Culture Magazine Monday  26/11/2007 G Issue 224
فضاءات
الأثنين 16 ,ذو القعدة 1428   العدد  224
 

قراءات في الأدب العراقي بعد الاحتلال:
رواية (قشور الباذنجان) لعبدالستار ناصر
عبدالرحمن مجيد الربيعي

 

 

1-2

كثيراً ما يتساءل المعنيون بالمحنة العراقية إن كان الأدب العراقي قد عبّر عن الذي يحصل. والجواب على هذا النوع من التساؤل هو نعم، حصل هذا ولكن بمقدار. ومن هم في داخل العراق رغم كونهم الأقدر على معرفة ما يجري فهم داخل المحرقة إلا أن الخوف يتلبسهم فيتحدثون عن كل شيء، ويندبون الخراب الذي حصل لكن من النادر جداً أن تسمى الأشياء بأسمائها، وربما كانت الأغنية (مثال حسام الرسام) والبرامج التلفزية من محطات أقيمت في القاهرة أو دبي أكثر جرأة (برنامج كاريكاتير من قناة الشرقية التي تبث من دبي) والبرامج السياسية واللقاءات من قناة الرافدين التي تبث من القاهرة هي الأكثر جرأة والأقدر على تسمية الأشياء بأسمائها. ولنتابع ما تبثه قناة الشرقية في أيام رمضان هذه من مسلسلات عدة.

أما في الأدب فبين يدي رواية (قشور الباذنجان) للقاص والروائي والناقد أيضاً عبدالستار ناصر، وهو رفيق مرحلة كاملة، بدأناها سوياً مع أصدقاء جميلين آخرين، بعضهم مازال حياً والآخر اغتاله الموت فجأة وأخذه منا. وأصبح من المتعذر على المرء أن ينطق كلمة (المرحوم) على أكثر الأسماء احتفاء بالحياة والكتابة والصداقة، كيف أقوله عن غازي العبادي وخالد الراوي، وأحمد المفرجي ولطفي الخيّاط ومحمد شمسي وعزيز عبدالصاحب وموسى كريدي وآخرين؟ أما الأحياء من رفاف البدايات تلك فمازالوا في عنفوان إبداعهم لا يأبهون لتراكم السنوات ولا لفيضانات الأحزان ورغم تناثرهم على خارطة هذا العالم من خالد الحلي (استراليا) إلى برهان الخطيب (السويد) إلى فاضل العزاوي (ألمانيا) إلى سركون بولص (أمريكا) إلى سامي مهدي الذي لم يغادر بغداده رغم ما فيها وما فيه، إلى حميد سعيد (عمّان)، إلى جمعة اللامي (الإمارات) وغيرهم.

أما عبدالستار ناصر فقد بكّر في الإقامة بعمّان هو وزوجته القاصة والروائية هدية حسين (منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي) وفي عمّان تفرّغ للكتابة فكتب ونشر عدداً من الكتب بين رواية ومجموعة قصصية وسيرة أدبية وكتابات في النقد. وهكذا أصبح في رصيده قرابة الثلاثين كتاباً.

وقد مرّ عبدالستار ناصر بتجربة اعتقال انعكست على كل حياته. حصل له هذا بعد نشره قصة قصيرة بعنوان: (سيدنا الخليفة) كانت صرخته في رفض ما أمر به محافظ (والي) بغداد وقتذاك بدهن أرجل الفتيات اللواتي يرتدين (الميني جيب) موضة تلك الأيام، وكان رجل الشرطة يحملون علب الدهان ويجرون وراء الفتيات في الشوارع وهنّ خارجات من مدارسهن أو من أعمالهنّ حتى تحول ما يجري إلى مشهد نادر يجمع بين الرعب والكوميديا نظراً للمفارقات الكثيرة التي حصلت فيه.

وأمضى عبدالستار عاماً كاملاً في السجن الانفرادي دون أن يعرف عنه أنه ذو علاقة بحزب سياسي من أحزاب البلاد.

هذا الموضوع ألحّ على عبدالستار فكتب عنه كثيراً، أعاد كتابته في أكثر من عمل دون أن يكرره، وها هو يعود إليه من جديد في روايته: (قشور الباذنجان) التي امتدت أحداثها إلى مرحلة ما بعد الاحتلال لتقدم شهادة إبداعية عن الذي جرى للعراق والعراقيين بعد الاحتلال.

في هذه الرواية أحداث كثيرة تبدأ ببطلها ياسر عبدالواحد الذي أطلق سراحه من اعتقال دام عاماً كاملاً، وحاول أن يتناساه وما جرى له فيه حتى جاءه شخص ويحدد تاريخ هذا المجيء (جاءني قبل التاسع من نيسان بسبعة شهور) وكان هذا الشخص في الستينيات من عمره وطلب من ياسر عبدالواحد أن يعفو عنه ويسامحه: (أنا آسف على ما فعلته بك، اعتذاري لا يكفي، وأي تعويض عمّا جنيت لا يكفي، أريدك أن تسامحني، بارك الله فيك، ولك الحق في أن تفعل بي ما تشاء، حتى إذا شئت أن تذبحني).

لكن ياسر عبدالواحد لم يعرف هذا الرجل المتوسل حدّ ذرف الدموع.

وراح الرجل يحدثه عن أيام اعتقاله وما عاناه، وراح يذكرّه بتلك التفاصيل التي مرت به وأراد تجاوزها بالنسيان.

كان الرجل يقف عند عتبة الباب ولم يسمح له ياسر بالدخول، وقد أربكه ما سمع منه لذا قال له: (تعال في وقت آخر.. أرجوك).

ثم يعود ليتذكر ما مرّ به، كأن قدوم هذا الطارق الغريب قد نكأ جراحه النائمة القديمة.

وكان ياسر يعيش وحيداً مع أخته الأرملة (سلاف).. وأنصت لحديث الرجل الذي غاب ليعود بعد أربعة أيام، وأراد أن يطرده لكنه توسله بأن يسمح له بالدخول، فسمح له بذلك.

ثم نطق الرجل وكان في حالة يقظة ضمير، وقال: (لا تجزع، ما سأقوله لك الآن هو نفسه ما حطمني، وليشفع لي الله يوم الحساب، لكنني أريدك أنت أن تشفع لي، فقد أخطأت بحقك أكثر من سواك).

وكان ياسر قد بدأ يتعرف عليه من صوته، فكيف ينسى الضحية صوت جلاده؟ وقد جاءه يعرض عليه مبلغاً كبيراً من المال (وقد مرت عشرون سنة على الاعتقال) أما السبب فهو: (عساني أخفف بعض ذنوبي).

وقد أثار هذا استغراب ياسر الذي قال له: إن هناك العشرات من فعل بهم مثل ما فعل به فهل يدور على بيوتهم كلها ليطلب الصفح ويقدم الأموال. لكنه ردّ أن (البعض منهم مات تحت يدي!)، ووسط دهشته يصرفه ويطلب منه أن يغادر.

ويستطيع عبدالستار ناصر بلغته الشعرية الدافقة أن يصف حالة بغداد ومحلاتها الشعبية خاصة، ونذر الحرب قادمة وإلا لما انكسر هذا الرجل وعاد إلى نفسه ولم يبق له إلا البحث عن الذين كانوا ضحاياه ليطلب منهم أن يعفوا عنه.

استعرض ياسر في تطوافه الذي لا هدف له بعض ما رآه وتأكد له (أن جدار الخوف يتساقط على غفلة من الشرطة وميليشيات القتل، نقرأ على الحيطان كلاماً لم يكتبه أحد من قبل).

وياسر عبدالواحد قرف من أيامه ومما هو عليه، ولذا يتفجّر بحنين صاف إلى كل ما مضى حتى إلى أيام الملك ومن حوله، إلى محلته (سوق حمادة) إلى أصدقاء تلك الأيام، إلى الأب الذي كان يحمله أبناؤه الشبان على ظهورهم عندما يغرق الزقاق بماء المطر ويوصلونه للشارع العام. لأن الوضع الآن كما يراه معاكساً لما كان (الحياة لم تعد كذلك، صارت الناس تنهش أقرب المقربين إليها، وتكتب تقارير الموت عن الجار والصديق).

يقول ياسر -الذي تسرد الأحداث على لسانه- لنفسه وهو يدور في بغداد مفكراً في الجلاد التائب: (إذا ما رفضت، ماذا تراه سيفعل بي؟) بعد أن أرهقه البحث عن السرّ الذي (أرغمه على طلب السماح والغفران) وفوق هذا يعرض مبلغاً مالياً كبيراً؟!

- تونس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة