - وهو الذي أطبقت شهرته الآفاق - طفقت أقرأ نصّاً فآخر، لكنني لم أعثر على ما كنت أعتقد جازماً أنني سوف أعثر عليه في هذه (المختارات)!!

وهنا سقطتُ مضرّجاً بخيبتي!! هل هذا (لوركا)؟! إذاً أين الوهج؟ أين نار الشعر؟ أين جذوتها العالية؟ ولأنني لم أعثر على ذلك في (مختارات ناديا) تحوّلَ فرحي إلى انطفاءٍ كئيب، وقادني انطفائي هذا إلى الشك في تجربة (لوركا)..

حين كنت أقرأ (قصيدة السوليا) - مثلاً - وجدتُ كلاماً ليس ذا صلة بلهيب الشعر وجمالياته العالية ولغته السامية:

(أرضٌ جافة

أرضٌ ساكنة

ليالٍ لا متناهية

ريحٌ في أشجار الزيتون

ريحٌ في الجبل)...

كما قرأتُ (قصيدة القمر - القمر):

(أتى القمر إلى المصهر

لابسًا تنورةً من ناردين!

الطفل يحدق به

يحدّق به

الطفل يسمّرُ بصره عليه)!!

لم أمض بعيداً في فضاء هذه القصيدة، توقفتُ غاضباً، ورحتُ أفتشُّ عن نصوص أخرى ربما تكون أكثر إدهاشاً وجمالاً من هذه، ولكنني لم أجد (لوركا) الذي في مخيلتي، (لوركا) الذي تحدّث عنه الكثيرون وكتبوا عنه أكثر!! (لوركا) الذي كوّنتُ عنه وعن إنتاجه الشعري صورةً باسقة!

شتمتُ في سري (لوركا) واعتبرتُ أن وراء الأكمة ما وراءها من فرط تكريسه!! ولم أكن بعيدا حينذاك عن عقلية أولئك الذين يعتبرون تكريس (لوركا) و(ريلكه) و(بودلير) و(بوسكيه) و(رامبو) و(إليوت) و(أدغار ألن بو) وسواهم محض (فخ) نُصِبَ ذات عتمة لجعل الشباب العربي أسيرا في وجدانه ومشاعره وعقله وتفكيره للغرب (المعادي) لأمة (الضاد) الشريف!! بحيث لا يرى إبداعا ولا جمالاً ولا فكرا إلا عند الغرب!!

لكن سرعان ما أدركتُ زيف هذا الهاجس، خصوصا عندما تسنى لي بعد هذه الواقعة (وأعني بها واقعة مختارات ناديا) بوقتٍ قصير، الحصول على مختارات أخرى للوركا وجاءت تحت عنوان: (لوركا... يرما وقصائد من شعره) وقد صدرت عن دار (الكاتب العربي للطباعة والنشر) في العام 1967 وقام على ترجمة نص (يرما)/ وهي مسرحية شعرية / وحيد النقاش، أما الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور فقد تولى مهمة ترجمة القصائد.. لقد أسرتني ترجمة هذا الأخير لشعر لوركا.. مثل (أغنية ماء البحر) و(منظر) و(الجيتار) و(حلم) و(الصبي الأخرس) وسواها.. لقد كانت لغة عبد الصبور مفعمةً بالبساطة والعفوية وكانت تتدفق بهدوء كما يتدفق ماء الجدول، كما كانت خالية من استعراض (العضلات اللغوية) - وهي عقدة مزمنة عند كثير من المترجمين العرب - كما كانت خالية من التكلف والفجاجة والسماجة والتواضع المخل بالنص الشعري..

بعد هذا توطدت علاقتي بما أنجزه عبد الصبور على صعيد الترجمة، خصوصا بعد أن قرأت ترجمته العذبة لقصيدة كفافي الشهيرة: (في انتظار البرابرة)، التي وردت في الجزء الثالث من أعماله الكاملة الصادرة عن دار العودة ببيروت.. وهنا، لابد من عقد مقارنةٍ سريعة بين ما أقدمت على ترجمته ناديا ظافر شعبان وما قام بترجمته صلاح عبد الصبور؛ لنلمس الفرق بين الترجمتين:

مثلاً تترجم ناديا هذا المقطع من قصيدة (موت انطونيوآل كامبوريو) للشاعر لوركا:

(دوت أصوات موت

قرب نهر وادي الكبير

أصوات عتيقة تحاصر

نبرة لقرنفل ذكر

شك في الجزمات

عضات خنزير بري

كان يثب في الصراع

كدلفين مغسول القفزات).

بينما يترجم الشاعر الجميل صلاح عبد الصبور المقطع نفسه، هكذا:

(رنت أصوات الموت

قرب نهر (الجواد الكبير)

واستدارت الأصواتُ القديمة

حول صوتِ قرنفلِ الرجولة

ووخزته الأحذيةُ كأنها عضاتُ خنزيرٍ بريّ

فكان يقفزُ في العراكِ بنعومةِ سمكة دلفين)

بنظرة يستطيع المتلقي الجيد أن يلاحظ أن المقطع الذي اقتطفته من ترجمة ناديا كان متعثرا، عباراته ليست مترابطة، ومفرداته تنطوي على خشونة لا تليق بلغة الشعر.. بينما حرص عبد الصبور في المقطع الذي اقتطفته له على أن تكون فقرات النص مترابطة وأن تكون الجمل والعبارات دالة على ما يحدث عبر أفعال (رنت، استدارت، وخزت....) فضلاً على أن مفردات عبد الصبور جاءت ناعمة، وغضة، وهي بهذا المجيء تأتي منسجمة مع لغة الشعر..

وتترجم ناديا قصيدة (منظر) هكذا:

(حقل الزيتون،

ينفتح وينغلق مثل مروحة..

فوق شجرة الزيتون

هناك سماء مهدّمة ٌ

ومطرٌ مظلم،

من شهاب باردة

يرتعش أسل وظل

على ضفة النهر

يتجعدُّ الهواء الرمادي

أشجار الزيتون

مشحونة بصراخ

سرب عصافير أسيرة

تحرّك أذنابها الطويلة جدا

في الجو المكفهر)..

بينما يترجم عبد الصبور القصيدة نفسها هكذا:

(حقل الزيتون الأخضر

يتفتح ويغلق كمروحة

وفوق غيضة الزيتون سماءٌ عميقة

ومطرٌ داكن من النجوم الرطبة

وعلى ضفة النهر ترتعش الظلمة

وأعواد القصب

ويتموج الهواء الرمادي..

وأشجار الزيتون مليئة بالصيحات

صيحات سرب من الطيور الأسيرة

تحرّكُ ذيولَها الطويلة)..

إذًا في أيّ من النصين سوف تلمس بعينيك وترى بأصابعك (تفاصيل) ذلك المشهد الذي التقطه (لوركا) بحبره الشعري الفاتن؟، وفي أيِّ نصّ منهما استطاع شعره أن يملأك وأن يملأ روحك وكيانك وأن يشعرك بجماليات (المنظر) وغواية الطبيعة في واحد من مشاهدها العذبة؟!

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة